ميلاد الحركة الماركسية الروسية - رابوتشايا ميسل


آلان وودز
2015 / 7 / 21 - 11:02     

البلشفية طريق الثورة

الفصل الأول: ميلاد الحركة الماركسية الروسية

آلان وودز
ترجمة: هيئة تحرير موقع ماركسي

في تلك المرحلة لم يكن من الصحيح الحديث عن الانحراف "الاقتصادوي" باعتباره تيارا مكتمل الهوية. لكن هذه المناقشة كشفت عن وجود اتجاهات مقلقة وتيار انتهازي جنيني أقلق "المخضرمين"، الذين تأكدت أسوأ مخاوفهم مع ظهور "رابوتشايا ميسل"، التي صدر عددها الأول بسان بيترسبورغ في أكتوبر 1887. عبرت تلك الجريدة عن أفكار التيار الجديد بأكثر الطرق وضوحا وفظاظة. وقد أوضح العدد الأول موقف الجريدة حيث جاء فيه:


«طالما كانت الحركة مجرد وسيلة لتهدئة ضمير المثقف المعذب(!) فإنها استمرت غريبة عن العامل نفسه... لقد تم نسيان القاعدة الاقتصادية للحركة بفعل المحاولة المستمرة لتذكر المثل الأعلى السياسي... بقي العامل المتوسط خارج الحركة... كان النضال من أجل المصالح الاقتصادية هو النضال الأكثر حزما والأقوى من حيث عدد الأشخاص الذين يفهمونه ومن حيث الكفاحية التي يدافع بها الشخص العادي عن حقه في الوجود. هذا هو قانون الطبيعة. إن السياسة دائما ما تتبع الاقتصاد بلطف، وكنتيجة عامة تنقطع أغلال السياسة "في الطريق"*. النضال من أجل الوضع الاقتصادي(؟)، النضال ضد الرأسمالية في مجال المصالح الحيوية اليومية والإضرابات كوسيلة لهذا النضال، هذا هو شعار الحركة العمالية».[1]

الفكرة الأساسية التي تعرب عنها هذه السطور هي أن العمال لا يمكنهم أن يفهموا "السياسة" وليسو بحاجة إليها. والخلاصة المنطقية لهذه الفكرة هي أنه لا حاجة للحزب الثوري. إن ما يكمن وراء الدعوة الديماغوجية إلى استقلال العمال عن القيادة الفكرية هو، في الواقع، استقلال العمال عن الماركسية. إن الخطر الضمني لهذه الفكرة واضح، إذ لو تم القبول بحجج الاقتصادويين لتم إغراق الحزب بالفئات المتخلفة سياسيا من العمال. وبالفعل ففي الاجتماع الذي انعقد بين القادة الجدد لرابطة بيترسبورغ وبين لينين ومارتوف، عندما تمتعا بإطلاق سراح مشروط، في فبراير 1897، اقترح تاختاريف أن يتم قبول مندوبي النقابة (المجموعة المركزية للعمال) بشكل تلقائي داخل الرابطة. دافع لينين عن إدخال العمال إلى الحزب لكنه، في نفس الوقت، عارض إلغاء الحدود بين الحزب، الذي يمثل القطاع الأكثر تقدما من العمال، وبين المنظمات العمالية الواسعة، وخاصة في الوقت الذي كان فيه الحزب يصارع من أجل الوجود في ظل ظروف السرية الصعبة والخطيرة.

يلقى تيار الاقتصادويين بشكل عام، ورابوتشايا ميسل على وجه الخصوص، بطبيعة الحال، ترحيبا حارا في أيامنا هذه من طرف الصحافة البرجوازية المعادية للبلشفية، المستعدة لترويج أكثر الافتراءات وقاحة من أجل دعم أي تيار وقف ضد لينين. جوهر الافتراء هو تقريبا على النحو التالي: كان الاقتصادويون ديمقراطيين يدافعون عن "فتح الحزب" للعمال، في حين كان لينين متآمرا نخبويا وعازما على الحفاظ على القيادة في أيدي زمرة صغيرة من المثقفين الذين يهيمن عليهم هو نفسه. والمثال الكلاسيكي عن هذا هو كتاب أ. كـ. ولدمان: The Making of a Worker’s Revolution، والذي هو محاولة واضحة لاستخدام جدال الاقتصادويين عصا لضرب لينين. لكن للأسف "الحقائق أشياء عنيدة"، فبعد بحث حثيث اكتشف ولدمان أخيرا أنه كان هناك في الواقع عامل (واحد فقط) في هيئة تحرير رابوتشايا ميسل، بينما كان كل قادة رابوتشايا ميسل مثقفين من مجموعة تختاريف، انتهى المطاف بمعظمهم ليبراليين وأعداء شرسين للاشتراكية، وهو ما يفسر المعاملة المتعاطفة التي يلقونها في كتب التاريخ البرجوازية. كما اضطر ولدمان، ويا للمفاجئة! للاعتراف، في الصفحة 130 من كتابه، بأن «أنصار رابوتشايا ميسل، وعلى الرغم من سيطرتهم على القيادة، فشلوا في استقطاب ممثلي العمال إلى سويوز بوربي (رابطة النضال)، في تناقض صارخ مع التزاماتهم النظرية».

كما لم تسفر محاولتهم كسب ود "الجماهير"، من خلال ابتذال مستوى الخطاب معها، عن نجاح كبير. لا ينبغي لجريدة عمالية ثورية حقيقية أن تكتفي بأن تعكس الموقف الحالي والوعي الحالي للعمال، بل عليها أن تنطلق من المستوى الحالي للوعي وتعمل جاهدة على رفعه إلى مستوى المهام التي يطرحها التاريخ. وإلى جانب المواد التحريضية التي تتعامل مع الحياة اليومية ومشاكل العمال، ينبغي عليها أن تتضمن مقالات أكثر شمولية (الدعاية) وكذلك بعض المقالات النظرية. حتى ولدمان، المدافع المتحمس عن رابوتشايا ميسل، اضطر إلى الاعتراف بأنه «بعد بضعة أعمدة تصبح مملة تلك القصص التي لا نهاية لها عن "الاحتيال" و"الغش" من طرف أرباب العمل والعنف والاعتداءات من طرف رؤساء العمال [المراقبين]، والتي تتخللها تعابير صاخبة عن السخط»[2]. قد يشتري العامل مثل هذه الجريدة مرة واحدة أو مرتين، لكنه بعد أن يدرك أنها لا تعمل سوى على تكرار ما يعرفه بالفعل، وأنها لا تبذل أية محاولة لرفع مستوى فهمه أو لتعليمه أي شيء جديد، فإنه سوف يصاب بالملل حتما ويتوقف عن قراءتها. إذ لماذا ينبغي على المرء، في آخر المطاف، أن يشتري جريدة تخبره بما يعرفه بالفعل؟

المنظرون الفكريون لرابوتشايا ميسل، الذين حولوا بالكلمات العمال إلى صنم، أظهروا في الممارسة العملية احتقارهم لهؤلاء العمال من خلال تخفيض مستوى الجريدة، والتي كانت مجرد نشرة تمجد الإضرابات. في سياق رغبتهم في أن يوسعوا "شعبيتهم" ويصدروا "جريدة جماهيرية"، وضع الاقتصادويون أنفسهم في مؤخرة الطبقة العاملة، وهو ما اتضح خلال الإضراب الكبير في مصنع ماكسويل وبول شهر دجنبر عام 1898. فالعمال المضربون، الذين تعرضوا لقمع وحشي من طرف الشرطة، قرروا الدفاع عن أنفسهم. وقد أظهرت رسائل العمال، التي وصلت إلى أيدي الاشتراكيين الديموقراطيين، أن هؤلاء العمال هم أكثر تقدما وثورية مما كان الاقتصادويون يعتقدون. كتبت إحدى العاملات من منطقة فيبورغ ما يلي:

«لا تعرفون كم كان ذلك مخجلا بالنسبة لي ولنا جميعا. كانت لدينا الرغبة في التسكع في شارع نيفسكي [شارع الطبقة الراقية الرئيسي وسط بيترسبورغ] أو في المدينة. إنه لأمر مقزز حقا أن يموت المرأ في حفرة مثل الكلاب حيث لا يمكن لأحد حتى أن يراه... وهناك شيء آخر أريد أن أقوله لكم: على الرغم من أنهم اعتقلوا الكثير منا، وربما لم يتركوا أحدا، فإننا سنبقى صامدين». وقال عامل آخر: «من المؤسف أنه لم تكن لدينا لافتة. في المرة القادمة ستكون لدينا لافتة ومسدسات»[3]. رحب الفرع المحلي للحزب الاشتراكي الديمقراطي بهذا التطور وأرسل مقالا حماسيا لمحرري رابوتشايا ميسل في الخارج، لكن أعضاء هيئة التحرير في المنفى أرفقوا الخبر ببيان انتقدوا فيه العمال على تعريض أنفسهم للقمع. وعندما توصلت مجموعة سان بيترسبورغ بذلك العدد شعر أعضاؤها بالسخط إلى درجة أنهم رفضوا توزيع الجريدة لعدة أشهر.

في كتيب كريمر الشهير، حول التحريض، تم شرح العلاقة بين التحريض الاقتصادي وبين النضال السياسي بشكل واضح، حيث أكد على أنه «بغض النظر عن مدى اتساع الحركة العمالية فإن نجاحها لن يصير مضمونا إلا عندما تقف الطبقة العاملة بحزم على أساس النضال السياسي»، وأن «حسم السلطة السياسية هو الاختبار الرئيسي للبروليتاريا المناضلة... وهكذا فإن مهمة الاشتراكي الديمقراطي تتمثل في التحريض المستمر بين عمال المصانع على أساس الاحتياجات والمطالب الصغيرة الفعلية. والنضال الناجم عن هذا التحريض سوف يدرب العمال على الدفاع عن مصالحهم الخاصة ويزيد من شجاعتهم ويمنحهم الثقة في قواهم الخاصة وإدراك ضرورة الوحدة ويجعلهم، في آخر المطاف، يواجهون أسئلة أكثر جدية تحتاج إلى حل. إن الطبقة العاملة، التي تم تحضيرها بهذه الطريقة لخوض نضال أكثر جدية، ستتوصل إلى حل أكثر قضاياها إلحاحا».

لكن الاقتصادويين فسروا هذا بطريقة أحادية الجانب تماما. فقد حولوا التحريض الاقتصادي و"النضالية" المفرطة إلى دواء لكل داء وأعطوا للنظرية الثورية عمليا دورا ثانويا غير مهم. وبهذه الطريقة تحولت فكرة صحيحة إلى نقيضها، مما فسح المجال "لنظرية المراحل" المعادية للماركسية والتي صار لها، في وقت لاحق، تأثير كارثي بين أيدي المناشفة والستالينيين. كتب أحد الاقتصادويين (كريشيفسكي): «إن المطالب السياسية، والتي هي في طبيعتها مشتركة بين كل أنحاء روسيا، يجب أن تتوافق في البداية مع الخبرة المستخلصة من النضال الاقتصادي لشريحة معينة من العمال. فقط على أساس هذه التجربة يصير من الممكن والضروري الانتقال إلى التحريض السياسي».[4]

تعبر هذه السطور بشكل واضح جدا عن الطبيعة الانتهازية للنزعة الإقتصادوية، والتي تنبع من الرغبة في إيجاد طريق مختصر نحو الجماهير عن طريق تمييع البرنامج الماركسي والتخلي عن المطالب "الصعبة" بحجة أن الجماهير ليست مستعدة لها. كانت هذه الظاهرة في الجوهر مشابهة لسياسة "الإنجازات الصغيرة" التي كان الشعبويون الليبراليون ينادون بها. وكانت تنسجم تماما مع النزعة الانتهازية الجبانة للماركسيين الشرعيين، الذين كانوا في الواقع يمثلون الجناح اليساري لليبرالية البرجوازية. وكان المتضمن في أفكار الاقتصادويين هو الخوف من الدخول في مواجهة مع السلطات القيصرية، من خلال تجنب المطالب السياسية ومحاولة تقديم نشاط الحركة الاشتراكية الديمقراطية على أنها "علاقة خاصة" بين العمال وأرباب العمل في المصانع، تاركين مسألة السلطة السياسية للآخرين. في الواقع كان مضمون كل حجج الاقتصادويين هو أن الحركة الاشتراكية الديمقراطية يجب أن تكيف نفسها بشكل سلبي مع الحدود الضيقة للشرعية أو شبه الشرعية الممنوحة لها من طرف الدولة القيصرية.

من خلال حصر أنفسهم في المطالب الاقتصادية كانوا يأملون تجنب غضب السلطات. وبهذا المعنى كانت النزعة الإقتصادوية صورة طبق الأصل للموقف الذي اتخذته الحركة الماركسية الشرعية. كانت بمثابة التخلي عن النضال الثوري وتسليم قيادة الحركة إلى الليبراليين. لكن مثل هذه الخطة لم تكن لتنجح، فإذا كان الاقتصادويون على استعداد للتخلي عن السياسة في النضال الديمقراطي الثوري ضد القيصرية، فإن الدولة القيصرية لم تكن مستعدة، بأي حال من الأحوال، لتقف بمعزل عن الصراع بين العمال والرأسماليين، حيث تعرضت الإضرابات للهجوم من طرف الشرطة والقوزاق ونفذت موجات متتالية من الاعتقالات ضد أكثر الفئات نشاطا ووعيا داخل الحركة العمالية.

ووفقا لتقرير الوفد البلشفي إلى مؤتمر الأممية الثانية في أمستردام، سنة 1904، لم يكن متوسط أمد حياة المجموعات الاشتراكية الديمقراطية في روسيا في ذلك الوقت يزيد عن ثلاثة إلى أربعة أشهر. وقد اكتسحت الموجة المستمرة من الاعتقالات الأعضاء الأكبر سنا والأفضل تكوينا من الناحية النظرية والأكثر خبرة، وتم استبدالهم بشباب عديمي الخبرة وضعيفي الاستعداد. كان هذا الواقع عنصرا هاما في النهوض السريع للاقتصادويين خلال النصف الأخير من عقد التسعينيات. إن الحزب الذي يعاني من هذا النزيف الكبير والملزم بتجديد قيادته بسيل مستمر من الشباب عديمي الخبرة والسذج من الناحية النظرية، سيعاني حتما من انحطاط إيديولوجي معين وتراجع عام في مستواه السياسي. وعندما تكون الغالبية العظمى من هؤلاء الشباب من الطلاب والمثقفين، فإن خطر الانحطاط السياسي للحزب وتدفق الأفكار الغريبة إلى داخله يصبح أكبر ألف مرة. الحزب الثوري الذي يفقد كوادره يفقد عموده الفقري، وعندما يفقد بوصلته النظرية يزيغ حتما عن مساره. وبدلا من أن يتدخل في حركة الطبقة العاملة، من أجل توفير القيادة السياسية الواعية لها، يصير مثل هذا الحزب قادرا فقط على السير في ذيلها. كان للماركسيين الروس كلمة معبرة لوصف هذا الاتجاه وهي: خفوستيزم (Khvostism = الذيلية). وبينما تمثل الماركسية الثورية القسم الأكثر وعيا بين صفوف الطبقة العاملة، فإن الإقتصادوية وجميع التيارات الإصلاحية الأخرى تجسد القسم الآخر النقيض. لم تكن الإقتصادوية أبدا اتجاها إيديولوجيا متجانسا.

على الرغم من كل المشاكل والنكسات كانت الحركة الجديدة تنمو بسرعة. تأسست مجموعات اشتراكية ديمقراطية في تفير وأرخانجيلسك ونيجني نوفغورود وكازان وساراتوف وخاركوف وكييف وييكاتيرينوسلاف وأوديسا وتفليس وباتوم وباكو ووارسو ومينسك وريغا، والعديد من المراكز الهامة الأخرى. ولأول مرة صار من الممكن للمرء الحديث عن منظمة ماركسية لعامة روسيا حقا. لكن الوضع الذي اضطرت هذه المجموعات للإشتغال في ظله لم يكن مساعدا على الوضوح الفكري والتماسك التنظيمي. كانت الاتصالات بينها صعبة وغير منتظمة وكانت تتعطل باستمرار. كانت الاعتقالات تؤدي، في كثير من الأحيان، إلى تحطيم بعض تلك المجموعات وظهور أخرى جديدة. وفي ظل هذه الظروف بدت مهمة إنشاء قيادة ثابتة وفعالة داخل روسيا شبه مستحيلة. وبشكل حتمي مالت تلك المجموعات الاشتراكية الديمقراطية المحلية إلى امتلاك نظرة ضيقة نوعا ما. إن غياب روابط مستقرة مع قيادة ممركزة على الصعيد الوطني والمشاكل الناجمة عن ظروف السرية وعدم نضج أغلب الأعضاء وقلة خبرتهم ، كان يعني غلبة الطابع المحلي والهواية على الجزء الأكبر من العمل. وقد كان عدم اهتمام الاقتصادويين بالنظرية وإصرارهم الضيق الأفق على المهام العملية للعمل الجماهيري والتحريض، مجرد الوجه الآخر لنفس العملة. ربما كان من الممكن وصف الانحرافات الاقتصادوية لجزء من الشباب الروسي بكونها أخطاء إيديولوجية، لولا حقيقة أنها تزامنت مع ظاهرة أممية أكثر خطورة بكثير.

هوامش:

[1] منقول عن: F. Dan, op. cit., p. 217.

[2] A.K. Wildman, op. cit., p. 132.

[3] منقول عن: Zinoviev, History of the Bolshevik Party, p. 71.

[4] منقول عن: F. Dan, op. cit., pp. 216 and 218..

* بالفرنسية في النص الأصلي - المترجم.