هروب العالم من الاستحقاق الإشتراكي (2)


فؤاد النمري
2015 / 6 / 16 - 21:29     

هروب العالم من الإستحقاق الإشتراكي (2)

كان ستالين يرفض طلبات الجيش السنوية بزيادة موازنة التسلح، وكتب يرفض زيادة الإنفاق على التسلح في العام 1936 .. " أن كل كبيك ينفق على التسلح يعيق البناء الاشتراكي بنفس المقدار"، وهو ما دفع بالمارشال توخاتشوفسكي لأن يخطط لانقلاب عسكري ضد الحزب والدولة في العام 1937 .
اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اجتمعت في سبتمبر ايلول 1953 لتلغي الخطة الخماسية الخامسة المكرسة كلياً للصناعات المدنية والسلع الاستهلاكية التي كان المؤتمر العام للحزب الشيوعي قد أقرّها قبل عشرة أشهر فقط، والتي أرادها ستالين الشوط الأول في المنافسة السلمية في السباق مع الغرب الرأسمالي على صعيد التطور الإجتماعي كما كان قد وعد . تم إلغاؤها لصالح العسكرة والإنتاج الواسع للأسلحة المتنوعة . أساء الإعلام الدولي في وصف تلك السياسة فيما بعد على أنها سباق التسلح الذي فرضته الولايات المتحدة على السوفييت بينما الاتحاد السوفياتي لم يكن في العام 1953 بحاجة إلى المزيد من الأسلحة حيث كانت الترسانة السوفياتية من مختلف الأسلحة تقدر بثلاثة أضعاف ترسانة مجموع دول حلف الأطلسي بالحد الأدنى، وكان القائد المعظم للإتحاد السوفياتي يوسف ستالين قد وعد دول الأطلسي بالهزيمة عبر المنافسة المدنية وليس الحربية ـ لو كان لدى ستالين توجه لهزيمة بريطانيا وأميركا بالحرب لما كان قد أمر بفتح أكبر معركة في تاريخ الحروب في 12 يناير 1945 لإنقاذ كل جيوش الإنزال النورماندي من الإبادة التامة بعد أن طوقتها عشرون فرقة ألمانية في جبال الجاردنز شمال شرق فرنسا ـ ولما وقفت الجيوش السوفياتية عند برلين بل أكملت تقدمها إلى الغرب حتى وصول واشتطن كما جاء في تقرير للإستخبارات الأميركية في العام 1951 . كانت الولايات المتحدة ستعاني من الهزيمة في حربها مع اليابان بالرغم من قنابلها الذرية في العام 1945 لولا تدخل الاتحاد السوفياتي وتحطيمه القوى العسكرية اليابانية في منشوريا في النصف الثاتي من أوغست آب 1945 أي بعد إلقاء القنابل الذرية بثلاثة أسابيع .
قرار اللجنة المركزية للحزب بتأكيد أولوية إنتاج الأسلحة على الإنتاج المدني ظل معمولاً به منذ العام 1953 وحتى انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991 بسبب ما وصف خطأً بسباق التسلح، بل وحتى اليوم مما يدل بصورة قاطعة على أن أولوية الأسلحة إنما كانت المهرب الوحيد من استحقاق الاشتراكية ؛ وما يؤكد ذلك هو أن السلطات السوفياتية بدأت سياسة التقرب من المعسكر الرأسمالي الإمبريالي والإلتقاء معه في منتصف الطريق بذات الوقت الذي انعطفت فيه انعطافاً حاداً إلى إنتاج الأسلحة .
ثمة تساؤل هنا يثور عند هذا المنعطف الحاد في السياسة العامة للإتحاد السوفياتي وهو .. هل أعضاء المكتب السياسي للحزب الذين وافقوا على إلغاء الخطة الخمسية لصالح إنتاج الأسلحة في خريف العام 1953 قد اقترفوا فعل الخيانة أم أنهم كانوا على جهل تام بعواقب الأمور !! الرفيق ستالين وهو الحارس اليقظ والأمين على تحقيق المشروع اللينيني في ظروف في غاية الصعوبة لم يكن يفرق بين فعل الخيانة وفعل الجهالة حيث لما كان ضررهما واحداً ففعلهما واحد وليس من وظائف دولة البروليتاريا الفتية التمييز بين الفعلين . ولو أحسنا الظن بمالنكوف الذي استقال من مركز الأمين العام للحزب احتجاجا على إلغاء الخطة الخمسية وبرفاقه مولوتوف وفورشيلوف وبولغانين وكاغانوفتش الذين طردوا معه من الحزب في انقلاب يونيو حزيران 1957 فلا يجوز لنا أن نبرّأهم من الجهالة بعواقب القرار التي جاءت مدمرة لكل ما بناه الأوائل في الثورة الإشتراكية العالمية .
كانت الخطة الخماسية الخامسة ستصل بالشعوب السوفياتية إلى نهاية العبور الاشتراكي غير أن غفلة مالنكوف ورفاقه سمحت لقوى البورجوازية الوضيعة السوفياتية بقيادة الجيش بعد أن تواطأت مع خروشتشوف لقاء ترفيعه لمركز ستالين الذي قضى عمره مأخوذاً به، سمح لهذه القوى بالإستيلاء على السلطة والهروب من الاستحقاق الإشتراكي .
كان كارل ماركس وفردريك إنجلز قد دمغا البورجوازية الوضيعة (lower middle class) في البيان الشيوعي بدمغة الخيانة التي لا تمّحي طيلة الحياة حيث هذه الطبقة تحديداً تناضل ضد الطبقة الرأسمالية لأن خطر تحويلها إلى بروليتاريا يتهددها، وتقاوم الدولة الإشتراكية لذات السبب . دمغة الخيانة لا تمّحي لأن هذه الطبقة لا تملك وسيلة إنتاج توفر أية أسباب لحياة المجتمع . بعض قليلي العلم في الماركسية يعتقدون أن البورجوازية الوضيعة ما قامت ضد الاشتراكية إلا لتبني الرأسمالية متجاهلين أن الرأسمالية تقترن دائماً بخطر تحويل طبقة البورجوازية الوضيعة إلى بروليتاريا، وكانت هذه الطبقة قد حاربت طويلاً لدرء هذا الخطر . البورجوازية الوضيعة السوفياتية انقلبت على دولة البروليتاريا هرباً من الاستحقاق الاشتراكي وليس لتحقيق أي مشروع لديها وهي لا تمتلك ولن تمتلك أي مشروع سوى إنتاج الأسلحة التي لا يحتاجها الشعب بل هي ضد الشعب كونها المهرب الوحيد من استحقاق الإشتراكية . بدأت هاربة وستنتهي هاربة بينما الاشتراكية لم ولن تبارح العتبة رغم إحكام إغلاق كل الأبواب بوجهها .

في الحرب العالمية الثانية استطاعت الجيوش الهتلرية القضاء على أكبر امبراطوريتين رأسماليتين إمبرياليتين ظهرتا في التاريخ وهما بريطانيا وفرنسا . وعندما تقدمت جيوش الدولة الاشتراكية على عرض القارة الأوروبية وسحقت ألمانيا النازية تأكد أن الإتحاد السوفياتي، دولة دكتاتورية البروليتاريا، هو أقوى قوة في الأرض وهي القوة التي فتحت سبل الحرية لشعوب العالم . تحت هذه المظلة العالمية الجبارة نهضت شعوب الدول المستعمرة والتابعة تفك الروابط مع مراكز الإمبريالية عبر ثورة تحرر وطني عالمية 1946 ـ 1972 . في العام 72 أعلنت الأمم المتحدة إنتهاء كل أشكال الإستعمار في العالم وحلّت لجنة تصفية الاستعمار في العالم التابعة لها .
كافة الدول المستقلة حديثاً شرعت تبني إقتصادها المستقل وتمتنع عن استقبال فائض الإنتاج المتحقق في مراكز الرأسمالية . ذلك ما أملى الإستحقاق الإشتراكي على النظام الرأسمالي في الغرب .
الهروب من الاستحقاق الإشتراكي في المعسكر الرأسمالي جاء مفضوحاً يثير الإستهجان .
كانت ثورة التحرر الوطني قد نجحت في فك روابط كافة الدول المستعمرة والتابعة مع مراكز الرأسمالية العالمية وهو ما حال دون تخلص هذه المراكز من فائض الإنتاج المتحقق فيها جرّاء نمط الإنتاج الرأسمالي . ليس من علاج لمثل هذه الحالة سوى التخلي عن الإنتاج البضاعي وهو ما يعني التخلي عن نمط الإنتاج الرأسمالي الذي لا يتحقق إلا بالإنتاج البضاعي . لكن الإنتاج البضاعي هو الأساس لحياة الإنسان ولتحاشي انهياره يتوجب الإنتقال إلى الإشتراكية ؛ لكن الاشتراكية كان قد أطيح بها في موطنها الإتحاد السوفياتي وباتت سلطة البروليتاريا أثراً بعد عين . إذاك تهيأت الفرصة للرأسماليين في معسكر الرأسمالية الهروب من استحقاق الإشتراكية والتخلي عن الإنتاج البضاعي دون التخلي عن أزمّة الإقتصاد الوطني . اجتمع قادة الدول الغنية الخمسة (G 5) في رامبوييه في باريس في نوفمبر 1975 للبحث في معالجة أزمة النظام الرأسمالي القاتلة هذه المرة، فاجترحوا خطة شيطانية تهوي بالبشرية في هاوية لا قعر لها . قرر هؤلاء الحرامية والنصابون نقل القيمة من البضاعة إلى النقود . خلافاً للقانون الأساسي في الاقتصاد، والإقتصاد الرأسمالي بصورة خاصة، فالقيمة هي منتوج عمل بشري نافع يتمثل بسلعة مادية ملموسة حيث الخدمات لا قيمة لها في الأصل طالما أنها تستعير كل قيمتها التبادلية من قيمة البضائع . أما النقود فلا قيمة لها بعد تجريدها من قيمتها الاستعمالية كمعاير للقيمة الرأسمالية للبضاعة ؛ وعندما تفقد البضاعة قيمتها الرأسمالية كما في الحياة الشيوعية لن يكون هناك أدنى قيمة للنقود وستختفي من حياة الإنسان نهائياً .
عندما قرر الخمسة الأغنى في العالم أن القيمة تتأسس أصلاً في النقد الذي يقررون هم قيمته تعسفاً وليس مقدار ما ينتجون من بضاعة كما هو قانون العمل الإنساني، إذاك تخلى الرأسماليون عن الإنتاج البضاعي وطفقوا يبحثون عن وسائل تضخيم خزائنهم من الأموال مثل مضاربات البورصة وليس عن طريق إنتاج البضاعة وانحدر هؤلاء القوم من الطبقة الرأسمالية إلى الطبقة البورجوازية الوضيعة واختفت بذلك تلك الطبقة التي تنتج حفاري قبورها .

في المعسكر الاشتراكي هربت البورجوازية الوضيعة السوفياتية من الاستحقاق الإشتراكي عن طريق إنتاج الأسلحة، وفي المعسكر الرأسمالي هربت الطبقة الرأسمالية ثم البورجوازية الوضيعة من الاستحقاق الإشتراكي عن طريق إنتاج الخدمات . لكن كلا الأسلحة والخدمات ليستا إنتاجاً بضاعياً ولا قيمة لهما .
البورجوازية الوضيعة في العالم تهرب مذعورة من استحقاق الإشتراكية هروباً فوضوياً وهي لذلك تقود البشرية جمعاء إلى الهاوية السحيقة والكارثة الكونية .