علاقة اليسار الجديد بالقديم هي علاقة قطيعة وليست علاقة تماثل


عذري مازغ
2015 / 7 / 9 - 16:19     

في الحقيقة، غالبا ما تثير بعض الحوارات لقيادات يسارنا في المغرب وما يسمى بالعالم العربي عموما نقاشات لاجديد فيها على الإطلاق، وإذا كان البعض منهم مصاب بوطاة الإرث الباهظة الثمن على دماغ الاحياء كما قال ماركس، والتي تغشي أبصارهم، فإن البعض في تخريجات عشوائية، في مقالات تتقدم صفحات اليسار بشكل رهيب، اعلنوا فيها موت الرأسمالية، في تحليلات بئيسة لا تقنع حتى نفسها، فإن هؤلاء ، أعلنو عن سبق إصرار موتهم الحقيقي بموت نقيضهم الذي توهموه جثة خالدة، هؤلاء لم يعد ما يبقيهم في اليسار إلا التشدق بمصطلحات ومفاهيم هم أنفسهم، حين يستعملونها، لا يستعملونها في السياق المادي الماركسي الحقيقي، فالحياة بميكانيزماتها وغيابها في تجددها وتوالدها عند هؤلاء هو دليل موت الحركة في أدمغتهم، هؤلاء ماتوا بشكل لا يمكن طردهم: لا يمكن طرد ميت من الحياة لأنه ميت أصلا.. ليس هناك ما يناقش مع هؤلاء، لكن ومقابل ذلك، يجب على اليسار الحي أن يتحلى بالنقد الذاتي العنيف، عنف هو في مستوى عنف الحركة في الواقع.
إن الخطاب اليساري الكلاسيكي، وبعبارة أخرى إن خطاب أحزابنا اليسارية هو خطاب كلاسيكي جامد، هذا الخطاب أتى على نهايته منذ عقود، أنجز ما انجز وحقق ما حقق وفشل في ما فشل ودخل مرحلة الهرم، لم يعد فيه تاول الأحداث بمرجعيته الكلاسيكية مساير للواقع، إنه يؤول الواقع الجديد وليس ينتجه، إسقاط الترنيمة الكلاسيكية على أوضاع وزمن متغير جزئيا أو كليا في الوقت الذي الماركسية الحقيقية تقوم على التمرحل والتطور ومقارنة النظري بالواقعي في حركة جدلية تفاوتية تطورية.. ماركسيتنا متأثرة بالمنهج التاويلي في الفقه الإسلامي وهذا أحد اهم نفور الجماهير منا...
عندما يعطي أحد اليساريين تصريحا يقينيا حول ما يقع في أوربا وفقا لكلاسيكياته، من الموضوعية على الأقل معرفة كيف لحزب جديد أوربي أن يسود بسرعة كبيرة بينما هو لم يراكم عمليا طيلة خمسين سنة أو يزيد إلا بؤسا مربعا، إن قاعدة الأمر ليست تماما هي قاعدة حزبه الذي منه ينطلق في تاويلاته، الأمران مختلفان بنيويا وإن كانا معا من اليسار: إن أحدهم امتداد للآخر، هذا مايبدو في الوهم كحقيقة، لكن الأمر ليس كذلك، إن أحدهم قطع مع الآخر.. هذه هي الحقيقة..والقطع مفهوم ماركسي جذير بالاستيعاب في زمن متمرحل..
الجماهير عبر الوقت اكتسبت حسا مشتركا من خلال استيعابها لما راكمته في التجربة السياسية، في الانتخابات الماضية في المغرب، كانت هناك مقاطعة كبيرة لها، أكثر من ذلك، وحسب مانشر في الأسابيع الأخيرة هناك عزوف مذمر حتى على التسجيل في الانتخابات المقبلة، وطبعا الجماهير ليس لها الكثير من الوقت لتضيعه في شرح أسباب عزوفها، أي تلك الأسباب التي تتفضل احزابنا اليسارية بشرحها، يمكن للمرإ أن يعبر عن الأمر ببساطة كبيرة وبلغة الشارع الغير الرنانة: مالذي ستأتيني به تلك الانتخابات؟؟ وهي جملة تختزل كل شيء كلما خضعت للتفكيك العقلاني المستمد من معطيات على الأرض، لكن هذه الجماهير الواعية تماما، هي أيضا عازفة عن الانخراط في العمل الحزبي، بل أصبحت الأحزاب مرادفة للدين، الدخول إليها كمن يدخل إلى الإعتكاف في زاوية معزولة، أصبحت تمارس فيها نوعا من طقوس التصوف: عرض النقط التي سيتحاور فيها، كلمة الزعيم لعرض رؤيته المقدسة ثم تدليل أتباعه بشكل يكبت القول المناقض حين يرى شبه إجماع حول تلك النقط، وحين يتجرأ يعزل ببساطة أو يتهم وفقا لسنن وقواعد عامة مدرجة أصلا في مدونة القانون الداخلي، هذه ببساطة هي ممارستنا داخل الحزب، نكبت قول المختلف ونحتقره برغم تلك الخرافة التي نطلقها: "أختلف معك ومستعد للدفاع عن اختلافك"، من يصدق هذه الخرافة على أرض الواقع، تصلح فقط مع الآخر خارج الموقع لأنه لا ينافسك في الداخل، أما في الداخل فهي سلسلة تآمرية تصل إلى عزل المختلف وكلنا طبعا يعرف تلك الآلية التي توصلنا باسم تلك الديموقراطية إلى تقسيمات لا متناهية: إنها كليا تتم تحت فصل، "العمل على تسييد مواقفك" وطبعا يبدو الأمر جليا وديموقراطيا كما يوحى، إن هيمنة طرف هو نتيجة عمل تسييد مواقفه في مجموعة حزبية، إنها ديكتاتورية الزعيم في جزيء صغير ومعزول من المجتمع.. في أوربا، وهذا ما لا يشار إليه في كل قراءة يساريينا من شمال إفريقيا والمشرق، اليسار الجديد الذي اقتحم الإنتخابات الأخيرة في كل من اليونان وإسبانيا بشكل تفاوتي، اعتمد آلية أخرى تعتبر قطيعة مع مرحلة اليسار التقليدي، ليس في الأمر تماثل بنيوي، بل اختلاف بنيوي كبير، لقد ساهم الكثير في شرح هذا الإختلاف، وساهمت بدوري بشكل مضطرب في نقل هذه التجربة من خلال بعض المقالات الرثة نتيجة عدم نضج منهجية معينة لبلورتها بشكل تسلسلي قابض على ميكانيزماتها، لكن يمكن تلخيصها على التالي: إن الأحزاب الجديدة هي نتيجة لتراكم التهميش الحزبي اليساري الكلاسيكي، إن احزابا شيوعية أوربية تحولت بشكل ملموس إلى بيروقراطيات متكلسة، إن ديموقراطية هذه الأحزاب لا تعدو ديموقراطية الواجهة، تبديل زعيم بآخر كل أربع سنوات أو على سبيل قوة القانون الداخلي التي تمنع الأمانة العامة المستديمة لأكثر من ثمان سنوات، هي نفسها الديموقراطية اليمينية الكلاسيكية في الأنظمة الليبيرالية.. إن أغلب الذين تفاعلوا في اليسار الجديد هم في أكثر الأحيان تلك الفيئات التي ناضلت داخل اليسار الكلاسيكي والذين خضعوا في تجربات عديدة لذلك الفصل القاسي من العمل على تسييد موقفك، إن أغلب توجهات هؤلاء هو تأسيس شيء مختلف عن اليسار الكلاسيكي عبر ما يسمونه بالديموقراطية الجماهيرية التشاركية، هذه الديموقراطية لا تعترف بالزعيم، برغم أن الزعيم على مستوى التمثيل ليس سوى نتيجة ممارسة مرحلية من داخل أنماط النظام السياسي الليبيرالي، أي أن النظام الرأسمالي هو من يفرض هذه الكيانات، اما هم فليسو إلا ناطقون رسميون بالحزب، ليست لهم سلطة سياسية وهذا بالتحديد ما لم يفهمه الكثير حين توجه حزب سيريزا لطرح موضوع ديون بلاده على الإستفتاء، إنه بذلك التوجه يحيي منطلقات نشأته كجهاز سياسي يساري مختلف إنه يمرر خطابا مفاده: “ نعم انا هنا في قمة السلطة، وأستطيع أن أفاوض كما شئت باسم الديمقراطية النظامية التي تخولها قوانينها الليبيرالية، لكن مع ذلك، أعود إليك أيها الشعب لأن القرار السياسي الأخير هو قرارك". إنه خطاب يرد في نفس الوقت على الذين تنبؤوا بتلك الخلاصات القديمة: “اليساري يساري مع الجماهير قبل أن يصل إلى السلطة، وحين يصلها ينزاح للرأسمالية ويخدم مصالحها" إنه يرد مباشرة أيضا على أولئك الذين أتخمونا بأن في السياسة إكراهات دولية وإقليمية و...، إنه رد قوي في نفس الوقت على تلك الأحزاب الإشتراكية الديموقراطية التي رأت في الإستفتاء تهور من طرف القيادة اليونانية ودليل على ضعفها التحاوري، أي أن هذه القيادة لم تقم بما أقامته هذه الأحزاب نفسها عندما لجأت إلى تعميم الدين الخاص كدين عام بخرق الدستور مستندة إلى فصل قانوني يسمح للحزبين الكبيرين بالإتفاق على ذلك كما فعل سباتيرو وراخوي بديون الخواص في إسبانيا، أو كما فعلته الأحزاب الحاكمة السابقة في اليونان..
لم نناقش حتى الآن علاقة هذه الأحزاب بالواقع الإقتصادي في بلدانهم لأمر بسيط، لم نصل بعد وليس مهما بعد أن نشهر بادبيات ماركسية قوة الإستغلال في تلك العلاقة لانها معروفة ولا حاجة إلى تكرارها، بل لنشير أن تلك العلاقة من الإستغلال الراسمالي للشعوب لا تعطينا الحق كما أشرنا في أن نضع تماثلا بين أحزابنا اليسارية الكلاسيكية وألأحزاب اليسارية الجديدة في أوربا، إن مايربطهما هو الموقف من علاقة الإستغلال، لكن ما يفارقها هو أكبر من عملية تفارق بسيطة، إنا القطع مع مرحلة والإنتقال من مرض إعادة إنتاج نفس الخطاب اليساري بحمولته الكلاسيكية كامتداد للمرحلة اللينينية وإعادة إنتاج خطاب اليسار بمفاهيم تعبر عن القطيعة مع مرحلة تميزت بديكتاتورية الطليعة الثورية والتسلسل الهرمي للقرار السياسي من فوق إلى تحت عبر تسلسله من اللجنة الوطنية إلى اللجنة المحلية، إنها مرحلة عكس للقرار السياسي من خلال تركيبة مختلفة في أجهزة الحزب بالإنتقال بوعي المحلي لذاته وعكسه في ما فوق مع استقلال تام لهذا المحلي من خلال تشخيص واقتراح جماهير المحلي، إضافة إلى التصويت المباشر على المقترحات التي تتم على المستوى الوطني بشكل يعكس حضور المحلي في الوطني فعلا وقولا من خلال الآلية التي توفرها الآن التكنولوجية الرقمية ومن خلال جدلية يلتقي فيها المحلي بالوطني في ما هو عام مع استقلال المحلي بما هو خاص به دون توجيه من الوطني، إنا هنا في التركيبة الجديدة نتكلم عن دور الجماهير وليس دور النخبة الطليعية وهذا أساسي في الفهم التفارقي، ولعل نموذجا حيا يمكن إدراجه هنا ومن صلب التجربة: عمليا خسر اليسار الموحد موقعه كقوة ثالثة في إسبانية ولا زال يعتمد النهج اليساري الكلاسيكي، بعد الإنتخابات البلدية الأخيرة حيث خسر الكثير من المواقع، استدراكا منه للأمر، دعا إلى تشكيل جبهة شعبية تتضمن كل قوى اليسار، والغريب في الأمر أن لجوءه السابق لتشكيل اليسار الموحد كان نتيجة للتمزيق اليساري إبان أواخر القرن الماضي، طرح جبهة شعبية بدون مس في بنية التشكيل الحزبي لم يثر في الحقيقة إلا ضجة إعلامية، الناطق الرسمي لبوديموس رد بلكنة متهكمة بالقول: "كنتم في السياسة منذ أكثر من 30 سنة ولم تفعلوا شيئا، دعونا فقط نعيش في سلام معكم"، إن طرحا هكذ من اليسار الموحد، جاء في وقت متأخر جدا، هذا التأخر ليس زماني فقط، بل كان عليه أن يسبق بما هو كان مقررا عنده سابقا من خلق جو ديموقراطي تشاركي إنطلاقا من خلخلة بنية اتخاذ القرار السياسي ووضع الحزب في موقف متفتح على الجماهير الشعبية بدون خلفيات إيديولوجية. إن باولو إغليسيا يشير إلى هذا بالتأكيد عن قوله لم تفعلوا شيئا، إن حزبا أو تجمعا سياسيا لم يفعل شيئا طيلة سنين راكم فيها التجربة السياسية ولم يخلق قفزة نوعية ما، يعني ببساطة أن فيه خلل ذاتي قبل أن يكون في الموضوع السياسي، ليست المشكلة في المواقف السياسية المنحازة للجماهير، بل في طريقة تبنيها وطريقة تفعيلها ..
الجماهير الشعبية ليست مستعدة لتقديم انتهازيين إلى السلطة، هي في حاجة إلى تصريف مواقفها بمساهمتها هي في التصوييت وما إلى ذلك، ليست في حاجة إلى نخبة تفهم أكثر منها.
لم أرد أن ادخل في جدال يساريينا في تقييم ما يقع في أوربا، لكن أدعوا فقط أن هذا التقييم لا يجب أن يبرر التصاقهم بنفس الوضعية الحقيرة لحزب يساري لا يساهم فيه أو ينخرط فيه أحد، إن الموقف من علاقات الإستغلال هو نفسه الموقف لم يتغير مادام الإستغلال قائما، لكن ديكتاتورية حقيقية ممكن ممارستها يجب أن تكون ديكتاتورية أغلبية حقيقية وليست أغلبية برلمانية أو أغلبية تسييد المواقف، يجب أن يكون أغلب الشعب هو من يمارسها وليس أقلية باسم أغلبية الشعب كما هي الآن في الممارسة الرأسمالية، أغلب الشعب يقع في الموقع النقيض للمالكين الرأسماليين، بغض النظر عن المهن فالأغلب يبع قوة عمله ذهنيا كانت أو خدماتية أو فيزيائية