البلشفية طريق الثورة - الخلاف مع الاقتصادويين


آلان وودز
2015 / 6 / 29 - 21:01     

البلشفية طريق الثورة

الفصل الأول: ميلاد الحركة الماركسية الروسية

الخلاف مع الاقتصادويين

ترجمة: هيئة تحرير موقع ماركسي

كما يحدث في كثير من الأحيان، عبَّر الخلاف السياسي العميق عن نفسه، في البداية، كخلاف حول مسائل ثانوية عرضية. قبل إرسالهم إلى المنفى في سيبيريا، في فبراير 1897، سمح البوليس للينين وعدد من القادة الآخرين بقضاء ثلاثة أيام في بيترسبورغ لترتيب امورهم، وهي الفترة التي استغلوها لإجراء مناقشة مع أعضاء قياديين في الرابطة. انعقد اجتماع ساخن بينهم وبين القادة الجدد، الذين كانوا يستعدون لإقامة مجموعات للعمال وللمثقفين منفصلة عن بعضها البعض. وبرز خلاف حاد حول مسألة إنشاء "صندوق للعمال" على أساس غير سياسي. ودون إنكار إمكانية العمل في مثل هذه الحقول، أكد لينين، بدعم من مارتوف وغيره، بشكل أساسي على ضرورة بناء رابطة النضال باعتبارها منظمة ثورية. بينما اقترحت القيادة الجديدة، عمليا، تلطيف برنامج الرابطة لجعله، كما زعموا، أكثر جاذبية للعمال. كان من شأن مثل ذلك التمييع للمنظمة في تلك المرحلة المبكرة من تطورها أن يكون قاتلا. دافع لينين بحزم عن ضرورة تثقيف كوادر عمالية وإعطائها بعد ذلك مناصب قيادية، لكن دون الانحطاط بالمنظمة لتصير في مستوى العمال الأكثر تخلفا. وقال: «إذا كان هناك أي عامل واع يستحق الثقة، دعوه يدخل إلى الحلقة المركزية [للرابطة]، هذا كل شيء».[1]






جزء كبير من الاحتكاك الأولي بين المجموعتين نتج، بدون شك، عن استياء الشباب من النفوذ السياسي لبليخانوف

إن ما كان يكمن وراء مواقف "الشباب" هو الرغبة الانتهازية في ايجاد "طريق مختصر" نحو الجماهير، رغبتهم في أن يحصدوا حيث لم يزرعوا، إضافة إلى ازدراء بالنظرية بالكاد يخفونه. كانت هذ هي السمات المشتركة لجميع الأنواع المختلفة من النزعة "الإقتصادوية"، وهي ظاهرة لم تكن قائمة على نظرية أو سياسة منسجمتين بقدرما كانت مزاجا غير محدد سائد بين صفوف فئات معينة من الشباب، الطلابي خصوصا، الذين التحقوا بالحركة الاشتراكية الديموقراطية في تسعينيات القرن 19، والذين كانوا يفتقرون إلى ذلك الأساس النظري المتين الذي ميز الجيل السابق من الماركسيين الروس. بالنسبة للجيل الأول من الماركسيين الروس كان التحريض الاقتصادي مجرد جانب واحد فقط من عملهم الذي ربط دائما بين الدعاية والتحريض وحاول طرح القضايا الأوسع. وكانت الرابطة قد نجحت في كسب بعض الأعضاء من الحركة النارودنية القديمة بفضل النقاش السياسي. ومن ناحية أخرى كانت المهمة الرئيسية لحركة الإضرابات هو الانطلاق من مستوى الوعي الواقعي للعمال والعمل على رفع وعيهم وجعلهم يدركون، من خلال تجربتهم الخاصة في النضال، ضرورة التغيير الاجتماعي الشامل. كانت المنشورات التحريضية المحلية محدودة جدا في نطاقها للقيام بذلك وكانت هناك الحاجة إلى جريدة ماركسية لا تعكس فقط حياة ونضالات البروليتاريا، بل أيضا تقدم للعمال تعميما لتلك التجربة، أو بعبارة أخرى: جهاز سياسي ثوري قادر على توحيد حركة الإضرابات مع الحركة الثورية ضد الحكم المطلق.

لقد كان لينين ومارتوف يشتغلان على هذا المشروع بالضبط حينما ألقي القبض عليهما. لكن القادة الجدد لرابطة سان بيترسبورغ للنضال كانت لديهم أفكار أخرى. ينبغي أن نضع في الاعتبار أننا نتعامل مع منظمة كوادر، ما تزال في بداياتها الأولى، تحاول وضع المبادئ الأساسية سواء في السياسة أو التنظيم، وهي، علاوة على ذلك، مجموعة تشتغل في ظروف سرية خطيرة، تعرضت للتو لموجة عقابية من الاعتقالات. بالنسبة للينين ليست الأشكال التنظيمية عقيدة جامدة أو بديهيات رياضية، بل جزء من سيرورة حية تتغير وتتكيف مع الظروف. وبالتالي فإن موقفه بشأن هذه المسألة لم يتحدد وفقا لمبادئ مجردة، بل بناء على حاجيات اللحظة.

لم تكن هذه الظاهرة التي وصفناها للتو تقتصر على روسيا، فقد تزامنت مع حملة إدوارد برنشتاين في ألمانيا لمراجعة الأفكار الماركسية. وفي كل مكان رفع شعار "حرية النقد" الذي استعمل ستارا لتسريب أفكار دخيلة وتحريفية إلى داخل الحزب. وبدأت نفس الخلافات تطفو على السطح في المنفى، داخل صفوف منظمة اتحاد الاشتراكيين الديمقراطيين الروس، التي تأسست عام 1894، وكانت تتكون أساسا من الطلاب الذين انضموا مؤخرا للحركة الماركسية. كان الاتحاد منظمة مستقلة تنظيميا عن مجموعة تحرير العمل، وكانت لها سيطرة فعلية على شبكة الاتصالات مع روسيا. كانت مسؤولة عن جمع الأموال والمطبعة وتنظيم نقل الكتابات السرية والحفاظ على الاتصال مع الداخل. إلا أن مجموعة تحرير العمل، ومن أجل الحفاظ على رقابتها على المجال الإيديولوجي، أصرت على حقها في تحرير منشورات الاتحاد، بما في ذلك جريدة رابوتنيك.

مع وجود غالبية القادة في المنفى السيبيري، لم يتبق سوى أعضاء مجموعة تحرير العمل في المنفى لخوض النضال ضد هذا التيار الجديد. وحوالي نهاية عام 1897 بدأ الطالب س. ن. بروكوبوفيتش، الذي كان حتى ذلك الحين متعاونا مع مجموعة تحرير العمل، في طرح مواقف مماثلة. لا بد أن ذلك شكل ضربة موجعة للمجموعة، في وقت بدا كما لو أن تعاونهم مع الشباب داخل روسيا قد بدأ أخيرا يسير على أساس سليم. في البداية لجأ بليخانوف، الحريص على تجنب الانشقاق، إلى اعتماد لهجة تصالحية على غير عادته. وفي رسالة إلى أكسلرود، مؤرخة في 01 يناير 1898، كتب يقول: «... علينا أن ننشر عمله حول التحريض، إنه ليس سيئا من وجهة نظري، وعلينا أن نشجع "المواهب الشابة" وإلا فإنهم، كما تعرف، سوف يبدأون في الشكوى بأننا نهمشهم».[2]

جزء كبير من الاحتكاك الأولي بين المجموعتين نتج، بدون شك، عن استياء الشباب من النفوذ السياسي لبليخانوف. لقد شعروا بالإهانة والتهميش من طرف المخضرمين واستاءوا من الرقابة الإيديولوجية الصارمة التي كانت تمارس عليهم. وعلى الرغم من محاولات بليخانوف لأن يكون تصالحيا، فإن الصراعات أصبحت أكثر تواترا. وسرعان ما هاجم الطلاب ما كان يمثل، باعتراف الجميع، الجانب الضعيف لمجموعة تحرير العمل، أي: الجانب التنظيمي. بدأوا في تعقب الثغرات التنظيمية، وطالبوا بالاطلاع على الحسابات المالية، التي كانت بالتأكيد في حالة من الفوضى. وبعد أن سجلوا نقطة هنا، انتقل الشباب إلى قضايا أخرى. وجدت الحلقة الصغيرة حول بليخانوف نفسها محاصرة بشكل متزايد من جميع الجهات. فالمجموعة التي كانت تفتقر إلى المداخيل وتعتمد اعتمادا كبيرا على "الشباب" في اتحاد الاشتراكيين الديمقراطيين الروس للاتصال مع روسيا، وجدت نفسها الآن أمام صعوبات هائلة. بدأ تأثير الضغوط على معنويات وأعصاب أعضائها يظهر في العلاقات المتوترة بشكل متزايد بين بليخانوف وأكسلرود. وبحلول شهر أبريل عام 1898، ظهرت علامات واضحة على الإحباط بين أعضاء المجموعة، حين بدأ اكسلرود يتسائل حول ما إذا كان للمجموعة أي سبب في الوجود وبدأت فيرا زاسوليتش، التي كانت تدعي المرض، في الحديث عن التوقف عن النشاط.

في سيرته التي كتبها عن بليخانوف، لخص س. هـ. بارون موقف الطلاب من مجموعة تحرير العمل، قائلا:


«ألم يكن إغراق بليخانوف، العضو الرئيسي في المجموعة، في الأعمال النظرية والفلسفية المجردة دليلا على اغترابه عن الواقع الروسي؟ ... وبحجة أن الماركسيين المخضرمين قد فقدوا الاتصال مع الوضع في روسيا وكانوا سيئي الاطلاع على احتياجاته، تم رفض بقائهم في قيادة الحركة. وحتى لو كانت لدى المجموعة رؤية أكثر واقعية للمطالب الراهنة، فإن بطأها وعدم كفاءتها جعلاها غير قادرة على القيام بالدور القيادي الذي تدعيه لنفسها. وطالما استمرت مقاليد القرار في يدها فإنه لا يمكن إنجاز المهام الأساسية. إن أولئك الذين أسسوا الحركة وأعطوها دفعة عظيمة في البداية تحولوا الآن إلى عقبة أمامها. إلا أنهم رغم ذلك يرفضون افساح المجال لأولئك المؤهلين بشكل أفضل والذين يمتلكون في نفس الوقت فهما واضحا للحاجيات ويمتلكون الطاقات الضرورية للتعامل معها. وكان آخر اتهام مماثل وجهوه لهم هو أن الموقف النقدي المبالغ فيه الذي تتبناه المجموعة وتعصبها تجاه الآراء المخالفة قد أعاقا تطور عقول أدبية جديدة ما أحوج الحركة إليها... لقد شن النقاد نوعا من حرب العصابات ضد المجموعة من خلال تنظيم المعارضة ضد القادة المخضرمين والهجوم على صلاحياتهم والتعبير عن قلة الاحترام لسلطتهم. إن ما كانوا يهدفون له بوضوح هو الحد من نفوذ القادة المخضرمين وربما فكروا حتى في عزلهم تماما والاستيلاء على قيادة الحركة».

كانت التوترات بين مجموعة تحرير العمل وبين الجيل الجديد من الشباب في روسيا مفهومة إلى حد ما. فبليخانوف، الذي خاض نضالا عنيدا للدفاع عن النظرية الماركسية، كان مترددا في السماح للوافدين الجدد بالمشاركة في العمل الأدبي والنظري. وقد أظهر التطور السياسي اللاحق لهؤلاء الأخيرين أنه كانت لبليخانوف أسباب وجيهة لهذا التخوف. ومن ناحية أخرى لم يكن بليخانوف شخصا يسهل العمل معه. فنزعته الأرستقراطية المتحفظة وانعدام الحساسية لديه كانت توغر الصدور عليه وتبعث على الاستياء منه وخاصة بين الرفاق الشباب الذين كان ينتقدهم بشكل دائم. ولم يكن من قبيل الصدفة أن تروتسكي الشاب، الذي اصطدم بدوره لاحقا مع العجوز، وصفه بأنه "Maître de tous types de froideur"* (أستاذ لجميع أنواع البرودة). ومع ذلك فإن ما يكمن وراء هذه الحملة هو أنانية المثقفين التي تفاقمت من جراء الإحباطات المعتادة والصراعات الشخصية وصعوبات حياة المنفى. ومن ناحية أخرى كان ازدراء النظرية والنداءات الغوغائية إلى نهج "السياسة العملية" و"النشاط" نابعا من غطرسة المثقفين التي كانوا يخفون بها جهلهم المطبق. وقد لخص بارون موقف بليخانوف من هؤلاء الناس على النحو التالي: «إن انشغالهم بالمسائل الإدارية العملية يجعلهم مجرد بيروقراطيين وأشخاصا يفتقدون للعاطفة الثورية وذوي روح أضيق من أن تكون قادرة على فهم المنظورات العظيمة للحركة».[3]

حاولت فيرا زاسوليتش، كالعادة، التوفيق بين بليخانوف وبين "الشباب". لكن مع حلول نهاية عام 1897، أخذت الأمور منحى خطيرا. فحتى ذلك الحين كانت الصراعات بين الاتحاد وبين مجموعة تحرير العمل تقتصر أساسا على المسائل التنظيمية وليس السياسية. لكن ظهور جريدة رابوتشايا ميسل (فكر العمال) أحدث تغييرا جذريا في الوضع.

هوامش

[1] منقول عن: Wildman, op. cit., p. 99.

[2]Perepiska GV Plekhanova i PB Aksel’roda, p. 182.

[3] Baron, op. cit., pp. 254-5 and 255.

* بالفرنسية في النص الأصلي -المترجم-.