استدراكات على المنظور الجزئي للتاريخ لدى ماركس


عبدالامير الركابي
2015 / 7 / 11 - 19:03     

إستدراكات على المنظورالجزئي للتاريخ لدى ماركس
عبدالأميرالركابي
لطالما تغنى من يسمون بالماركسين بمفهوم التاريخ "العلمي" الذي جاء به منظر الشيوعيةالمعاصرة، ويتذكر جميع من عاشوا في القرن الماضي المقولة التي تحول التاريخ الى موضوع للفعل الانساني الواعي والمخطط، فالفلاسفة كانوا من قبل منشغلين ب "تفسير التاريخ"، بينما اختص ماركس بالذات بمهمة "تغييره" كما يقول، وخلال عقود تميزت بالاحتدام على مستوى الكوكب، بدا وكأن مثل هذا التصوراقرب الى ان يتحول الى حقيقة نهائية وقانونا معتمدا، خاصة بعد ان قامت تجارب ونظم تنتمي اليه، وتجهد لتقديم ادلة عملية تثبت صوابيته العملية.
وخلال عقود استغرقت القسم الاعظم من القرن المنصرم، كان مفهوم ماركس للتاريخ وعموم النظرية التي جاء بها، تدخل اضخم اختبارقبل ان تنتهي الى مادة خاضعة لفحص وتدبيرالتاريخ نفسه كما هو الحال مع ظواهر سابقة كبرى، كانت شكلت بمجموعها محطات تاريخية ضرورية قبل ان يعود التاريخ ويتجاوزها بالاضافة التي تقدمها هي نفسها لحركته، محتفظا لنفسه بحقيقته المتفوقة عليهاوالمستقلة عنها، مافرض تكرارا اعادة النظر اللاحقة فيها، والوقوع على ماكان يعتور الاعتقادات الناشئة عنها من نقص فادح، او يجعل من بنيتها الاساسية مشكوكا بصوابيتها المطلقة، قياسا لمابعد تحققها في الواقع، بعكس ماظلت تبدو عليه او تحققت في اطاره قبلا، وفي الحالة المقصودة هنا، وبسبب المبالغة في ادعاء"العلمية" التي لازمتها، وماآلت اليه التجربة في الواقع من تعثر، فقد صارلازما التحري عن قوة مفعول الوهم الايديلوجي والاعتقادي المواكب لها ولنشأتها في الاصل.
وينطبق هذا الحكم على عمل ماركس التأسيسي نفسه، فهو انطلق من اقتراح مخطط للتاريخ لم يكن يتعدى احتمال الصوابية "النظرية" داخل اوربا، وتبناه على انه هو القانون الكوني، ولم يتسن لماركس كما يبدو التيقن من مدى صمود منظوره بمواجهة المقاييس الكونية الشاملة، او اذا كانت قائمة وماتزال فعالة، والواضح ان احاطة كهذه كانت تفوق قدراته، وما متاح له من امكانات او فرص مساعدةعلى الاحاطة والاستيعاب ناهيك عن حكم المعتاد، ولااحد يمكن ان يجادل بان ماركس كان مؤمنا بلا ادنى ريبة، بان اللحظة البرجوازية في التاريخ قد صادرت نهائيا القوانين التاريخية، وعلى هذا الاساس كان هو يقلب قاعدة القياس، ليضع الجزئي محل العام فيذهب لاعتماده قالبا القاعدة الثابثة. وفي كل هذا وغيره، يكون ماركس قد تصرف باعتباره ابن لحظته الاوربية ابان صعودها وتعاظم القها، مع ما يصاحب وينجم عادة عن الانتصارات والنهضات الحضارية الكبرى من شعور يعزز الصوابية، وبهذا يكون قد كرر نفس العلل التاريخية غير "العلمية"، ربما لكي يؤكد حضور قانون النقص التاريخي الملازم للتجارب الكبرى تكرارا، ومن جديد، تاركا رغما عنه لعهدة التاريخ، هامش فعله المتعالي على الارادة الانسانية، وعلى قدرة الانسان المتاحة على الإحاطة.
لقد سبق وترافق صعود حضارات كبرى مثل الاسلام بعد القرن السابع، مع اعتقاد ثابت بالكونية المطلقة، الامر الذي مايزال يراود كل من يداخلهم حلم اعادة الدورة نفسها وطلب الانبعاث الاسلامي خارج زمنه، ويمكن لماركس او اي من مفكري اوربا المعاصرة، ان يحاجوا بخصوص اختلاف الطور الحالي البرجوازي من التاريخ جوهريا، وهم بهذا يستندون الى الثورة الصناعية، والى تعاظم دور الالة بالدرجة الاولى، ناهيك عن اثر العلوم عامة، وكل هذه عوامل وجيهة، من شانها ان تعزز الوهم لدى هؤلاء، فهم يتجاهلون حقيقة ان اوربا الراهنة هي حدث في التاريخ واضافة ضمن سياقه، وان "التاريخ" من شانه الاغتناء بها، وتجاوزها بسببها هي ذاتها، مع اضافتها النوعية الصناعية وغيرها من وجوه الانقلاب الاجتماعي والعلمي والتنظيمي، والغرب الحالي ليس كله صواب، او من دون مسببات للضبابية والخطا التاريخي، فماركس مثلا قرر بان " المشاعية البدائية" هي طور ومرحلة تاريخية، تمر في التاريخ مخلية مكانها لمرحلة اعلى، فجانب بذلك موقع ودور العالم الذي يتوخى الحقيقة المجردة، ولم يبذل مجهودا اكبر قبل ان يطلق حكمه الخطير انف الذكر، وكان وهو بحالته تلك يستسهل وبحماس، غمط حقائق تاريخية بارزة باسم حقيقته الاوربية، فالمشاعة، والشيوعية في التاريخ الانساني هي "نمط اجتماعي"، والحياة البشرية الحالية منذ قامت المجتمعات انشطرت الى نمطين، احدهما " مشاعي" وهو مجتمع "لادولة" والاخر "قهري" باشكال وطبعات متعددة.
والاشتراكية في ارض السواد في جنوب العراق هي نمط حياة وانتاج متكامل، ومركز دينامية حضارية متواصة في دورات، ومجتمعات " اللادولة" هي حقيقة مجتمعية وجدت في امريكا اللاتينية، وامريكا الشمالية، واستراليا وافريقيا، وبعض بلدان اسيا. ولايريد ماركس التعامل مع مثل هذه الظواهر، او الانكباب عليها، بينما يصر بالمقابل على اسباغ مفاهيم بيولوجية على الحقيقة المجتمعية التاريخية، معتقدا ان اوربا هي الشكل، او اللحظة الاكثر كمالا ونضجا تشريحيا، ومفهوم من هذا القبيل كاف لتقريب نظرته مما يشبه العنصرية المجتمعية، وهو ماعاد وتجاوزه علم الاجتماع والانثروبولوجيا منذ اربعينات القرن الماضي بنبذ مفهوم "البدائية" المجتمعية الغالب في مقاربة ماركس بما يثير الاستغراب، ويضع صاحبها خارج تطور المقاربة الاوربية اللاحقة "العلمية" المجردة، وليس الشيوعية المفترض انها ارقى واكثر تجردا وميلا للمساواة، كما يفضح تناقضات احكامه، فكيف وعلى اي اساس يمكن ان نقرر،ان المجتمع الراسمالي ارقى من مجتمع "اللادولة المشاعي"، والاخير نشا وظل بلا دولة وبلا طبقات، بينما نحن نقول بان المجتمع الحديث البرجوازي، متجه لان يصبح ارقى اذا انتفت فيه الطبقات، وانتقل الى التشاركية وزالت فيه "الدولة" ؟ واضح ان ماركس ماخوذ هنا بديناميات الراسمالية الهائلة، الا ان مجتمعات اللادولة لاتفتقر دائما للديناميات، كما هو الحال في النموذج العراقي الارقى من بين مجتمعات انتفاء فعالية الملكية الخاصة، الامر الذي يفتح الباب امام تساؤلات مستقبلية، لاتلغي من جدول الاحتمال حصول قفزة تاريخية متجاوزة للراسمالية، يكون من شروط تحققها التطابق مع ديناميات مجتمع لادولة، لامجتمع ملكية خاصة راسمالي.
وتبقى انحيازية ماركس لنمط مجتمعه تسبب له المزيد من الابتعاد عن حقائق كبرى بما يتعلق باليات الحياة والتاريخ، ما يدفعه لاعتماد احكام تبسيطية، وماركس منبهر ب" كونية" الظاهرة الاوربية الحديثة و ضخامة منجزها، وهو قد مدح الراسمالية اكثر مما مدحها اي مفكر اوربي، وفي "مركز بومبيدو" الثقافي في باريس، نص لماركس يمدح فيه الراسمالية موضوع في صدارة قاعته الكبرى، يكاد من يقراه يشك اذا كان كاتبه برجوازي الهوى، ام هو نفسه مفكر "حفارة قبرها"، والغريب ان ماركس قرا التوراة في صغره او عاش في اجوائها، ومع ذلك ومع انه ليس متدينا، الا انه لم يبد علية انه استطاع ان يرى في تداعيات صناعة "مملكة الله" الابراهيمية مظهر تشكل حضاري كوني، انتهى بامبراطورية الاسلام التي حكمت العالم من بغداد، كما حكم قبلا من العراق في الدورة الحضارية الاولى ايام بابل الكلدانيين، الواردة تكرارا في الكتاب المقدس اليهودي.
وليست الدوافع العرضية هي محركنا لايراد مثل هذه الجانب الدال على نقص الشمولية المعرفية لدى ماركس، فمادمنا نتابع ميكانزمات فهمه للتاريخ، وطريقة تعاطيه معه، فالاحرى ان نلاحق حدود منظومته المفهومية على هذا الصعيد، بالاخص في مجال تناوب حضاري كوني بارزومتواترعلى صعيد التجليات الكونية الكبرى، ولا ينطبق مانريد قوله هنا بالطبع على مجال الحضارة البوذية ولا الكومفوشية، بقدر ماانطبق منذ بدايات التاريخ على المجال المتقابل لضفتي البحر المتوسط، فالحضارة بدات بتشوفاتها وامبراطورياتها العراقية، لتقابل بتحويرات الفلسفة والمفاهيم الاغريقية، وهذان المجالان المتقابلان، تعاقبا على الصدارة الكونية ليمثلا ظاهرة تكامل هي بالاحرى بؤرة سيرورةالفعالية الحضارية الكونية، وصعود الامبراطورية على الضفة الاوربية بعد انهيار بابل، انتهت بعد قرون بظهور الاسلام وامتداده المذهل وامبراطوريته، هذه التقابلية ظلت تتضمن دائما قانون تكراروتجاوز للظاهرة الجزئية، فالعرب المسلمون بنوا كل مفاهيمهم وقت صعود نموذجهم، على كونهم هم الحقيقة المطلقة،وهم الدعوة الحقة، ذلك بينما كان مكر التاريخ يقول ان الاسلام بتحققه وصعوده التاريخي، ينهي هو نفسه مشروع الاسلام ودولته، ويفضي لتجاوزها استنادا لقوة ومفعول وجودها وما ولدته من مناخات حفزت الثورة االاوربية الحديثة صناعيا وعلميا، وفي كل مجالات التنظيم، فالاخيرة لم تكن مطلقا نتاج تفاعلات ذاتية بحته، بل حدثت في الاطار الكوني، وتراكمات راس المال الاولى التجارية وحتى المفهومية التجديدية في الميدان المعرفي، لم تكن اوربية صرفه.
ومن ينكرون فعل قانون التناوب التعاقبي هذا،هم من يصدقون المبالغات الجزئية التي يوردها ماركس او غيره من منظري الغرب ومستشرقيه، وهؤلاء من متعبدي الظاهرة التاريخية داخل مجالها الجغرافي لا الكوني، يعتمدون المقطع التاريخي والطبقي الاوربي وهو يعمل ضمن نطاقه الجغرافي البحت جغرافيا وزمنيا، عاجزين عن تخيل احتمالات تجاوز النموذج الاوربي الصناعي، او ان يكون وجود هذا النمط في التاريخ سببا يوفر هو نفسه، مقومات حالة تجاوزتاريخي جديدةتكون متلائمه مع نمط انتاج وبنية تاريخية مختلفة، وحيث ان ماركس لم يتسن له التفكير باحتمالات من هذا القبيل، فقد تمسك بالنموذج الاوربي ليسبغ عليه قدرات استثنائية مطلقة حاصرا التاريخ وحركته فيه كمستقبل، فجعل منه ظاهرة لاتقاوم او ولا يمكن تحويرها بناء للتفاعل العملي على المستوى الكوني، واغلق بذلك اي افق، او اية احتمالات حياتية لاتنبع من داخله، الامر الذي تخالفه "الحقائق الموضوعية" كما يحلو للماركسيين ان يرددوا عادة، فالراسمالية خارج ارضها، وفي عالم انتفاء الملكية الخاصة ومجتمعات اللادولة، يستحيل ان تعمل كما تعمل عادة في موضع نشاتها لانتفاء المقومات "المادية الضرورية" هناك، مايجعل الراسمالية كونيا غير ماهي اوربيا، ويلقي بظلاله على النتائج المتوقعة هنا وهناك.
ولا مهرب من ان يترتب على اختلاف المقاربتين التاريخيتين، اختلافات حتمية في النتائج، فماركس يحصر حصيلة مسار التاريخ المرحلي الخماسي الاوربي، بالانتقال للشيوعية "حتما"، وهذا الاعتقاد يناسب رؤيته المقطعية الجامدة والجزئية، لا الكونية، والمنطلقات التي يتبناها لانملك عليها اي دليل يؤيدها من التاريخ، بينما الادله واضحة على "التبادلية التجاوزية" المتتناوب عليها بين مجالي ضفتي المتوسط، لهذا يصح الاعتقاد بان الراسمالية الحاليه مرشحة للتجاوزبناء على قوة مفعولها وبسبب قوة اثرها، ومثل هذا المقترح وان كان محاطا الان بالغموض اوالجدة، الا ان قفزات التاريخ الكبرى من طبيعتها انها لا تفصح عن مكنونها سلفا، وانها تباغت العقل، مع ان البين حتى الان، ان احتمال مغادرة حضارة العمل العضلي والالي، هو مانحن بصدد الانتقال اليه، اما كيف سيحدث مثل هذا الانقلاب، فذلك شان يتعذرالتوسع فيه الان، وهو لايقع في مجال تناولنا الحالي المقصور على جانب بعينه من جوانب رؤية ماركس للتاريخ.