لا سياسة بلا اقتصاد (2)


فؤاد النمري
2015 / 5 / 29 - 12:15     

في المجتمعات الحديثة أخذ الإعلام بمختلف أجناسه يأخذ دوراً متزايداً في تشكيل الرأي العام والتأثير المباشر في مسرى الصراع الطبقي والتطور الإجتماعي بالتالي . ولذلك بتنا نرى الصحافة بصورة عامة سواء كانت ورقية أم ألكترونية تؤكد قيمتها السوقية عن طريق الاعتماد المتزايد على كتاب الأعمدة وخاصة أولئك المعروفون بالوعي وبالإستقلالية . ومثلها تفعل المحطات الفضائية حيث تستجلب من تسميهم "المحللين الاستراتيجيين" ليحللوا المسائل السياسية للمشاهدين .
لكن كم هؤلاء الكتاب والمحللون يعبرون عن سياسات حقيقية وصحيحة فذلك يعتمد بالدرجة الأولى على مدى علمهم بدورة الإقتصاد العالمي وبوحدته العضوية وهو مدىً ضيّق بل ومعدوم في الغالب الأعم . يبدي بعضهم براعة في وصف العلاقة بين الكتل السياسية في مجتمع بعينه أو بين الدول المختلفة لكن أن تتصارع هذه الكتل السياسية أو الدول بالسيوف أم بالبنادق،، فأمر لا يكشف عن الحرب وأسبابها وهو أمر ليس من السياسة بشيء . السياسة هي الكشف عن أسباب الحرب وتبريراتها ؛ لماذا قامت، وما هي مشروعية أهدافها . يطالع المرء كبرى الصحف العالمية وأشهر كتاب الأعمدة فيها، كما يتابع كبار المحللين الاستراتيجيين وغير الاستراتيجيين على شاشات التلفزة دون أن يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود ! هل انتهى التاريخ ولم يعد هناك أي صراع طبقي يضيف صفحات أخرى إلى سجله !!؟ لا يمكن أن يكون هذا طالما هناك سوق تعرض فيها مختلف المنتوجات كأصنام مترابطة بشبكة القيمة (Value) . تلك هي ساحة المعركة حيث تسيل الدماء في حروب طبقية مسعورة، ومع ذلك لا يشعر بها الكتاب والمحللون الاستراتيجيون الذين لم يدركوا بعد أن لا سياسة بلا اقتصاد .

أحد هؤلاء الكتاب والمحللين قال في مقالة له مؤخراً أن مجمل الإنتاج الأميركي السنوي الذي يزيد على 17 ترليون دولاراً هو المحرك للإقتصاد العالمي . رغم كل إعوجاج في هذا القول فهو على الأقل يشير ولو من بعيد على الفحوى الإقتصادية للعمل السياسي . صحيح أن الإحصاءات الأميركية تقول أن مجمل الإنتاج السنوي للولايات المتحدة هو أكثر من 17 ترليون دولار، لكن كيف يمكن الإفتراض أن مثل هذا الكم الهائل من الدولارات هو عينه المحرك للإقتصاد العالمي !؟ لو تفحصنا مجمل الإنتاج الأميركي بعمقه التراكمي بكل موضوعية لوجدنا أن هذا الكم الهائل قد نتج أساساً عن ترليون ساعة/عمل بافتراض أن المعدل العام لقيمة ساعة/عمل في أميركا هو 17 دولارا بالمتوسط، وهو بظني إفتراض أقل من قيمته الإسمية، الأمر الذي يعني أن قوى العمل في الشعب الأميركي عملت في الإنتاج ترليون ساعة حتى أنتجت ما قيمته 17 ترليون دولاراً .
وبالمقابل فإن إحصاءات صندوق النقد الدولي تقول أن مجمل الإنتاج القومي للصين مثلاً هو 10 ترليون دولار أي ما يعادل حوالي 60% من مجمل الانتاج الأميركي . ولكن لما كانت ساعة/عمل في الصين تقل قيمتها عن دولارين بالمعدل فذلك يعني أن قوى العمل في الشعب الصيني اشتغلت في الإنتاج 5 ترليونات ساعة/عمل كي تنتج ما قيمته 10 ترليون دولاراً . وهو ما يشير إلى أن الصين اشتغلت في الإنتاج خمسة أضعاف ما اشتغلت أميركا ولا بد بالتالي أن يكون مجمل الانتاج في الصين يساوي خمسة أضعاف مجمل الإنتاج في أميركا إلا إذا كانت فعالية ساعة/عمل في أميركا تساوي عشرة أضعاف فعالية ساعة/عمل في الصين، وهذا ليس من العقل بشيء، بل ثمة دلائل تقطع بأن فعالية ساعة/عمل في الصين تساوي 2.5 فعالية ساعة/عمل في أميركا . فالأرقام الأميركية تقول أن أكثر من 80% من مجمل الإنتاج الأميركي هو من الخدمات التي لا تضيف إلى الثروة الوطنية أية قيمة حقيقية حيث يتم استهلاك كامل قيمة الخدمة قبل الإنتهاء من إنتاجها حتى لا يبقى منها أي أثر . وبافتراض أن حصة الخدمات من مجمل الإنتاج في الصين لا تزيد عن 50%، ولعلها أقل من ذلك، فذلك يعني أن ساعة/عمل أميركية تنتج 20 وحدة إنتاج مادي بينما ساعة/عمل صينية تنتج 50 وحدة إنتاج مادي . ومن هنا فكمية العمل الأميركي وهو ترليون ساعة/عمل تنتج 20 ترليون وحدة إنتاج مادي بينما كمية العمل الصيني وهي 5 ترليون ساعة/عمل تعطي 250 ترليون وحدة إنتاج مادي . وهكذا يمكن التحقق من أن مجمل الإنتاج الصيني يساوي 7.5 أضعاف مجمل الإنتاج الأميركي بعد الإهمال التام لإنتاج الخدمات التي لا تضيف في الحقيقة أية قيمة للإنتاج الوطني .

الكشْف عن الحجم الحقيقي لمجمل الإنتاج الأميركي لم يصلح الإعوجاج الذي إعوجّه محللنا فيما يخص محرك الإقتصاد العالمي، فالإولى وفق مثل هذا التحليل أن يكون مجمل الإنتاج الصيني هو محرك الإقتصاد العالمي . لكننا نعلم تمام العلم أن محرك الإقتصاد الصيني هو الحصول على الدولارات الأميركية وليس على فضل القيمة كما هو حال الإقتصاد الرأسمالي وهو ليس حال الإقتصاد الصيني . لو قال محللنا المعوج أن الدولارات الأميركية هي محرك الإقتصاد العالمي لما ترك مطعنا في مبدائه الجديد المعولم . نحن نوافق على أن المحرك الجديد لكل اقتصادات العالم هو الدولار وليس فضل القيمة كما كان في السابق والفرق كبير بين الحالتين وذلك ليس لأن دولار اليوم لا يساوي أمثر من 5 سنتات من دولار السبعينيات بل لأن الحصولا على الدولارات لا يتم عن توظيف الأيدي العاملة بل عن طرائق كثيرة أخرى ولذلك انكمشت مساحة الطبقة العاملة في العالم بما يزيد عن 60% في دول الرأسمالية الكلاسيكية مثل بريطانيا والولايات المتحدة .
إنكماش الطبقة العاملة في بلدان الرأسمالية الكلاسيكية يدل دلالة صارخة على أن فضل القيمة لم يعد هو المحرك لاقتصادات هذه الدول التي لم تعد رأسمالية تبعاً لذلك . كان بليخانوف " أبو الماركسية في روسيا " ينتقد مشروع لينين لأنه لم ينتظر تطور النظام الرأسمالي في أوروبا الغربية لتشكل الطبقة العاملة الأكثرية في بلدان أوروبا الغربية وفقاً لخصيصة النظام الرأسمالي، وما عساه يقول اليوم وهو يرى بأم عينية الطبقة العاملة تنكمش في البلدان الرأسمالية الكلاسيكية وفي الولايات المتحدة، آخر حصون الرأسمالية، تنكمش بنسبة 60% . هل ما زال بإمكان "أبو الماركسية" الإدعاء أن فضل القيمة هو المحرك للأنظمة الإقتصادية الماثلة اليوم في العالم !؟
واذا لم يكن فضل القيمة هو المحرك فما هو المحرك الحقيقي لاقتصادات العالم الماثلة اليوم ؟
هذا هو السؤال الحدي الذي يفرض نفسه على جميع السياسيين من الماركسيين ومن غيرهم .
الإجابة الصحيحة على هذا السؤال الحدّي تحدد وحدها ولادة عمل سياسي جديد مختلف، بالإضافة إلى أنها تكشف زيف دعاوى الديموقراطية والتعددية والعدالة الإجتماعية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة التي يستفيء إليها سياسيو البورجوازية الوضيعة . إنها تكشف كل الزيف الذي تعوم فوقة مختلف القوى السياسية في كافة المجتمعات وفي مجتعاتنا العربية بشكل خاص .

(يتبع)