مدرسة فرانكفورت ونظريتها النقدية


ابراهيم الحيدري
2015 / 6 / 4 - 00:45     



ان التعريف بالنظرية النقدية بعجالة أمر ليس بهين، بعد ان أصبحت أساساً لأغلب النظريات والاتجاهات النقدية الحديثة ، وخاصة في الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس والانثروبولوجيا وحتى في الأدب والفن والموسيقى، محاولين قدر الامكان توضيح مبادئها الرئيسية وتوضيح نتائجها على تطور التفكير الاجتماعي والحركات الاجتماعية والثقافية والسياسية في الغرب.
ومن أهم الأسس التي تقوم عليها هذه النظرية هو النقد، وهو فن الحكم، أي الفصل بين الحقائق واستخلاص الصحيح من الخطأ. وهو أداة تحكيم عقلانية هدفها تهيئة الوعي وإعادة الاعتبار للذات الإنسانية. انه محاولة جادة لفهم العالم وتغيره وتطوير عقل نقدي واع يرسخ ثقافة التساؤل والابداع.
أما محرك النقد فهو الشك بالحقيقة الكلية والجزئية وان الشك يعكس بدوره معرفة أخرى، شرط ان يكون النقد داخليا وعقلانيا ويهتم بالموضوع وليس بالشكل. إذن النقد هو جدل العقل للنظر الى الأمور بحكمة وعقلانية.
ارتبط النقد والنقد الذاتي بعصر التنوير وهو عصر التحرر والتقدم والعقلانية، الذي اساسا الى عامنوئيل كانت الذي قال : " بان عصرنا هو عصر النقد، وان كل شيء ينبغي ان يخضع للفحص النقدي بهدف قبوله او رفضه، وبالتالي اصدار حكم عقلاني على ذلك". ويرتبط النقد بالحرية لأن ممارسته تحتاج الى الحرية. فجوهر النقد هو الحرية، أما النقد الذاتي فهدفه معرفة الذات ومحاكمتها لمعرفة مواطن القوة والضعف فيها ومن ثم تقييم وتقويم الذات لمواجهة السلبيات وإعادة بنائها من جديد على أسس عقلانية.
تمتد النظرية النقدية في أصولها الفكرية الى عصر التنوير والفلسفة الألمانية المثالية الموضوعية وخاصة عمانوئيل كانت وهيغل والهيغليون الشباب حيث تمرد الهيغليون الشباب على الجانب التأملي المحافظ في فلسفة هيغل المثالية، التي تفتحت، في ذات الوقت، عن المنهج الديالكتيكي الهيغلي. وكان على رأسهم كارل ماركس وبونو بوير ولودفيغ فيورباخ وغيرهم، الذين اطلق عليهم «الهيغليون الشباب» الذين اسسوا عام 1841 «حوليات الأدب والفن»، وأرسوا دعائم فلسفة اجتماعية جديدة رفضت الفكر الفلسفي التقليدي، مثلما رفضوا النظام الاجتماعي القائم ومؤسساته.
ومن الممكن ايجاز أسس النظرية النقدية في ثلاث نقاط هي :

أولا- تأسيس نظرية نقدية للمجتمع: ان ما قامت به النظرية النقدية هو محاولة لصياغة نظرية نقدية جديدة وعلم اجتماع نقدي له مفاهيمه الخاصة وميدانه المحدد، كبديل للفلسفة التقليدية وعلم الاجتماع الوضعي والامبيريقية التي مارست انواعاً من السلطة التي هدفت الى تقويض طوعي في تاريخ الفلسفة وعلم الاجتماع، الذي أجبر النظرية على التراجع. وعلى النظرية النقدية ان تستغني عن المماثلة والأحكام المسبقة والقاطعة وان تكون موضوعية.
ان هدف النقد هو اتخاذ موقف سلبي يهدف أساساً الى توجيه المعرفة الذاتية نحو المجتمع ونحو مصلحة عقلانية ايجابية، وهو ما مكنها من ان تكون فلسفة اجتماعية هدفها نقد المجتمع وتعريته من خلال نقد النظام القائم والكشف عن جوانب الخلل فيه ورفضه إذا كان سلبياً. وبمعنى آخر تعرية المجتمع الصناعي- البرجوازي وعقلانيته التكنولوجية وما يرتبط بها من أيديولوجية.
ثانيا- ديالكتيك النظرية والممارسة : وهو المحور الاساسي للمناقشات الحادة التي دارت حول تفسير ماركس للعلاقة بين النظرية والممارسة(الوحدة بين النظرية والتطبيق). وقد تبلور مفهوم جديد للنظرية باعتبارها مرشدة للعمل وتوجيه للفعل الاجتماعي. اما الممارسة فهي نوع من السلوك الذي ينبثق من الداخل, أي من نفسه وليس خارجيا, أي من خلال التفاعل والصراع في حياة البشر. وهو سلوك لا يخضع للضغط او المراقبة من قبل الآخرين. وهكذا ظهر معيار جديد للممارسة يربط الممارسة بالنظرية في وحدة ديالكتيكية, وبمعنى آخر يجب ان تطعم الممارسة بادراك نظري دوما ومن منطلق نقدي. وان تكون في الاخير هدفا لكل فعالية ثورية.
ثالثا- من نقد الفكر الى نقد المجتمع : انطلق رواد مدرسة فرانكفورت في نقدهم الفلسفي والاجتماعي من رفضهم للنظام الاجتماعي القائم وايديولوجيته. ولم يكتفوا بنقد الأفكار والنظريات وانما انتقلوا من نقد الأفكار الى نقد المجتمع ومؤسساته وخاصة الصناعية والرأسمالية وكذلك وسائل الاتصال التي تدعم ذلك والمجتمع الاستهلاكي الذي يمتلخ الافراد من جذورهم ويجعلهم يلهثون وراء بريق المدنية الزائف. كما يجب تجاوز النقد الادبي الى النقد الاجتماعي والثقافي والفلسفي والفني وحتى في العلوم الطبيعية.
وقد تمثلت النظرية النقدية بعدد من المفكرين الاجتماعيين الذين ينتمي الغالبية منهم الى «اليسار الأوروبي» بعامة والألماني بخاصة، وفي مقدمتهم هوركهايمر وأدورنو وماركوزه الذين سبقوا غيرهم في اثارة كثير من التساؤلات المعرفية التي تدعو الى الشك والقلق والجدل، عن طريق نقدهم الفلسفي والاجتماعي والسياسي.

هناك عوامل ذاتية وموضوعية دفعت الى نشوء النظرية النقدية وتطورها وهي:-
-1آثار الحرب العالمية الاولى: اضافة الى الآثار الاجتماعية والنفسية والاقتصادية الوخيمة التي خلفتها الحرب العالمية الاولى من مآسي دامية وقتل وخراب ودمار وازمات حادة, فان آثارا حاسمة حدثت كنتائج مباشرة للحرب وهي :
-2 قيام أول دولة اشتراكية في روسيا واصبحت حقيقة واقعة عام 1917
3- قيام جمهورية فايمار عام 1919 -1933 بقيادة الاشتراكيين الديمقراطيين. وكان هدف الجمهورية الفتية الاول هو تحقيق الاشتراكية. وقد سقطت جمهورية فايمار عام 1933 بعد صعود النازيين الى الحكم.
4- فشل الحركات العمالية في اوربا وتحولها عن اهدافها الطبقية، بعد ان تحولت نقابات العمال الى شركات مساهمة.
في ماي من عام 1924 التقى عشرون مفكرا في احد فنادق فرانكفورت وعقدوا ندوة " احياء الماركسية ". وكان من بين المشاركين في الندوة كارل كورش وجورج لوكاش وفردريك بولاك وفلكس فايل وكارل اوغست فتفوغل وهوركهايمر. وناقشت الندوة مايلي: الماركسية والفلسفة، الاستقلالية النسبية للعلوم الاجتماعية، أزمة علم الاجتماع وارتباطها بأزمة المجتمع البرجوازيوأزمة والمجتمع الرأسمالي. وخلال الندوة تبلورت فكرة تأسيس معهد للبحث الاجتماعي في جامعة فرانكفورت ووضع اللبنات الأولى لنظرية نقدية للمجتمع تقف امام النظريات الاجتماعية التقليدية والوضعية التي سيطرت وما تزال تسيطر على الفكر في الجامعات الألمانية.
وكان كتاب "التاريخ والوعي الطبقي" 1922 اثار ضجة واسعة بين اليسار الجديد بسبب تجديده للفكر الماركسي ونقده للديالكتيك المادي لانجلز الذي اعطى أهمية كبيرة لدور الحزب والطليعة، حيث ربط لوكاش بين نظرية لينين في دور الطليعة القائدة (الحزب) ونظرية روزا لوكسمبورغ لدور الوعي الجماهيري, او الدور الحقيقي للطبقة الثورية التي تمتلك الوعي الحقيقي.
وكانت " قهوة ماركس" في فرانكفورت قد بدأت باستقطاب اليسار الالماني وبصورة خاصة اعضاء مدرسة فرانكفورت بحيث كونت حلقة وصل بين المعهد في فرنكفورت ومعهد ماركس وانجلز في موسكو. وفي قهوة ماركس بدأ أسم هوركهايمر الذي كان من اشد انصار روزا لوكسمبورغ حينذاك, يلمع كواحد من ابرز رواد المقهى الفعالين . وبخاصة في نقده للمركزية البولشفية ونظرته النقدية الى الستالينية التي اضفت هالة على المادية التاريخية وحولتها الى دكما(عقيدة).
وقد تحققت فكرة تأسيس معهد البحث الاجتماعي في جامعة فرانكفورت عام 1923. وكان في مقدمة اهداف المعهد القيام بدراسات ميدانية نقدية تربط النظرية بالممارسة العملية بطريقة ديالكتيكية والاسترشاد بالفلسفة الماركسية واصدار مجلة البحث الاجتماعي 1931 .
وفي منتصف الثلاثينات اضطر اغلب أعضاء مدرسة فرانكفورت الى الهرب الى فرنسا وبريطانيا ومنهما الى أمريكا. وهناك استطاعوا نشر أهم أفكارهم في النظرية النقدية قبل عودتهم الى المانيا في الخمسينات من القرن الماضي.