النبي والبروليتاريا


كريس هارمان
2017 / 7 / 18 - 23:32     

مقدمة الطبعة العربية
فشلت قوى اليسار في مصر والعالم العربي في اتخاذ موقف ثوري تجاه صعود الحركة الإسلامية، فقد انقسم اليسار بين فريقين رئيسيين الأول يعتبر أن الحركة الإسلامية فاشية ويبرر بذلك تأييده للقمع الوحشي الذي تمارسه الأنظمة الحاكمة ضدها، بينما يرى الفريق الآخر أن الحركة الإسلامية ذات طابع تقدمي وبالتالي يمكن التحالف الكامل معها وتذيلها، والواقع أن كلا الموقفين يفتقر إلى التحليل السليم لطبيعة الحركة الإسلامية وأسباب قدرتها على حشد قطاعات كبيرة من الجماهير خلف شعاراتها، هكذا فشل اليسار في بناء استراتيجية صحيحة للتعامل مع الحركة الإسلامية مما ساعد هذه الحركة على الاستفادة من التخبط الذي ساد في أوساط اليساريين وكسب تأييد العديد من الشرائح الاجتماعية الراغبة في تغيير المجتمع بسبب تنامي الأزمة التي تعاني منها تلك الشرائح.
إن هدف هذه الكراسة هو كشف هذا الفشل وتوضيح النتائج المأساوية للمواقف التي اتخذها اليسار في دول مثل مصر والجزائر وإيران والسودان، والتأكيد على ضرورة فهم الأساس الطبقي للحركة الإسلامية كمقدمة لفهم التناقضات التي تظهر بوضوح داخل الحركة بشقيها المعتدل والمتطرف وبالتالي تحديد الموقف الماركسي الثوري المستقل تجاهها.
لقد أصبح من الضروري الآن بناء استراتيجية ماركسية ثورية تكون قادرة على نقد وكشف طوباوية ورجعية المشروع الإسلامي لتغيير المجتمع، وطرح مشروع ثوري آخر، المشروع الاشتراكي الثوري. وأهم شرط في وضع هذه الاستراتيجية هو الاستقلال وعدم الخضوع لرؤية الطبقات الحاكمة وموقفها من الحركة الإسلامية، وأيضا عدم التهويل من إمكانيات الحركة الإسلامية مما قد يؤدي إلى تذيلها وليكن شعار هذه الاستراتيجية هو:
أحيانا مع الإسلاميين دائما ضد الدولة.
القاهرة - 1995

مقدمة
منذ الثورة الايرانية عام 1978-1979 على الاقل ويسيطر على العلم السياسى فى الشرق الاوسط وما وراءه الحركات الاسلامية. وهذه الحركات، بأسمائها المتعددة فى الغرب مثل " الاصولية الاسلامية "، والاسلامية، و" التوحيدية " و" الاسلام السياسى " و" الصحوة الاسلامية "، تطالب باحياء المجتمع من خلال العودة الى التعاليم الاولى للنبى محمد. وقد أصبحت قوة رئيسية فى ايران والسودان ( حيث ما زالت تسيطر على السلطة ) ومصر والجزائر وطاجيكستان ( حيث تشتبك فى صراع مسلح مرير ضد الدولة ) وأفغانستان ( حيث يشتعل القتال ما بين الحركات الاسلامية المتصارعة منذ انهيار الحكومة المؤيدة للروس ) وفى الضفة الغربية المحتلة فى الأردن ( حيث تتحدى بكفاحيتها السيطرة القديمة لمنظمة التحرير الفلسطينية على المقاومة الفلسطينية)، وفى باكستان ( حيث تشكل جزءا كبيرا من المعارضة )، وحديثا فى تركيا ( حيث يسيطر حزب الرفاه على اسطنبول وأنقرة ومقاطعات كثيرة أخرى ).
وقد كان صعود هذه الحركات صدمة هائلة للانتليجنتسيا الليبرالية وأحدث موجة من الفزع بين هؤلاء الذين اعتقدوا أن " التحديث "، الذى جاء بعد الانتصار الكامل للصراعات المعادية للاستعمار فى الخمسينات والستينات، سيؤدى حتما الى مجتمعات أكثر استنارة وأقل قهرا.
وبدلا من ذلك يشهدون صعود قوى تبدو أنها تتطلع الى الوراء الى مجتمعات أكثر حصارا وتدفع النساء الى الحجاب، وتستخدم الارهاب لتحطيم الفكر الحر، وتهدد بتوقيع عقوبات همجية على من يتحدون قراراتها. وفى بلاد مثل مصر والجزائر يقف الليبراليون الآن بجانب الدولة، التى اضطهدتهم وسجنتهم فى الماضى، فى الحرب التى تشنها ضد الاحزاب الاسلامية.
ولكن لم يكن الليبراليون وحدهم الذين اندفعوا فى التخبط بسبب صعود الحركة الاسلامية. بل وأيضا اليسار. فلم يعرف كيف يتعامل مع ما يراه نظرية ظلامية، تساندها قوى رجعية تقليدية، وتتمتع بالنجاح فى أوساط بعض الجماعات الأشد فقرا فى المجتمع. ونتج عن ذلك نظريتين متعارضتين.
الأولى كانت النظر الى الحركة الاسلامية على أنها تناسخ رجعى، كنوع من الفاشية. وعلى سبيل المثال، كان هذا موقف أكاديمية فريد هاليداى الذى اتخذته بعد الثورة الايرانية مباشرة، فأطلقت على النظام الايرانى "اسلاميا ذا وجه فاشى". وتبنى هذه الرؤية الكثير من اليساريين الايرانيين بعد تعزيز نظام الخومينى فى 1981 - 1982. وهذه الرؤية يتقبلها أيضا الكثير من اليساريين فى مصر والجزائر اليوم. وهكذا، مثلا، ترى أحد المجموعات الماركسية الثورية فى الجزائر أن مبادئ وأيديولوجية وسياسات جبهة الانقاذ الاسلامية مماثلة لأفكار وسياسات الجبهة الوطنية فى فرنسا، وأنها تيار فاشى.
مثل هذا التحليل ينتهى عمليا بسهولة الى بناء أحلاف سياسية لايقاف الفاشيين بأى ثمن. وهكذا انتهت أكاديمية هاليداى الى أن اليسار فى ايران قد أخطأ فى عدم بناء أحلاف مع " البرجوازية الليبرالية " فى 79-1981 فى مواجهة الأفكار والسياسات الرجعية للخومينى. وفى مصر اليوم، يؤيد اليسار، الذى يسيطر عليه تيار شيوعى سائد، الدولة بقوة فى حربها ضد الاسلاميين.
وقد كانت وجهة النظر المضادة هى النظر الى الحركات الاسلامية كحركات " تقدمية " للمقهورين " فى مواجهة الامبريالية ". كان هذا هو الموقف الذى تبناه الجزء الاعظم من اليسار الايرانى فى المرحلة الأولى من ثورة 1979، عندما دعى حزب تودة الموالى للسوفيت، وغالبية منظمة عصابات الفدائيين، ومجاهدو الشعب الاسلامى اليساريون، القوى التى يقودها الخومينى بأنها " البرجوازية الصغيرة التقدمية ". وكانت نتيجة هذه الرؤية هى أن الخومينى بالفعل يستحق التأييد المطلق. وقبل ذلك بربع قرن تبنى الشيوعيون المصريون باختصار نفس الموقف نحو الاخوان المسلمين، داعين اياهم للمشاركة فى " نضال مشترك ضد ‘ الديكتاتورية الفاشية ‘ لعبد الناصر ومن يساندونه من الامريكان والانجليز".
وأريد أن أوضح أن كلا الموقفين خطأ. لانهما يفشلان فى تحديد الطبيعة الطبقية للحركة الاسلامية الحديثة - أو فهم علاقتها برأس المال، والدولة والامبريالية.




الاسلام - الدين والايديولوجية
يبدأ الخلط غالبا بالتخبط حول قوة الدين نفسه. فيراه المتدينون أنه قوة تاريخية لذاتها، سواء أكان خيرا أم شرا. وكذلك أيضا يفعل معظم البرجوازيين المعادين للدين من أنصار الفكر الحر. وبالنسبة لهم، يكمن طريق التحرر البشرى فى محاربة تأثير المؤسسات الدينية والافكار الغيبية فى ذاتها.
ولكن برغم أن المؤسسات والأفكار الدينية تلعب دورا بارزا فى التاريخ، فان ذلك لا يحدث بالانفصال عن بقي الواقع المادى. فالمؤسسات الدينية تنمو، بطبقاتها من الكهنة والمعلمين، فى مجتمع معين، وتتفاعل مع هذا المجتمع. وهى لا تستطيع البقاء فى مجتمع متغير الا اذا وجدت طريقة ما لتغيير قاعدة تأييدها. لذلك، مثلا، عاشت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، التى تعود أصولها الى أواخر العهد القديم، من خلال التأقلم بداية مع المجتمع الاقطاعى لمدة الف عام، وبعد ذلك بذلت مجهودا أكبر فى التأقلم مع المجتمع الرأسمالى الذى حل محل لاقطاعية، مغيرة الكثير من جوهر تعاليمها فى العملية. ان الناس دائما قادرون على اضفاء تفاسير متنوعة على الافكار الدينية التى يعتنقونها، تعتمد على موقعهم المادى، وعلاقاتهم بالآخرين والصراعات التى ينخرطون فيها. والتاريخ ملئ بأمثلة لأناس يعترفون بالمعتقدات الدينية بصورة نموذجية تقريبا، وينتهون الى الجانب العكسى فى الصراعات الاجتماعية الكبرى. حدث ذلك مع التمزق الاجتماعى الذى اجتاح أوروبا أثناء الازمة الكبرى للاقطاعية فى القرنين السادس عشر والسابع عشر، عندما طرح لوثر، وكالفن، ومانزر وآخرون كثيرون من القادة الدينيين على أتباعهم وجهة نظر متكاملة جديدة من خلال اعادة تفسير النصوص المقدسة.
ان الاسلام لا يختلف من هذه النواحى عن أى دين آخر. فمن جانب، نشأ الاسلام فى مجتمع تجارى فى بلاد العرب فى القرن السابع عشر، فى وسط مجتمع يسود فيه نظام قائم على أساس قبلى. وقد ازدهر خلال سلسلة من الامبراطوريات العظمى التى انقسمت بواسطة بعض هؤلاء الذين أمنوا بنظرياته. وهو يقوم اليوم كأيديولوجية رسمية لدول رأسمالية عديدة ( السعودية والسودان وباكستان وايران.. الخ)، وكذلك هو مصدر الالهام لكثير من الحركات المعارضة.
وقد أمكنه الاستمرار فى هذه المجتمعات المختلفة لانه استطاع التكيف مع مصالح طبقية متغيرة. وبالتالى توفرت له الاموال لبناء المساجد وتعيين الدعاة من التجار العرب، والبيروقراطيين، وملاك الاراضى، وتجار الامبراطوريات العظمى، والصناعيين فى الرأسمالية الحديثة. ولكنه حظى فى نفس الوقت بولاء الجماهير من خلال توصيل رسالة تتضمن تعزية للفقراء والمقهورين. وفى كل مناسبة كانت هذه الرسالة توازن بين الوعد بدرجة من الرعاية للمقهورين وتوفير الحماية للطبقات المتسغلة ضد أى انتفاضة ثورية.
هكذا يؤكد الاسلام على أنه يجب على الاغنياء سداد ضريبة اسلامية تعادل 2,5 % ( الزكاة ) لمساعدة الفقراء، وأن الحكام يجب أن يحكموا بالعدل، وأن الازواج يجب أن يحسنوا معاملة الزوجات. ولكنه أيضا يعتبر مصادرة الفقراء لاموال الاغنياء سرقة، ويؤكد على أن الخروج على حكومة " عادلة " جريمة يجب معاقبتها بأقصى العقوبات التى يقرها القانون، ويمنح النساء حقوقا أقل من الرجال فى الزواج، وفى الميراث، وفى الاولاد فى حالة الطلاق. انه يجذب الاغنياء والفقراء على حد سواء بتنظيم عملية الاضطهاد، فيشكل حماية ضد كل من الاضطهاد الاشد وضد الثورة. انه مثل المسيحية، والهندوسية والبوذية يمثل كلا من القلب فى عالم بلا قلب وأفيون الشعوب.
ولكن لا يمكن أن يكون لمجموعة من الافكار مثل هذه الجاذبية لمختلف الطبقات، خاصة عندما يعانى المجتمع من توترات اجتماعية حادة، الا اذا كانت مليئة بالغموض. فلابد أن تستجيب لتفسيرات مختلفة، حتى وان أدى هذا الى صراع بين مؤيديها.
كان هذا صحيحا بالنسبة للاسلام منذ بدايته. فبعد موت محمد فى عام 632 ميلادية، أى بعد عامين فقط من دخول الاسلام مكة، انفجر الشقاق بين أتباع أبو بكر، الذى أصبح أول خليفة لمحمد فى قيادة المسلمين، وعلى، زوج فاطمة ابنة النبى. رأى على أن بعض أحكام أبو بكر كانت قمعية. وتزايد الشقاق حتى حاربت الجيوش الاسلامية المتصارعة بعضها البعض فى موقع الجمل التى نتج عنها عشرة الاف قتيل. وكان نتيجة لهذا الشقاق أن ظهر الانفصال بين رؤيتى الشيعة والسنة الاسلاميتين. لم يكن هذا الا أول الانشقاقات العديدة. فقد ظهرت مجموعات متتالية أصرت على أن المضطهدين كانوا يعانون على يد الملحدين وطالبت بالعودة الى الاسلام "الحقيقى" لزمن النبى. وكما يقول "أكبر أحمد":

على مدى التاريخ الاسلامى، كان القادة الاسلاميون يدعون الى العودة الى النموذج. وقد عبروا غالبا عن حركات اجتماعية أو سياسية عرقية غامضة. ووضع الاساس للانتقال الكلى الحاد فى الفكر الاسلامى من الشيعة، بامتداداتها مثل الاسماعيلية، الى حركات أكثر معاصرة. والتاريخ الاسلامى ملئ بالمهديين الذين يقودون التمرد ضد السلطة المسيطرة وغالبا ما يموتون بسبب ذلك. وغالبا ما كان القادة من فقراء الفلاحين أو الجماعات العرقية المحرومة. وقد عزز استخدام لغة اسلامية احساسهم بالحرمان ودعم الحركة.

ولكن حتى التيار السائد من الاسلام، فى أشكاله الشعبية على الاقل، لا يشكل مجموعة متجانسة من الافكار. فقد أدى انتشار الدين الاسلامى ليشمل كامل المنطقة من ساحل الاطلنطى فى الشمال الغربى لافريقيا الى مضيق البنغال الى احتواء شعوب داخل المجتمع الاسلامى أدخلت على الاسلام الكثير من ممارساتها الدينية القديمة، حتى وان تناقض هذا مع بعض مبادئ الاسلام " الحقيقى ". لذلك غالبا ما يحتوى الاسلام الشعبى على فرق للقديسين ( المشايخ ) المحليين أو الاثار المقدسة برغم أن الاسلام العقائدى يعتبر مثل هذه الممارسات وثنية لا تحترم المقدسات. وانتشرت الطرق الصوفية، برغم أنها لا تشكل منافسا رسميا للاسلام السائد، مؤكدة على الجانب الاسطورى والغيبى الذى يعترض عليه الكثير من الاصوليين.
فى ضوء ذلك، فان أى دعوة للعودة الى ممارسات عصر النبى ليست فى الواقع دعوة للحفاظ على الماضى ولكن دعوة لاعادة تشكيل سلوك الناس على شئ ما مختلف تماما.
كان هذا صحيحا بالنسبة لحركة الاحياء الاسلامى على مدى القرن الماضى. فقد نشأت كمحاولة لاستيعاب الاحتلال المادى والتحول الثقافى لآسيا وشمال افريقيا من قبل أوروبا الرأسمالية. فقد نادى زعماء هذه الحركة بأن هذا كان ممكنا فقط لأن القيم الاسلامية قد شوهت بسبب المطامع الدنيوية للامبراطوريات العظمى فى القرون الوسطى. وكان الاحياء ممكنا فقط ببعث روح اسلام مرحلة التأسيس التى عبر عنها الخلفاء الاربعة الأوائل ( أو الى عبر عنها على بالنسبة للشيعة ). وعلى سبيل المثال، كانت هذه الروح هى التى مكنت الخومينى من الانكار الفعلى لكل التاريخ الاسلامى خلال ال 1300 عام الماضية:
" لسوء الحظ، استمر الاسلام الحقيقى لمدى بسيطة فقط بعد نزوله. عانى الاسلام فى ظل الامويين (أول حكم عربى وراثى بعد على) ثم العباسيين ( الذين هزموهم فى عام 750 ميلادية) من كافة أشكال التشويه. وبد ذلك استمر الملوك الذين حكموا ايران على نفس المنوال. لقد شوهوا الاسلام تماما وأقاموا شيئا آخر مختلفا فى مكانه."
هكذا، فرغم أن الافكار الاسلامية تقدم على أنها نظرية تقليدية تقوم على رفض العالم الحديث، من قبل كل من المدافعين عنها ومعارضيها، فان الامر فى الواقع أكثر تعقيدا من ذلك. فالتطلع الى اعادة خلق ماضى اسطورى يتضمن عدم ترك المجتمع الحالى كما هو، ولكن تدميره. والاكثر من ذلك، لا يمكن أن يهدف هذا التدمير الى انتاج نسخة كربونية من اسلام القرن السابع عشر، حيث لا يرفض الاسلاميون كل ملامح المجتمع الحالى. فهم، على أى حال يقبلون الصناعة الحديثة، والتكنولوجيا، والكثير من العلوم التى تعتمدا عليها- والحقيقة أنهم يرون أن الاسلام، كنظرية أكثر عقلانية وأقل خرافة من المسيحية، يتناسب أكثر مع العلم الحديث. ولذلك فان زعماء الصحوة الاسلامية فى الواقع يحاولون تقديم شئ ما لم يوجد أبدا من قبل، يصهر الموروثات القديمة مع أشكال الحياة الاجتماعية الحديثة.
هذا يعنى أنه من الخطأ اعتبار كل الاسلاميين ببساطة رجعيين، أو مساواة الاصولية الاسلامية ككل بأشكال الاصولية المسيحية التى تشكل حصن الجناح اليمينى فى الحزب الجمهورى فى الولايات المتحدة. ربما يستخدم زعماء مثل الخومينى، وزعماء جماعات المجاهدين المتصارعة فى أفغانستان، أو قادة جبهة الانقاذ الاسلامية فى الجزائر، نظريات تقليدية ويشكلوا عنصر جذب لحنين الطبقات الاجتماعية المتجهة الى الفناء الى الماضى، ولكنهم أيضا عنصر جذب للتيارات الثورية الناتجة عند تحويل الرأسمالية للمجتمع، ويذكر أوليفر روى فى حديثه عن الاسلاميين الافغان أن:
" الاصولية مختلفة تماما (عن التقليدية): فتكون الاهمية القصوى بالنسبة للاصولية للعودة الى النصوص الدينية، مع تجنيب التباسات التراث. وتسعى دائما الى العودة الى حالة سابقة، وتتميزباعادة قراءة النصوص والبحث عن الاصول. وتعتبر عدوها التراث وليس الحداثة، أو بالاحرى، بالنسبة للاسلام، كل ما هو ليس تراث النبى. ان الاصولية اصلاح حقيقى للدين".

ان الاسلام التقليدى أيديولوجية تسعى للابقاء على نظام اجتماعى يدمره التطور الرأسمالى- أو على الاقل، الانتساب الى هذا النظام من أجل اخفاء تحول طبقة حاكمة قديمة الى رأسمالية حديثة، كما حدث بالنسبة للنموذج الذى طورته العائلة المالكة فى السعودية. الاسلام أيديولوجية تحاول تغيير المجتمع وليس الحفاظ على نمط الحياة القديم، برغم أنها تتفق مع نفس مبادئ اسلام الرسول. ولهذا السبب، حتى اصطلاح الاصولية ليس مناسبا بشكل حقيقى. وكما يلاحظ ابراهيميان:
"يتضمن اصطلاح " الاصولية" عدم مرونة دينية ونقاء ثقافى، وفكر سياسى تقليدى، بل ورؤية اجتماعية محافظة تقوم على محورية المبادئ النظرية للنصوص الدينية. ان الاصولية تتضمن رفض العالم الحديث"
ولكن الحركات المشابهة لحركة الخومينى فى ايران تستند فى الواقع على مواءمة أيديولوجية ومرونة ثقافية مع تمرد سياسى ضد النظام القائم، وقضايا اجتماعية واقتصادية تشعل المعارضة الجماهيرية للوضع القائم.
وبرغم ذلك، غالبا ما يوجد لبس حول الفروق بين الايديولوجية الاسلامية والايديولوجية التقليدية. وبالذات لأن نظرية الاحياء الاجتماعى مغلفة فى لغة دينية، فهى قابلة لتفسيرات مختلفة. ومن الممكن أن تعنى فقط القضاء على "السلوكيات السيئة" من خلال العودة الى أشكال السلوك المفترض أنها سبقت " تشويه " الاسلام الناتج عن "الاستعمار الثقافى". ويكون التشديد بالتالى على " احتشام " المرأة وارتداء الحجاب، ونهاية الاختلاط " الغير منظم " بين الجنسين فى المدارس وأماكن العمل، ومعارضة الموسيقى الشعبية الغربية، وهكذا. وهكذا استطاع على بلحاج، أحد القادة ذوى الشعبية الكبيرة فى جبهة الانقاذ الاسلامية الجزائرية، أن يستنكر " العنف " ضد المسلمين الناتج عن " الاحتلال الثقافى ":
" نعتقد نحن المسلمون أن أخطر أشكال العنف الذى نعانيه ليس العنف الجسدى، فنحن مستعدون له... بل العنف الذى يمثل تحديا للمجتمع الاسلامى من خلال فرض التشريع الشيطانى بدلا من الشريعة”.
هل هناك عنف أشد من ذلك الذى يتمثل فى احلال ما حرم الله؟ وفتح مؤسسات لصناعة الخمور( عمل الشيطان) يحميها البوليس؟ هل يمكن الاعتقاد فى أى عنف أشد من عنف تلك المرأة التى تحرق الحجاب فى مكان عام وأمام عيون الجميع، معلنة أن قانون الأسرة يضطهد المرأة وتجد من يؤيدها من المتشبهين بالنساء وأنصاف الرجال والمتحولين جنسيا.
ليس من العنف مطالبة المرأة بالمكوث فى البيت، فى جو من الطهر والحماية والتواضع وخروجها فقط فى حالات الضرورة التى يحددها المشرع، أو المطالبة بالفصل بين الجنسين بين طلبة المدارس، ومنع هذا الاختلاط المشين الذى يسبب العنف الجنسى."
ولكن الاحياء يمكن أن يعنى أيضا تحدى الدولة وعناصر السيطرة السياسية للامبريالية. هكذا أغلق الاسلاميون الايرانيون أكبر محطة اذاعة للولايات المتحدة فى آسيا واحتلوا سفارتها. ولعب حزب الله فى الجنوب اللبنانى ومنظمة حماس فى الضفة الغربية وغزة دورا رئيسيا فى الصراع المسلح ضد اسرائيل. ونظمت جبهة الانقاذ الاسلامية الجزائرية مظاهرات ضخمة ضد حرب الولايات المتحدة ضد العراق برغم انهم فقدوا التمويل السعودى نتيجة لذلك. بل أن الاحياء يمكن أن يعنى، فى حالات معينة، تأييد الصراع المادى ضد استغلال العمال والفلاحين، كما فعل المجاهدون الايرانيون فى 79-1982.
من الطبيعى أن تجذب التفسيرات المختلفة للاحياء هؤلاء الذين ينتمون الى طبقات مختلفة. ولكن الخطاب الدينى يمكنه أن يمنع معرفة الفروق بين هؤلاء المنخرطين فيه وبعضهم البعض. ففى حمية الصراع يستطيع الافراد الخلط بين المعانى، كذلك يبدو الصراع ضد تبرج المرأة كصراع ضد شركات البترول الغربية والبؤس الشديد لجماهير الشعب.
هكذا فى الجزائر فى أواخر الثمانينات بلحاج:
" جعل من نفسه صوتا لكل أولئك الذين ليس لديهم ما يفقدونه.. ودعا الى التطبيق الحازم لاوامر الاسلام من خلال فهمه له فى أنقى صورة دينية. أعلن بلحاج فى كل يوم جمعة الحرب على العالم ككل.وكان الهدف المفضل لخطبته الاسبوعية اليهود والمسيحيين والصهاينة والشيوعيين والعلمانيين والليبراليين والماديين، وحكومات الشرق والغرب، ورؤساء الدول عرب أو مسلمين وأعضاء الاحزاب المتفرنجة والمثقفين. "
وبرغم ذلك، يوجد خلف هذا التخبط فى الافكار مصالح طبقية حقيقية مؤثرة.





الاساس الطبقى للحركة الاسلامية
ظهرت الحركة الاسلامية فى مجتمعات عانت نتيجة لتأثير الرأسمالية - أولا فى شكل الاحتلال الخارجى من قبل الامبريالية، ثم من خلال التحول فى العلاقات الاجتماعية الداخلية المصاحبة لظهورطبقة رأسمالية محلية وتأسيس دولة رأسمالية مستقلة.

حلت طبقات اجتماعية جديدة محل الطبقات القديمة، برغم أن ذلك لم يحدث فورا أو بشكل واضح تماما. لقد تحقق ما وصفه تروتسكى أنه " التطور الموحد غير المتكافئ ". وقد تراجع الاستعمار فى الخارج، ولكن استمرت القوى الامبريالية العظمى - خاصة الولايات المتحدة- فى استخدام قواتها العسكرية كأداة مساومة للسيطرة على انتاج البترول، المورد الرئيسى والوحيد للشرق الاوسط. وفى الداخل، أدى تشجيع الدولة - وغالبا ملكيتها - الى تطوير بعض الصناعات الحديثة ذات الحجم الكبير، ولكن استمرت قطاعات كبيرة من الصناعة التقليدية، تعتمد على عدد هائل من الورش الصعيرة حيث يعمل المالك مر اثنين من العمال، غالبا من عائلته. وقد حول الاصلاح الزراعى بعض الفلاحين الر رأسمالية زراعية حديثة - ولكنه أزال عددا أكثر بكثير، تاركا اياهم بملكيات صغيرة أو بدون أرض، وهكذا دفعهم ال محاولةكسب العيش من خلال العمل الاضافى غير الثابت فى الورش أو أسواق المناطق الحضرية القذرة فى الاطراف. وانتج التوسع الهائل فى نظام التعليم عددا ضخما من خريجى الكليات والمدارس العالية، ولكن لا يجد هؤلاء بعد ذلك فرص عمل كافية فى القطاعات الجديثة من الاقتصاد ويضعون آمالهم فى الدخول الى بيروقراطية الدولة، بينما يحاولون الكسب الاضافى بعمل صغير حول القطاع غير الرسمى- بير السلع العادية من الدكاكين، العمل كمرشدين للسياح، بيرع تذاكر اليانصيب، قيادة تاكسيات.... وهكذا.

فاقمت ازمات الاقتصاد العالمى على مدار العشرين عاما الماضية كل هذه التناقضات. وجدت الصناعات الحديثة الاقتصاد الوطنى صغيرا جدا بالنسبة لها للعمل بكفاءة، ولكن المنافسة فى السوق العالمى قوية جدا بالنسبة لها للبقاء بدون حماية الدولة. وكانت الصناعات التقليدي بشكل عام غير قادرة على التحديث بدون دعم الدولة ولا يمكنها التعويض عن فشل الصناعة الحديثة فى توفير فرص عمل لسكان المدن المتزايدين باستمرار. ولكن قطاعات قليلة استطاعات اقامة صلات خاصة بها مع رأس المال العالمى وزاد امتعاضها من سيطرة الدولة على الاقتصاد. وتزايد تلهف أغنياء المدن على البضائع الفاخرة المتوفرة فى السوق العالمية، مما زاد من التذمر بين العمال غير الثابتين والعاطلين عن العمل.

تمثل الحركة الاسلامية محاولة لاستيعاب هذه التناقضات بواسطة أشخاص تربوا على احترام الافكار الاسلامية التقليدية. ولكنها لا تجد تأييدا متساويا من كل قطاعات المجتمع. لأن بعض القطاعات تعتنق ايديولوجية قومية برجوازية علمانية حديثة، بينما قطاعات أخرى تميل نحو شكل ما من وجهة نظر طبقة عاملة علمانية. ويجد الاحياء الاسلامى مساندة من أربع شرائح اجتماعية مختلفة - تفسر كل منها الاسلام بطريقتها الخاصة.



الرؤية الاسلامية للمستغلين القدماء: أولا يوجد هؤلاء أعضاء الطبقات التقليدية المتميزة الذين يخافون الضياع فى التحديث الرأسمالي للمجتمع - وخاصة ملاك الاراضى بما فيهم رجال الدين الذين يعتمدون على عوائد الاراضى المملوكة للمؤسسات الدينية، والتجار الرأسماليين التقليديين، وأصحاب العدد الهائل من المحلات الصغيرة والورش. مثل هذه الشرائح غالبا كانت المصدر التقليدى للتمويل بالنسبة للمساجد ويرون الاسلام طريقة للدفاع عن نمط حياتهم القائم وجعل هؤلاء الذين يترقبون التغيير يستمعون الى أصواتهم. هكذا فى ايران والجزائر كانت هذه الشرائح هى التى وفرت التمويل لرجال الدين لمعارضة برنامج الاصلاح الزراعى للدولة فى الستينات والسبعينات.


الرؤية الاسلامية للمستغلين الجدد: ثانيا، بعض الرأسالميين، غالبا ظهروا من بين الشريحة الأولى، الذين حازوا النجاح برغم عداء تلك الشرائح التى لها علاقات مع الدولة. مثلا فى مصر، شق الاخوان المسلمون الحاليون طريقهم داخل النسيج الاقتصادى لمصر السادات فى وقت كانت قطاعات كاملة منه قد تحولت الى رأسمالية غير منظمة. وقد كشف عثمان احمد عثمان، روكفلر المصرى، عن تعاطفه مع الاخوان.
وفى تركيا يتمتع حزب الرفاه، الذى يقوده عضو سابق فى الحزب المحافظ الرئيسى، بتأييد عدد كبير من أصحاب رؤوس الاموال متوسطة الحجم. وفى ايران كان من بين البازاريين الذين أيدوا الخومينى ضد الشاه عدد كبير من الرأسماليين المتذمرين من الطريق التى تميز بها السياسات الاقتصادية أولئك الرأسماليين القريبين من التاج.



· الرؤية الاسلامية للفقراء: المجموعة الثالثة هم فقراء الريف الذين عانوا فى ظل تقدم الزراعة الرأسمالية والذين دفعوا الى المدن للبحث المستميت عن عمل. وهكذا فى الجزائر من بين اجمالى سكان الريف البالغين 8,2 مليون استفاد 2 مليون فقط من الاصلاح الزراعى. وكان على الستة ملايين الاخرين مواجهة الاختيار بين البؤس المتزايد فى الريف أو الذهاب الى المدن للبحث عن عمل. ولكن فى المدن " ادنى شريحة اجتماعية تتشكل من الكتلة الصلبة من العاطلين المكونين من الفىحين السابقين النازحين الذين أغرقوا المدن بحثا عن عمل وفرصة اجتماعية، منفصلين عن المجتمع الريفى دون أن يندمجوا اندماجا حقيقيا فى المجتمع الحضرى".

فى مثل هذا الموقف، حتى التحريض الاسلامى ضد الاصلاح الزراعى لصالح ملاك الاراضى القدماء فى السبعينات استطاع جذب الفلاحين والفلاحين السابقين. لأن الاصلاح الزراعى كان رمزا لتحول الريف الذى دمر اسلوبا آمنا، وان كان بائسا، فى الحياة. بالنسبة لملاك الارض والفلاحين الذين لا يملكون أراضى، يقدم الاسلاميون نفس الطرح: لقد حرم القرآن مصادرة ما يملك الآخرون، وهو يوصى الاغنياء والحكام حسب السنة بالكرم مع الآخرين.

تزايدت شعبية الحركة الاسلامية خلال الثمانينات حيث فاقمت الأزمة الاقتصادية التناقض بين جماهير الفقراء والصفوة التى تشكل حوالى 1% فى السكان الذين يسيطرون على الدولة والاقتصاد. ولم تتناسب ثروتهم واسلوب حياتهم الغربى مع ادعائهم بأنهم ورث صراع التحرر ضد الفرنسيين. وكان من السهل جدا أن يرى الفلاحون السابقون السلوك " الغير اسلامى " لهذه الصفوة كسبب لبؤسهم.

وكذلك فى ايران، استفاد من التحول الرأسمالى للزراعة المتمثل فى الاصلاح الزراعى الذى قام به الشاه فى الستينات عدد قليل من الكادحين، بينما ترك الباقون فى حالة ليست أفضل مما سبق وأحيانا أسوأ. وقد زاد من عداء الفقراء الريفيين وكذلك النازحين الى الحضر حديثا ضد الدولة - العداء الذى لم يسبب أى ضرر للقوى الاسلامية التى عارضت الاصلاح الزراعى. لذلك عندما استخدم الشاه قوة الدولة فى عام 1962 مثلا ضد زعماء الاسلاميين، جعل ذلك منهم مركزا لتذمر أعداد كبيرة من الناس.

فى مصر زاد الانفتاح الاقتصادى على السوق العالمى من خلال الاتفاقيات مع البنك الدولى وصندوق النقد الدولى منذ منتصف السبعينات وما بعدها من سوء أوضاع جماهير الفلاحين والفلاحين السابقين بشكل هائل، مما أدى الى تزايد الشعور بالعداء والمرارة.وفى أفغانستان أدى الاصلاح الزراعى الذى فرض بعد الانقلاب الذى قام به الحزب الشيوعى فى 1978 الى سلسلة من الانتفاضات العفوية من كل قطاعات السكان الريفيين:

" قضت الاصلاحات على الاساليب التقليدية للعمل التى تعتمد على المصلحة المتبادلة، دون تقديم أى بديل. حرص ملاك الاراضى الذين صودرت ممتلكاتهم على عدم توزيع آية بذور لمزارعيهم، والاشخاص الذين كانوا على استعداد لتقديم القروض يرفضون ذلك الان. وكانت هناك خطط لانشاء بنك للتنمية الزراعية وتأسيس مكتب لمراقبة توزيع البذور والاعلاف، ولكن لم يتم أيا من ذلك عندما بدأت الاصلاحات فعليا. لذلك كان الاعلان عن الاصلاح الزراعى نفسه هو الذى حرم الفلاحين من امدادات الحبوب. ولم يدمر الاصلاح الهيكل الاقتصادى فقط وانما دمر أيضا كامل الاطار الاجتماعى لعملية الانتاج. لذلك لم يكن غريبا أنه بدلا من أن تضع هذه الاصلاحات 98% من الشعب فى مواجهة 2% من الطبقات المستغلة، أدت الى تمرد عام فى 75% من المناطق الريفية. وعندما بدا أن النظام الجديد غير صالح، حتى الفلاحين الذين رحبوا فى البداية به شعروا بأنه من الافضل العودة الى النظام القديم."

ولكن لم يكن العداء للدولة فقط هو الذى جعل الفلاحين السابقين مستعدين لتقبل وجهة نظر الاسلاميين. فالمساجد تقدم مركزا اجتماعيا لأناس ضاعوا فى مدينة جديدة وغريبة، وكذلك الجمعيات الخيرية الاسلامية والخدمات الاجتماعية الضرورية ( العلاجية والتعليمية.. الخ) التى لم توفرها الدولة. لذلك كان تزايد أعداد المدن فى الجزائر فى السبعينات والثمانينات مصحوبا بزيادة هائلة فى أعداد المساجد: " حدث كل شئ كما لو كان التأخر فى عمليتى التعليم والتعريب، وغياب المؤسسات الثقافية وأماكن قضاء وقت الفراغ، وعدم توافر الحريات العامة، ونقص المساكن، جعل ألاف من البالغين والشباب والاطفال يهربون الى المساجد".

فى هذا السياق، تمكنت الارصدة التى قدمها هؤلاء الذين تتناقض مصالحهم تماما مع الجماهير- طبقة ملاك الاراضى القديمة، والاغنياء الجدد أو حكومة السعودية - من توفير كل من الملاذ الثقافى والمادى للفقراء. ففى المسجد يرى الجميع - برجوازى عصرى أو تقليدى، أصولى، أو عامل فى مؤسسة كبيرة - امكانية تحسين أوضاعه وتحقيق أهدافه الخاصة وأحلامه وآماله".

لم يقض ذلك على التقسيمات الطبقية تماما داخل المسجد. ففى الجزائر مثلا، كان هناك خلافات عديدة بين أناس جعلتهم أصولهم الطبقية المختلفة ينظرون الى المساجد بطرق مختلفة - مثلا الاختلاف حول عدم قبول تبرعات للمسجد لانها جاءت من مصدر حرام. " وفى الواقع، نادرا ما استكملت لجنة دينية مدتها، المحددة مبدأيا بسنتين، بالانسجام والاتفاق الذين توصى بهما جماعة الاله الواحد التى يتغنى بها المؤذنون دون توقف". ولكن هذه الخلافات ظلت مغلفة بعباءة دينية اهرية - ولم توقف انتشار المساجد وتزايد تأثير الحركة الاسلامية.

· الرؤية الاسلامية للطبقة الوسطى الجديدة: وبرغم ذلك، ليست الطبقات المستغلة التقليدية ولا جماهير الفقراء هى التى تمثل العنصر الحيوى الذى يؤيد الاحياء والاسلام السياسى - أى الكوادر الفعالة الذين يقومون بالدعاية لافكاره والمخاطرة بالاصابة أو السجن أو الموت فى المواجهة مع أعدائه.

فالطبقات المستغلة التقليدية بطبيعتها محافظة جدا. وهى على استعداد للتبرع بالاموال حتى يقاتل الآخرون- خاصة للدفاع عن مصالحها المادية. وقد فعلت ذلك عندما ووجهت بالاصلاح الزراعى فى الجزائر فى أوائل السبعينات، وعندما هاجم النظام البعثى فى سوريا مصالح تجار المدن فى مطلع الثمانينات، وعندما شعر التجار وصغار رجال الاعمال الايرانيين بأنهم عرضة لهجمات الشاه فى 76-1978 وبتهديد اليسار لهم فى 79-1981. ولكنهم يخافون أن تتعرض مشاريعهم للخطر، ناهيك عن حياتهم نفسها. ولذلك، لايمكن أن يكونوا تلك القوة التى مزقت مجتمعات مثل مصر والجزائر، وتسببت فى انتفاضة بلدة حاما بكاملها فى سوريا، وقامت بالعمليات الانتحارية ضد الامريكيين والاسرائيليين فى لبنان - وتسببت فى أن تأخذ الثورة الايرانية منحى أكثر راديكالية بكثيرمما هو متوقع من أى قطاع آخر من البرجوازية الايرانية.

مصدر هذه القوة فى الواقع هو طبقة رابعة مختلفة تماما - قطاع من الطبقة الوسطى الجديدة التى نشأت نتيجة للتحديث الرأسمالى لكل بلاد العالم الثالث.

فى ايران جاءت كوادر الحركات الاسلامية الثلاثة التى سيطرت على سياسات السنوات الاولى من الثورة من هذه الاصول. هكذا تبين احدى وجهات النظر القاعدة الجماهيرية لأول رئيس وزراء بعد الثورة - أى بازارجان:

" مع توسع نظام التعليم فى ايران فى الخمسينات والستينات، استطاعت حتى المجموعات الكبيرة من الطبقة الوسطى التقليدية دخول الجامعات. وقد شعر هؤلاء المتعلمون الجدد بحاجة ماسة لتبرير استمرار تماسكهم حول الاسلام لانفسهم عندما ووجهوا بالمؤسسات التى يسيطر عليها الصفوة القديمة المتفرنجة. فانضموا الى جمعيات الطلاب المسلمين ( التى ينظمها بازارجان ).. وعند الدخول الى حياة الوظيفة، كان المهندسون غالبا ما ينضمون الى جمعيات المهندسين الاسلامية، التى أسسها أيضا بازارجان. وقد شكلت شبكة الجمعيات هذه فعلا القاعدة الاجتماعية المنظمة لبازارجان وحركة التحديث الاسلامية.. اعتمدت دعوة بازارجان وتاليقانى على اسلوب تنمية الشعور بالكرامة لدى أعضاء الطبقات الوسطى التقليدية الناشئين والذى ساعدهم على اثبات هويتهم فى مجتمع تسيطر عليه سياسيا ما يطلقون عليهم النخبة المتفرنجة والملحدة والفاسدة ".

علق ابراهيميان حين كتب عن مجاهدى الشعب فى ايران أن دراسات عديدة عن السنوات الأولى للثورة الايرانية تحدثت عن جاذبية الاسلام الراديكالى بالنسبة ’للمقهورين’، ولكن لم يكن المقهورون عموما هم الذين يشكلون قاعدة المجاهدين، ولكنها تشكلت من القطاع الواسع من الطبقة الوسطى الجديدة الذين ينتمون الى أسر كانت جزءا من البرجوازية الصغيرة التقليدية. وقدم تحليلات للمواقع الطبقية للمجاهدين الذين قبض عليهم فى ظل الشاه وتعرضوا للاضطهاد فى ظل الخومينى لتأييد وجهة نظره.

وبرغم أن القوة الاسلامية الثالثة، أى حزب الخومينى الجمهورى الاسلامى المنتصر، عادة ما يشار الى أنه يدار من خلال المؤسسات الدينية المرتبطة بالبازاريين - الرأسمالية التجارية التقليدية - فقد كشف موعادل أن أكثر من نصف أعضائه كانوا من المهنيين، والمدرسين، وموظفى الحكومة أو الطلاب - حتى وان كان ربعهم ينتمون الى عائلات البازاريين. وقد لاحظ بايات أن النظام اعتمد على المهندسين الذين يعملون فى المصانع فى حملته للقضاء على المنظمات العمالية فى المصانع.

وتعلق أزار تبارى أنه بعد سقوط الشاه اختارت أعداد كبيرة من النساء فى المدن الايراني ارتداء الحجاب واصطفوا ضمن أتباع الخومينى ضد اليسار. وأعلنت أن تلك النساء كن ينتمين الى ذلك القطاع من الطبقة الوسطى الذى يشكل الجيل الاول الذى يعانى عملية’ الاندماج الاجتماعى ’. لقد دفعت تلك النساء، اللاتى غالبا ما كن ينتمين الى عائلات من البرجوازية الصغيرة التقليدية، الى التعليم العالى حيث تدهورت فرص الكسب التقليدية بالنسبة لعائلاتهن مع التصنيع. وتوفرت لهن فرصة العمل فى مهن مثل التعليم والتمريض. ولكن " كان على تلك النساء أن يعانين من التجربة المؤلمة غالبا لتأقلم الجيل الأول":

" عندما بدأت شابات من هذه العائلات فى الذهاب الى الجامعة أو العمل فى المستشفيات، تعرضت كل المفاهيم التقليدية لهجوم يومى من محيط الغرباء، حيث تختلط النساء مع الرجال، ولا يرتدين الحجاب، وأحيانا ما يرتدين حسب آخر مودة أوروبية. وغالبا كانت النساء مشتتات بين التقاليد العائلية الثابتة وضعوط البيئة الجديدة. فلا يمكنهن ارتداء الحجاب فى العمل، ولا يمكنهن مغادرة المنزل بدون الحجاب."

كان أحد ردود الفعل الشائعة لهذه الضغوط المتناقضة هو " التراجع نحو الاسلام "، وقد عبرت عن ذلك مظاهرات قامت بها نساء مختمرات بشكل متزمت أثناء التحريك الكبير". وأعلنت تبارى أن هذا الرد كان يتناقض بشكل واضح مع موقف النساء اللاتى ينتمين الى عائلات كانت جزءا من الطبقة المتوسطة الجديدة لمدة جيلين أو ثلاثة أجيال، واللاتى رفضن ارتداء الحجاب وانضممن الى الليبراليين أو اليساريين. وفى أفغانستان يلاحظ روى:

" ولدت الرؤية الاسلامية بين القطاعات الحديثة من المجتمع وتطورت من انتقاد الحركة الشعبوية التى سبقتها.. ان الاسلاميين مثقفون، ونتاج لأحدث بقاع المجتمع التقليدى، وأصولهم الاجتماعية هى ما اصطلحنا على تسميتها ببرجوازية الدولة - وهم نتاج نظام التعليم الحكومى الذى يؤدى فقط الى التوظف فى آلة الدولة.. ان الاسلاميين نتاج النظام التعليمى للدولة. وقليل جدا منهم حصوا على تعليمهم فى مجال الفنون. وفى ساحة الجامعة، يختلط معظمهم مع الشيوعيين، الذين يتعارضون معهم بعنف، فضلا عن اختلافهم مع العلماء( المتدينين الاكاديمين) الذين يحملون نحوهم شعورا متناقضا. فهم يشتركون فى كثير من المعتقدات مع العلماء، ولكن الفكر الاسلامى تطور من خلال الاتصال بالايديولوجيات الغربية الكبرى، التى يرون أنها تشكل مفتاح التطور التكنولوجى للغرب. وبالنسبة لهم، فان المشكلة هى تطوير أيديولجية سياسية حديثة تكون قاعدتها الاسلام، ويرون أن ذلك هو السبيل الوحيد لفهم العالم الحديث والوسيلة الافضل لمواجهة الاستعمار الاجنبى".

ان أهم مصدر للتجنيد بالنسبة لجبهة الانقاذ الاسلامية فى الجزائر هو طلبة المدارس الثانوية والجامعات المتحدثون بالعربية ( كنقيض للفرنسية)، وذلك القطاع الواسع من الشباب الذين يرغبون فى التعليم العالى ولكن لم يستطيعوا الحصول على مكان بالكليات:

" تجند جبهة الانقاذ الجزائرية أعضاءها من ثلاث قطاعات من السكان: من طبقة التجار المتوسطين، بالاضافة الى بعض الاغنياء منهم، وشباب العاطلين الذين حرموا من التعليم العالى، ويشكلون حثالة البروليتاريا الجديدة فى الشوارع، ومن شريحة من المثقفين المتحدثين بالعربية والمتطلعين لأعلى. والمجموعتان الاخيرتان هما الأكثر عددا وأهمية".

لقد بنى المثقفون الاسلاميون مركزهم الاجتماعى من خلال سيطرتهم على كليات اللغة العربية والدراسات الدينية فى الجامعات، مستخدمين اياها للسيطرة على وظائف عديدة كأئمة للمساجد ومعلمين فى المدارس الثانوية( الليسيه). ويشكلون شبكة لضمان ندب اسلاميين آخرين فى مثل هذه الوظائف لغرس الافكار الدينية فى عقول الجيل الجديد من الطلاب. وبالتالى يتمكنون من التأثير على عدد هائل من الشباب.

ويكتب أحمد روعاديا أن الجماعات الاسلامية بدأت فى النمو من منتصف السبعينات وما بعدها، وتمتعوا بتأييد الطلاب المتحدثين بالعربية فى الجامعات الذين تسبب عدم تمكنهم من الفرنسية فى حرمانهم من الحصول على وظائف فى الادارة، ومجالات التكنولوجيا المتقدمة والادارة العليا. هكذا مثلا، هب صراع مرير مع رئيس جامعة قسطنطين فى منتصف الثمانينات، الذى اتهم بالتشكك فى " سمو اللغة العربية " و" الولاء للاستعمار الفرنسى " لسماحه باللغة الفرنسية بالاستمرار كلغة أولى فى الكليات التكنولوجية والعلمية.

" يجد أصحاب المؤهلات من المتحدثين بالعربية صعوبة فى الدخول فى كل القطاعات الهامة، وقبل كل شئ تلك الصناعات التى تتطلب المهارات الفنية واللغات الاجنبية... ولا يستطيع المتحدثون بالعربية، حتى وان حصلوا على دراسات عليا، الحصول على مكان فى الصناعة الحديثة. وينتهى غالبيتهم الى التوجه نحو المساجد".

ويشكل الطلاب، من الخريجين الجدد المتحدثين بالعربية، والاهم، الطلاب السابقون العاطلون عن العمل جسرا الى الاعداد الهائلة من الشباب الساخط خراج الكليات الذين لم يستطيعوا الحصول على أماكن فى الكليات برغم قضاء سنوات فى نظام تعليم فاشل وفقير. هكذا، برغم وجود حوالى مليون طالب الآن فى التعليم الثانوى، يتوقع أربعة أخماسهم الرسوب فى الثانوية العامة ( البكالوريا ) - شرط دخول الجامعة - ومواجهة حياة غير آمنة على هامش الوظيفة.

" تكتسب التوحيدية - أى النظرية الاسلامية - قوتها من السخط الاجتماعى الذى يعانيه جزء كبير من الشباب، الساقط من حسابات النظام الاجتماعى والاقتصادى. وهى تطرح طرحا بسيطا: اذا كان هناك غضب وفقر ومعاناه، فالسبب أن من يسيطرون على السلطة لا يلتزمون بمبدأ الشورى الشرعية، ولكن يعتمدون على القوة.. وأن اعادة تطبيق اسلام السنوات الأولى سوف يقضى على كل أشكال عدم المساواة".

وبسبب تأثيرها على شريحة واسعة من الطلاب والخريجين والعاطلين عن العمل والمثقفين، تستطيع الرؤية الاسلامية أن تنتشر وتسيطر على وسائل الدعاية فى الاكواخ والاحياء القذرة حيث يعيش الفلاحون السابقون. حركة كهذه لا يمكن وصفها بحركة " محافظة ". لأن الشباب المتعلم المتحدث بالعربية لا يتجه الى الاسلام لأنه يريد أن يظل الوضع كما هو عليه، ولكن لأنه يظن أن الاسلام يطرح تغييرا اجتماعيا شاملا.

تطورت الحركة الاسلامية فى مصر بداية منذ 65 عاما، عندما أسس حسن البنا جماعة الاخوان المسلمين. وقد نمت فى الثلاثينات والاربعينات عندما بدأت فى الانتعاش بعد فشل حزب الوفد الوطنى العلمانى فى تحدى السيطرة البريطانية على البلاد. تشكلت قاعدة الحركة أساسا من موظفى الخدمة المدنية والطلاب، وكانت احدى القوى الهامة فى حركات التمرد فى الجامعة فى أواخر الاربعينات وأوائل الخمسينات. ولكنها انتشرت لتضم اليها بعض عمال المدن والفلاحين، بعضوية قدرت بأنها وصلت الى نصف مليون. فى سياق بناء الحركة كان البنا على استعداد تام للتعاون مع شخصيات معينة قريبة من الملكية المصرية، وقد رأى الجناح اليمينى فى الوفد فى الاخوان المسلمين حركة مضادة لنفوذ الشيوعيين بين العمال والطلبة.

ولكن الاخوان المسلمين لم يستطيعوا المنافسة مع الشيوعيين الا فى الحصول على تأييد فقراء الطبقات الوسطى - ومن خلالهم الى قطاعات من فقراء المدن - لأن لغتها الدينية كانت تتضمن تبنيها لاصلاحات أبعد مما يرغب فيه حلفاؤها اليمينيون. وكانت أهدافها لا تتفق اطلاقا مع استمرار الاوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية القائمة والتى كانت الطبقات الحاكمة تدعمها. أكد هذا على " أن العلاقة بين الاخوان المسلمين والحكام المحافظين ستكون غير مستقرة وضعيفة جدا".

وبالفعل، فقد تم تدمير الاخوان تقريبا بمجرد أن تركزت السلطة الكاملة فى أيدى النظام العسكرى الجديد الذى قام حول عبد الناصر فى أوائل الخمسينات. فقد أعدم ستة من قادة الأخوان شنقا فى ديسمبر 1954 ودفع بالآلاف من أعضائها الى معسكرات التعذيب. وأدت محاولة احياء الحركة فى منتصف الستينات الى اعدامات أكثر، ولكن، بعد موت عبد الناصر، سمح لها تابعيه السادات ومبارك بالتواجد بشكل شبه شرعى - على أساس أن تتجنب الجماعة قيادة أى مواجهة ضد النظام. وكانت قيادة ما يطلق عليه أحيانا " الاخوان المسلمين الجديد " على استعداد لتقبل هذه الشروط، متبعين رؤية رجعية معتدلة نسبيا، وحصلوا على مبالغ ضخمة من الاموال من أعضاء تم ترحيلهم الى السعودية فى الخمسينات وحققوا رخاء ماديا من البترول. وقد مكن ذلك الاخوان من طرح " نموذج بديل للدولة الاسلامية"، "ببنوكهم وخدماتهم الاجتماعية والتعليمية، ومساجدهم ".

ولكن ذلك أدى أيضا الى فقدهم لسيطرتهم على الجيل الجديد من الراديكاليين الاسلاميين الذين نشأوا، كما نشأ الاخوان أنفسهم فى الاصل، فى الجامعات والقطاع الفقير من " الطبقة الوسطى الحديثة ". هؤلاء هم الاسلاميون الذين قاموا باغتيال السادات فى 1981 ويشعلون الكفاح المسلح منذ ذاك ضد كل من الدولة والانتليجنتسيا العلمانية:

" عندما نتحدث عن الاصوليين فى مصر، نعنى جماعة قليلة من الناس المعارضين حتى للاخوان المسلمين.. هذه الجماعات تتكون أساسا من الشباب. وهم شديدى النقاء، مستعدون للتضحية بحياتهم، وعمل أى شئ. ويستخدمون كقوة ضاربة لحركات مختلفة لانهم قادرون على القيام بالعمليات الارهابية."

شكلت تنظيمات الطلاب المسلمين، التى أصبحت القوة الاولى فى الجامعات المصرية أثناْء رئاسة السادات " المنظمات الجماهيرية الحقيقية الوحيدة للحركات الاسلامية ". وقد تزايدت كرد فعل للظروف داخل الجامعات والمستقبل البائس الذى يواجه الطلاب اذا تخرجوا:

" ارتفع عدد الطلاب من أقل من 200000 فى 1970 الى أكثر من نصف مليون فى 1977.. وفى غياب الموارد الضرورية، أدى توفير التعليم العالى المجانى لأكبر عدد ممكن من شباب البلاد الى تدهور نظام التعليم ".

ويمثل الزحام مشكلة، خاصة للطالبات اللاتى يتعرضن لكافة أشكال المضايقات فى قاعات المحاضرات والاتوبيسات المزدحمة. واستجابة لهذا الموقف:

" حازت الجماعة الاسلامية قوتها الهائلة من خلال قدرتها على تفهم ( هذه المشكلات ) وطرح حلول فورية - مثلا، استخدام أرصدة اتحاد الطلاب لتشغيل خطوط مينى باص للطالبات ( مع أولوية الطالبات اللاتى يرتدين الحجاب )، الدعوة الى الفصل بين البنات والشباب فى قاعات المحاضرات، تنظيم مجموعات مراجعة للمناهج تتقابل فى المساجد، اصدار طبعات رخيصة للكتب الضرورية ".

وحتى الخريجون لم يستطيعوا الافلات من البؤس المزمن لغالبية المجتمع المصرى:

" لكل خريج الحق فى الحصول على وظيفة عامة. هذا الاجراء بالفعل هو مصدر البطالة المقنعةالهائلة فى مكاتب الجهاز الادارة المتضخم، الذى يتقاضى فيه الموظفون مرتبات ضعيفة جدا.. ويستطيع الموظف الحصول على طعامه من خلال شراء المنتجات المدعومة من الدولة، ولكنه من غير المحتمل أن يرتفع فوق الحد الادنى للبقاء... وغالبا ما يكون لكل موظف فى الدولة عمل ثانى أو ثالث... ويقضى عدد لايحصى من الموظفين فى الدولة، الذين يجلسون فى الصباح على المكاتب فى واحدة أو أخرى من الوزارات العديدة، وقت الظهر فى العمل كسباكين أو سائقى تاكسى، هى أعمال يؤدونها بصورة غير كاملة ربما يشغلها أيضا غير المتعلمين. ان الفلاحة الأمية التى تأتى الى المدينة لتعمل كخادمة للأجانب يدفع لها أقل أو أكثر من ضعف رابت معيد فى الجامعة".

ان الطريق الوحيد للخروج من هذه المعضلة بالنسبة لمعظم الخريجين هو الحصول على عمل فى الخارج، خاصة فى السعودية أو دول الخليج. وليست هذه فقط هى الطريقة الوحيدة للتخلص من البؤس، بل انها بالنسبة لمعظم الناس الشرط المسبق للزواج فى مجتمع حيث العلاقات الجنسية قبل الزواج نادرة.

استطاع الاسلاميون التعبيرعن هذه المشكلات بلغة دينية. وكما كتب كيبل عن أحد أعضاء الجماعات الاسلامية، ان موقفه لا يتضمن" التجرك كمتعصب للقرون الماضية.. فهو يضع يده - بطريقته الخاصة - على مشكلة ملحة من مشكلات المجتمع المصرى الحديث.

وكما حدث فى الجزائر، بمجرد أن أقام الاسلاميون قاعدة جماهيرية فى الجامعات، أصبحوا بعد ذلك فى موقف يمكنهم من الانتشار فى محيط أوسع - فى شوارع المدن البائسة حيث يختلط الطلاب والخريجون مع جمهور آخر من الساعين الى كسب العيش. حدث ذلك بعد أن أحكم النظام قبضته بقوة على الحركة الاسلامية فى الجامعات فى أعقاب المفاوضات حول اتفاقية السلام مع اسرائيل فى أواخر السبعينات. "فمع ذلك، بدلا من أن يتوقف نشاط الجماعة، منحهم هذا القمع دفعة ثانية... وبدأت رؤية الجماعة فى الانتشار وراء عالم الطلاب. وذهبت الكوادر الاسلامية والدعاة للدعوة فى المناطق الفقيرة المجاورة".






الاسلام الراديكالى كحركة اجتماعية
ان القاعدة الطبيقة للحركة الاسلامية هى نفس القاعدة الطبيقية للحركة الفاشية الكلاسيكية، والاصولية الهندوسية وحركة شيف سينا فى الهند، حيث جندت كل هذه الحركات اعضاءها من ابناء الطبقة الوسطى ذوى الياقات البيضاء والطلاب، وكذلك من البرجوازية الصغيرة المهنية والتجارية التقليدية.أدى ذلك، بالاضافة الى عداء معظم الحركات الاسلامية لليسار، وحقوق المرأة والعلمانية، الى أن يسمى كثير من الاشتراكيين والليبرالييين هذه الحركات بالفاشية. ولكن ذلك خطأ.

ليست الفاشية وحدها التى تقوم على أساس طبقى من البرجوازية الصغيرة، لقد كان ذلك أيضا أحد ملامح اليعقوبية، والعالم ثالثية، والستالينية الماوية، والبيرونية. ولا تصبح حركات البرجوازية الصغيرة فاشية الا عندما تصعد عند نقطة معينة من الصراع الطبقى، وتلعب فيه دورا معينا. ولا يقتصر هذا الدور على تحريك البرجوازية الصغيرة فقط، ولكن استغلال شعورهم بالمرارة بسبب ما تسببه لهم أزمة حادة فى النظام ثم تشكيلهم فى عصابات منظمة مستعدة للعمل فى خدمة رأس المال لتدمير المنظمات العمالية.

لذلك كانت حركتى موسولينى وهتلر فاشية بينما، لنقل، حركة بيرون فى الارجنتين لم تكن كذلك. برغم أن بيرون قد استعار بعض مظاهر الفاشية، فقد استولى على السلطة فى ظروف استثنائية سمحت له بشراء المنظمات العمالية بينما حول أرباح كبار الرأسماليين العقاريين الى الصناعة باستخدام اسلوب تدخل الدولة. وأثناء السنوات الستة الاولى من حكمه سمحت بعض الظروف بارتفاع الأجور الحقيقيى بنسبة بلغت حوالى 60%. كان من الممكن أن يحدث العكس تماما اذا ما حدث هذا فى ظل نظام فاشى حقيقى. وبرغم ذلك ظلت الانتليجنتسيا الليبرالية، والحزب الشيوعى الارجنتينى، يطلقون على النظام " بيروني نازى "، بنفس الطريقة التى يتعمد غالبا كثير من اليساريين تسمية الحركة الاسلامية اليوم بالفاشية.

وبالمثل، تلعب الحركة الاسلامية الجماهيرية فى بلاد مثل مصر والجزائر دورا مختلفا عن دور الفاشية. فهى لا تتوجه بالأساس ضد المنظمات العمالية، ولا تطرح نفسها على القطاعات الرئيسية لرأس المال كوسيلة لحل مشكلاتها على حساب العمال. انها فى الأغلب تشترك فى مواجهة عسكرية مباشرة مع قوات الدولة بطريقة نادرا ما كانت الاحزاب الفاشية تخوضها. وبدلا من أن تكون وكلاء للامبريالية، رفعت هذه الحركات شعارات ضد الامبريالية ونفذت بعض العمليات المعادية للامبريالية أربكت مؤسسات رأسمالية عالمية وقومية هامة ( فى الجزائر، الموقف من حرب الخليج الثانية، فى مصر، ضد السلام مع اسرائيل، فى ايران، ضد الوجود الأمريكى فى أعقاب الاطاحة بالشاه ).

استطاع جهاز المخابرات الامريكية التعاون مع مثقفى باكستان ودول الشرق الاوسط الموالية للغرب لتسليح آلاف من المتطوعين من منطقة الشرق الاوسط للحرب ضد الروس فى أفغانستان. ولكن يعود هؤلاء المتطوعون الآن الى الوطن ليكتشفوا أنهم كانوا يحاربون من أجل الولايات المتحدة بينما كانوا يعتقدون أنهم يحاربون من أجل الاسلام، فيشكلون قوة صلبة معارضة لمعظم الحكومات التى شجعتهم على الذهاب. حتى فى السعودية، حيث يطبق التفسير الوهابى المتزمت للشريعة الاسلامية بكل قوة الدولة، تسعى المعارضة الآن الى كسب تأييد المجاهدين الأفغان، مشمئزة من نفاق العائلة الملكية التى تندمج كثيرا فى الطبقة الرأسمالية العالمية. بينما تنتقم العائلة الملكية، كاشفة عن عدائها لبعض الذين شجعتهم فى الماضى، وتمنع التمويل عن جبهة الانقاذ الاسلامية الجزائرية بسبب تأييدها للعراق فى حرب الخليج الثانية، وتنفى مليونيرا سعوديا كان يمول الاسلاميين فى مصر.

يعجز اليساريون الذين يرون ببساطة أن الجماعات الاسلامية جماعات " فاشية " عن فهم أثرها فى هز استقرار المصالح الرأسمالية فى كامل منطقة الشرق الأوسط، وينتهون الى الوقوف بجانب الدولة التى تمثل العميل الأقوى لكل من الامبريالية ورأس المال المحلى ! لقد حدث ذلك مثلا، لتلك القطاعات من اليسار الواقعة تحت تأثير فلول الستالينية فى مصر. وحدث مع معظم اليساريين الايرانيين أثناء المراحل الأخيرة من حرب الخليج الأولى، عندما أرسلت الامبريالية الأمريكية اسطولها للحرب الى جانب العراق ضد ايران. بل ويشكل أيضا خطرا على اليسار العلمانى فى الجزائر، الذى يواجه اقتراب الحرب الأهلية بين الاسلاميين والدولة.

ولكن اذا كان من الخطأ اعتبار الحركات الاسلامية حركات فاشية، فمن الخطأ أيضا اعتبارها ببساطة حركات ضد الدولة وضد الامبريالية. فهم لايقاتلون فقط ضد تلك الطبقات والدول التى تستغل وتسيطر على الجماهير. انهم يحاربون أيضا ضد العلمانية، وضد النساء اللاتى يرفضن تقبل الآراء الاسلامية عن " الاحتشام "، وضد اليسار، وفى حالات هامة، ضد الأقليات العرقية والدينية. لقد أسس الاسلاميون الجزائريون قاعدتهم فى الجامعات فى أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات من خلال تنظيم " حملات عقابية " ضد اليسار بالموافقة الضمنية للبوليس، وأول شخص قتلوه لم يكن موظفا بالدولة ولكن عضوا فى منظمة تروتسكية، وقاموا بحركة أخرى هى رفض مجلة هارد روك، والمثلية الجنسية، والمخدرات وموسيقى البونك فى معرض الكتاب الاسلام فى 1985، فى المدن الجزائرية التى يشكلوق القطاع الأقوى فيها، ويقومون بتنظيم هجوم فعلى على النساء اللاتى يجرؤن على كشف حزء من أجسادهن، وقد كانت المظاهرة العلنية الاولى لجبهة الانقاذ الجزائرية فى 1989 ردا على مظاهرات " العلمانيين " و" النسويين " ضد العنف الاسلامى، الذى كانت النساء أولى ضحاياه. ان عداء الحركة الاسلامية لا يتجه فقط ضد الدولة ورأس المال الاجنبى، ولكن ايضا ضد أكثر من مليون مواطن جزائرى لم يكن خطأهم أنهم تربوا على الفرنسية كلغتهم الأولى، وكذلك 10% من السكان البربر الذين لا يتحدثون العربية.

وكذلك فى مصر، تقتل الجماعات الاسلامية المسلحة العلمانيين والاسلاميين الذين يختلفون معهم بشكل حاد، ويحفزون المسلمين على كراهية و، ضمنيا، تطهير 10% من السكان تصادف أن يكونوا مسيحيين أقباط. وفى ايران أعدم جناح الخومينى فى الحركة الاسلامية حوالى 100 شخص " بتهم جنسية " مثل المثلية الجنسية، والزنا فى 1979-1981، وطردوا النساء من النظام القضائى، ونظموا عصابات اجرامية - حزب الله الايرانى - لمهاجمة النساء المتبرجات ومهاجمة الجناح اليسارى، وقتلوا الآلاف فى حملة لقمع مجاهدى الشعب الاسلامى اليساريين. وفى أفغانستان، حولت المظمات الاسلامية، التى أشعلت حربا دموية طويلة ضد الاحتلال الروسى لبلدهم، أسلحتهم الثقيلة نحو بعضهم البعض بمجرد رحيل الروس، محولين مناطق بكاملها فى كابول الى حطام.

فى الواقع، وبرغم أن الاسلاميين يؤكدون على معاداتهم للامبريالية الا أنهم غالبا ما يتخلون عن مواجهتها. لأن امبريالية اليوم عادة ما لا تكون السيطرة المباشرة لدول الغرب على أجزاء من العالم الثالث، ولكن نظاما عالميا من الطبقات الرأسمالية المستقلة ( الخاصة والدولة ) تندمج فى سوق عالمى واحد. وبعض الطبقات الحاكمة تمتلك قوة أكبر من الاخرى ولذلك تكون قادرة على فرض شروطهاالخاصة فى المعاملات من خلال سيطرتها على منافذ التجارة، والنظام البنكى، وأحيانا، استخدام القوة السافرة. وهذه الطبقات الحاكمة تقف على قمة هرم الاستغلال، ولكن تلك الطبقات التى تليها مباشرة هى الطبقات الحاكمة للبلاد الفقيرة، التى تعمل فى الاقتصاديات القومية المنفصلة، وتستفيد أيضا من النظام، وتربط نفسها باستمرار بالشبكات المتعددة الجنسية المسيطرة وتعمل داخل اقتصاديات العالم المتقدم، حتى وان كانوا أحيانا أخرى يهاجمون من هم فوقهم.

ان معاناة الغالبية العظمى من الناس لا يمكن ببساطة ارجاعها الى القوى الامبريالية العظمى ووكلائها مثل البنك الدولى وصندوق النقد الدولى. انها أيضا تنتج عن المشاركة النشطة فى الاستغلال من الرأسماليين الأصغر ودولتهم. هؤلاء هم الذين يطبقون السياسات الفعلية التى تؤدى الى افقار الناس وتدمير حياتهم. وهم أيضا الذين يستخدمون البوليس للقضاء على من يحاولون المقاومة.

وهنا يوجد فرق مهم عما حدث فى ظل الامبريالية الكلاسيكية للامبراطوريات الاستعمارية، حيث سيطر المستعمرون بأنفسهم على الدولة وأداروا عملية القمع. فى تلك الحالة، كانت الطبقات المستغلة المحلية مشتتة بين اتجاهين، بين مقاومة الدولة عندما تضر بمصالحها، والتعاون معها كحماية لها ضد من تستغلهم. ولكنها لم تكن بالضرورة فى الصف الاول ضمن المدافعين عن النسق الكامل لعملية الاستغلال ضد الثورة. ولكنها الآن كذلك, فهى جزء من النظام - حتى وان كانت أحيانا تدخل فى خلافات معه. ولم تعد المعارض المتذبذب له.

فى هذه الحالة، فان أى أيديولوجية تقصر نفسها على مقاومة الامبريالية الاجنبية كعدو أوحد، تتجنب أى مواجهة حادة مع النظام. فهى تعبر عن معاناة الناس وغضبهم، ولكنها تتجنب توجيههم الى أعدائهم الحقيقيين. وهذه هى حقيقة معظم الرؤى الاسلامية، تماما كما أنها حقيقة معظم الرؤى القومية فى العالم الثالث فى الوقت الحالى. انهم يشيرون الى عدو أساسى، أى النظام العالمى، وأحيانا يصطدمون بقوة مع الدولة. ولكنهم يبرئون غالبية البرجوازية المحلية من المسئولية - وهى أهم حليف للامبريالية على المدى الطويل.

وتقارن دراسة حديثة للخومينية قام بها ابراهيميان بين الحركة الاسلامية وبين البيرونية والاشكال المماثلة من ‘الشعبوية‘:

" تبنى الخومينى نظريات راديكالية... وأحيانا ما بدا أكثر راديكالية من الماركسيين. ولكن بينما كان يتبنى رؤى راديكالية استمر مخلصا فى تحمل مسئولية الحفاظ على ملكية الطبقة الوسطى. هذا الشكل من راديكالية الطبقة الوسطى جعله مشابها للشعبويين فى أمريكا اللاتينية، خاصة البيرونيين".

ويسترسل ابراهيميان فيقول:

" أعنى " بالشعبوية " حركة تقوم بها الطبقة المتوسطة المالكة تحرك الطبقات الأدنى، خاصة فقراء الحضر، بشعارات راديكالية موجهة ضد الامبريالية، والرأسمالية الأجنبية، والمؤسسة السياسية.. وتعد الحركات الشعبوية برفع مستويات المعيشة بصورة كبيرة وجعل البلاد مستقلة تماما عن القوى الخارجية. بل أنها تمتنع عمدا عن تهديد البرجوازية الصغيرة ومبدأ الملكية الخاصة، وهذا أهم بالنسبة لها من مهاجمة الاوضاع القائمة بخطابة راديكالية. هكذا تؤكد الحركات الشعبوية بالضرورة على أهمية اعادة البناء الثقافى والقومى والسياسى، وليس أهمية الثورة الاقتصادية والاجتماعية".

تتجه هذه الحركات الى الخلط بين الامور من خلال التحول عن أى صراع حقيقى ضد الامبريالية الى صراع أيديولوجى خالص ضد ما يرونه آثارها الثقافية. وتعتبر " الاستعمار الثقافى " بدلا من الاستغلال المادى، مصدر جميع الأخطاء. ولا يكون الصراع بالتالى موجها ضد القوى المسئولة عن افقار الشعب، بل ضد من يتحدثون اللغات ‘الأجنبية‘، ويتبنون الأديان ‘الغريبة‘، أو يرفضون أنماط الحياة ‘التقليدية‘ المزعومة.وهذا يتناسب تماما مع قطاعات معينة من رأس المال المحلى التى يسهل عليها ممارسة " الثقافة المحلية "، على الأقل فى العلن. وهو أيضا يحقق مصالح مادية مباشرة لقطاعات من الطبقة الوسطى التى يمكنها بناء مستقبلها الوظيفى الخاص عن طريق ازاحة أخرين من وظائفهم. ولكنه يحد من الأخطار التى تسببها هذه الحركات على الامبريالية كنظام.

تعمل الحركة الاسلامية اذن على اثارة الغضب الجماهيرى وتعويقه، على تشكيل مشاعر الجماهير على ضرورة عمل شئ وتوجيه هذه المشاعر الى مجالات ضيقة، وعلى هز استقرار الدولة والحد من الصراع الحقيقى ضدها.

وتنشأ الطبيعة المتناقضة للحركة الاسلامية عن الأساس الطبقى لكوادرها الأساسية. فلا يمكن للبرجوازية الصغيرة كطبقة أن تتبع سياسة متماسكة مستقلة خاصة بها. وكان ذلك صحيحا دائما بالنسبة للبرجوازية الصغيرة التقليدية - أى أصحاب الورش الصغيرة، والتجار والمهنيين المستقلين. ويسيطر عليها دائما رغبة محافظة فى الأمان تتطلع الى الماضى وتأمل فى الافادة بشكل فردى من التغيير الثورى. وهذا بالضبط صحيح أيضا بالنسبة لفقراء الطبقة المتوسطة الجديدة - أو الأكثر منهم فقرا من العاطلين عن العمل وخريجى الجامعات والمدارس الثانوية ممن كان يمكن أن يصبحوا أعضاء فى الطبقة المتوسطة الجديدة - فى البلاد المتخلفة اقتصاديا اليوم. ولذلك يحلمون بماض ذهبى مزعوم. أو يرون مستقبلهم مرتبطا بتقدم اجتماعى شامل من خلال التغيير الثورى. أو يوجهون الاستفزاز الناتج عن تطلعاتهم الى قطاعات أخرى من السكان الذين يستحوذون على وظائف الطبقة الوسطى بصورة"غيرعادلة" : أى الأقليات الدينية والعرقية، أو أصحاب لغة مختلفة، أو النساء التى تعمل بطريقة ’غير تقليدية’.

ولا يعتمد تحولهم الى اتجاه ما على عوامل مادية مباشرة فقط. بل يعتمد أيضا على الصراعات التى تحدث على المستوى القومى والعالمى. هكذا أثارت الصراعات ضد الاستعمار والامبريالية فى الخمسينات والستينات كثير من الطبقة الوسطى الصاعدة فى العالم الثالث، ونشأ شعور عام بأن التنمية الموجهة من الدولة تمثل طريق التقدم. وبدا أن اليسار العلمانى، أو على الأقل التيار القومى أو الستالينى، كممثل لهذه الرؤية، قد حظى بدرجة من الهيمنة فى الجامعات. فى تلك الفترة، حتى أولئك الذين بدأوا بتوجهات دينية جذبهم ما كان ينظر اليه كيسار - من خلال مثال الحرب الفيتنامية ضد أميركا أو من خلال ما يدعى بالثورة الثقافية فى الصين - وبدأوا فى رفض الفتاوى الدينية التقليدية، مثل مسألة المرأة. حدث ذلك مع فقراء التحرر الكاثوليك فى أمريكا اللاتينية ومجاهدى الشعب فى ايران. وحتى فى أفغانستان فان الطلبة الاسلاميين،

" تظاهروا ضد الصهيونية أثناء حرب الايام الستة، وضد السياسات الامريكية فى فييتنام ومزايا المؤسسة الحاكمة. وقد عارضوا بقوة شخصيات هامة فى الجانب التقليدى، وعارضوا الملك وخاصة ابن أخيه داوود.. وثاروا ضد النفوذ الاجنبى فى أفغانستان لكل من الاتحاد السوفييتى والغرب، وكذلك ضد المضاربين فى فترة المجاعة عام 1972 من خلال المطالبة بضرورة الرقابة على الملكية الخاصة."

تغيرت الأحوال فى أواخر السبعينات والثمانينات. فمن ناحية، بدأت موجة عالمية لفضح ما عرف بالنموذج الاشتراكى، مثلا، فى دول أوروبا الشرقية، كنتيجة لحقول الموت فى كمبوديا، والحرب المحدودة بين الصين وفييتنام، وتحرك الصين نحو المعسكر الأمريكى. تزايدت حدة هذا الفضح فى أواخر الثمانينات كنتيجة للتغيرات فى أوروبا الشرقية وسقوط الاتحاد السوفييتى.

حدث ذلك بصورة أعنف بكثير فى بلاد شرق أوسطية معينة من أى مكان آخر فى العالم لأن الأوهام لم تكن مجرد سياسة خارجية. بل كانت الأنظمة المحلية تدعى أنها تطبق أشكالا وطنية من " الاشتراكية "، تستند بشكل أكثر أو أقل الى نموذج أوروبا الشرقية. حتى أولئك اليساريون الذين انتقدوا حكوماتهم مالوا الى قبول وتمثل تلك الادعاءات. فقد تطوع يسار الجامعات فى الجزائر فى أوائل السبعينات للذهاب الى الريف والمساعدة فى "الاصلاح الزراعى"، برغم أن النظام اضطهد منظمة الطلاب اليساريين وأبقى على سيطرة البوليس على الجامعات. وفى مصر أصر الشيوعيون على اعلان أن عبد الناصر كان اشتراكيا، حتى بعد أن ألقى بهم فى السجن.

ومن ناحية أخرى، كان ظهور دول اسلامية معينة كقوة سياسية - أى سيطرة القذافى على السلطة فى ليبيا، قيادة السعودية للحظر البترولى ضد الغرب فى وقت الحرب العربية الاسرائيلية فى 1973، وبعد ذلك، ما هو أهم، التأسيس الثورى لجمهورية ايران الاسلامية فى 1979.

بدأت الحركة الاسلامية فى الانتشار بين الشرائح الأساسية من الطلبة والشباب الذين تطلعوا يوما ما الى اليسار: ففى الجزائر، مثلا، " بدأ ينظر الى الخومينى من قبل الشرائح الشابة كما كان ينظر الى ماو وجيفارا يوما ما". وتزايدت شعبية الحركة الاسلامية قوة بعد قوة حيث بدا أنهم يطرحون تغييرا ثوريا وعاجلا. فقد كان قادة الحركة الاسلامية منتصرين.

وبرغم ذلك لم تختفى تناقضات الحركة الاسلامية، بل عبرت عن نفسها بقوة فى العقد التالى. وبدلا من أن تكون قوة لا تتوقف، كانت الحركة الاسلامية فى الواقع عرضة لضغوطها الداخلية التى دفعت أتباعها بصورة متكررة للتحول ضد بعضهم البعض. وتماما كما كان تاريخ الستالينية فى الشرق الأوسط تاريخ فشل وخيانات وانشقاقات وقمع، كذلك كان تاريخ الحركة الاسلامية فى الثمانينات والتسعينات.





تناقضات الحركة الاسلامية فى مصر
تعبر الطبيعة المتناقضة للحركة الاسلامية عن نفسها فى الطريقة التى تفهم بها تطبيق "العودة الى القرآن". فمن الممكن أن ترى ذلك من خلال اصلاح ‘ قيم ‘ المجتمع القائم، قاصدة ببساطة العودة الى الممارسات الدينية، بينما تترك الأبنية الرئيسية للمجتمع كما هى. أو من الممكن أن تعنى الاطاحة الثورية بالمجتمع القائم. ويمكن ملاحظة هذا التناقض فى تاريخ كل من الأخوان المسلمين الأوائل فى مصر فى الثلاثينات والأربعينات والخمسينات وفى الحركة الاسلامية الراديكالية الجديدة فى السبعينات والثمانينات والتسعينات.

تزايد نمو الأخوان المسلمين بسرعة فى الثلاثينات والأربعينات حيث جذبت مؤيديها من أولئك الذين زال عنهم الوهم بعد المساومات التى قام بها حزب الوفد الوطنى البرجوازى مع البريطانيين، كما راينا. وقد ساعدها على ذلك تحول اليسار الشيوعى الواقع تحت تأثير ستالين، والذى وصل الى حد تأييد الوجود الاسرائيلى. ومن خلال تجنيد المتطوعين للحرب فى فلسطين وضد الاحتلال البريطانى لمنطقة القنال المصرية، بدا الأخوان المسلمون أنهم يدعمون الصراع ضد الامبريالية. ولكن بمجرد أن وصل نفوذ الأخوان الى أقصى درجة له، بدأت الدخول بسرعة فى المتاعب. فقد بنت قيادتهانفسها على مجموعة من القوى - أى تجنيد جمهور شباب البرجوازية الصغيرة، وعلاقات مع القصر، وصفقات مع الجناح اليمينى من الوفد، ومؤامرات مع صغار الضباط فى القوات المسلحة - والذين كانوا أنفسهم يتحركون فى اتجاهات مختلفة.

وحيث مزقت الاضرابات والمظاهرات والاغتيالات، والهزيمة العسكرية فى فلسطين، وحرب العصابات فى منطقة القنال، المجتمع المصرى، كذلك كانت جماعة الاخوان المسلمون نفسها عرضة للتحلل. فكان كثير من أعضائها مستائين من السلوك الشخصى للسكرتير العام، زوج أخت البنا عابدين. وأدان البنا نفسه أعضاء الاخوان الذين اغتالوا النقراشى، رئيس الوزراء. وبعد موت البنا فى 1949 فوجئ تابعه " كمرشد عام للجماعة" عند اكتشافه لوجود قطاع ارهابى سرى. وأدى استحواذ العسكريين على السلطة بقيادة عبد الناصر فى 52-1954 الى انقسام جوهرى بين أولئك الذين أيدوا الانقلاب وأولئك الذين عارضوه حتى انتهت الجماعات المتصارعة أخيرا فى الاخوان الى العراك المباشر للسيطرة على مكاتبها. ومكن " افتقاد الثقة الكبير فى القيادة " عبد الناصر أخيرا من تحطيم المنظمة التى كانت يوما ما تشكل قوة هائلة.

ولكن افتقاد الثقة لم يكن صدفة. فقد نتج عن انقسامات لا يمكن تخطيها والتى كانت حتمية الظهور فى حركة برجوازية صغيرة مع زيادة عمق الأزمة فى المجتمع. فمن ناحية، كان هناك من يتبنون وجهة نظر تدعو الى استغلال الأزمة لإجبار الطبقات الحاكمة القديمة لعمل صفقة معهم لفرض " القيم الاسلامية " ( كان البنا نفسه يحلم بالاشتراك مع الملكية بتأسيس " خلافة جديدة " وفى أحد المناسبات أيد الحكومة فى مقابل وعدها باحكام قبضتها على استهلاك الخمور وعلى الدعارة )؛ ومن ناحية أخرى، كان هناك أعضاء من البرجواززية الصغيرة الراديكالية الذين يرغبون فى تغيير اجتماعى حقيقى، ولكنهم يفهمون أن امكانية تحقيق ذلك فقط تكون من خلال الصراع الفورى المسلح.

استمرت نفس التناقضات تتخلل الحركة الاسلامية فى مصر اليوم. بدأ الاخوان المسلمون الجدد فى العمل بصورة شبه شرعية حول مجلة الدعوة فى أواخر الستينات، مديرة ظهرها الى أى وجهة نظر تدعو للاطاحة بالنظام المصرى. وبدلا من ذلك حددت هدفها فى اصلاح المجتمع المصرى نحو الخط الاسلامى بواسطة الضغط من الداخل. ويجب أن تكون المهمة، كما وضعها المرشد العام للاخوان فى كتاب له من السجن أن يكونوا " دعاة لا قضاة ". كان ذلك يعنى فى الممارسة تبنى اتجاه " اصلاح اسلامى "، والسعى للوقوف بجانب نظام السادات. وفى المقابل استخدم النظام الاسلاميين للتعامل مع أولئك الذين اعتبرتهم فى ذلك الوقت أعدائها الرئيسيين - أى اليسار: " تعامل النظام بحماس مع الجناح الاصلاحى من الحركات الاسلامية - متجمعا حول مجلته الشهرية " الدعوة " وفى أحواش الجامعات من خلال الجمعيات الاسلامية - حيث طهر الاسلاميون الجامعات من أى شئ فيه رائحة الناصرية أو الشيوعية ".

اهتزت مصر كلها بموجة من الاضرابات والمظاهرات وأعمال العنف فى 13 محافظة فى يناير 1977، ردا على زيادة الدولة لاسعار الخبز وسلع استهلاكية ضرورية أخرى. كانت هذه أكبر انتفاضة فى البلاد منذ ثورة 1919 الوطنية ضد البريطانيين. أدانت كل من الجمعيات الاسلامية والاخوان المسلمون الانتفاضة وأرسلوا خطابات تأييد للدولة ضد ما أسموه " مؤامرة شيوعية ".

فالأهم بالنسبة لهذه " الاصلاحية " الاسلامية هو تغيير أخلاقيات المجتمع، بدلا من تغيير المجتمع نفسه. وليس الأهم هو اعادة بناء المجتمع الاسلامى ( الأمة ) من خلال تحويل المجتمع، ولكن فرض أشكال معينة من السلوك داخل المجتمع القائم. وعدوها ليس الدولة أو " الطغاة " المحليين، ولكن قوى خارجية يعتقدون أنها تقضى على القيم الدينية - وهى فى نظر "الدعوة " " اليهودية والصليبية " ( أى المسحيين بما فيهم الاقباط ) و" الشيوعية " و" العلمانية ". ويتضمن الجهاد للتعامل مع هؤلاء صراعا لفرض الشريعة ( النظام التشريعى الذى يحدده الفقهاء الملمون من القرآن والتراث الاسلامى ). فهى معركة لدفع الدولة الحالية الى فرض شكل معين من الثقافة على المجتمع، بدلا من كونها معركة للاطاحة بالدولة.

هذا المفهوم يتفق جيدا مع رغبات الطبقات الاجتماعية التقليدية الذين يؤيدون نموذجا معينا من الحركة الاسلامية ( بقايا طبقة ملاك الأراضى القديمة والتجار )، ومع أولئك الذين كانوا يوما ما شباب اسلامى راديكالى ولكنهم استقروا الآن ( بسبب الثراء فى السعودية أو الترقى الى مواقع مريحة داخل مهنيي الطبقة الوسطى ) ومع أولئك الاسلاميين الراديكاليين الذين يئسوا من التغيير الاجتماعى الراديكالى عندما ووجهوا باضطهاد الدولة لهم.

ولكنه لا يتناسب على الاطلاق مع التطلعات العنيفة لجماهير الطلاب والخريجين الفقراء، أو مع جماهير الفلاحين السابقين الذين يختلطون بالاجزاء الفقيرة فى المدن. فينجذبون بسهولة الى رؤى أكثر راديكالية بكثير"لمعنى العودة الى القرآن" - رؤى لا تهاجم فقط الآثار الغربية على الدول الاسلامية الحالية، بل أيضا تهاجم هذه الدول نفسها.

هكذا، يعد كتاب " علامات فى الطريق " من النصوص الاساسية للاسلاميين فى مصر، كتبه أحد أعضاء الأخوان المسلمين أعدمه عبد الناصر فى 1966 وهو سيد قطب. لم يهاجم هذا الكتاب فقط افلاس الايديولوجيات الغربية والستالينية، ولكنه أيضا يؤكد أن الدولة يمكن أن تدعو نفسها اسلامية وتظل تعتمد على بربرية معادية للاسلام ( الجاهلية، الاسم الذى يطلقة المطلعون على مجتمعات ما قبل الاسلام فى الجزيرة العربية ).

هذه الاوضاع يمكن تصحيحها فقط بواسطة " طليعة الامة " التى تقوم بثورة من خلال اتباع مثال "الرعيل الاول من المسلمين" - وهو الانسحاب من المجتمع القائم كما فعل محمد عندما هاجر من مكة من أجل بناء قوة قادرة على الاطاحة به. ذهبت وجهات النظر هذه الى أبعد من اعتبار الامبريالية العدو الأوحد، وبدلا من ذلك، هاجمت للمرة الأولى الدولة المحلية مباشرة. وقد أربكت المعتدلين من الاخوان المسلمين الجدد، الذين يفترض أنهم يقدرون مؤلفهم كشهيد. ولكنها شجعت آلاف عديدة من الراديكاليين الشباب. هكذا فى منتصف السبعينات أعدمت احدى الجماعات، التكفير والهجرة التى يقودها شكرى مصطفى بسبب اختطافها أحد موظفى الأوقاف فى 1977، التى ترفض المجتمع الحالى كمجتمع " غيراسلامى "، وكذلك المساجد الحالية، والدعاة الدينيين الحاليين، وحتى الأخوان المسلمين الجدد المرتبطين " بالدعوة ". وكانت تعتبر أن أعضاءها فقط هم المسلمون الحقيقيون ويجب يجب عليهم الانفصال عن المجتمع القائم، والعيش فى تجمعات منفصلة والتعامل مع الآخرين ككفار.



فى البداية كانت الجمعيات الاسلامية فى الجامعات واقعة تحت تأثير الأخوان المسلمين المعتدلين، ولم يدينوا فقط الانتفاضة ضد زيادة الأسعار وانما قاموا أيضا بالتعتيم على اعدام شكرى بعد ذلك فى نفس السنة. ولكن بدأت توجهاتهم فى التحول، خاصة عندما بدأ السادات " عملية السلام " مع اسرائيل فى اواخر 1977. وفورا تبنى كثير من مناضلى الجامعة أفكارا أكثر راديكالية فى بعض جوانبها من أفكار شكرى: فلم ينفصلوا فقط عن المجتمع القائم، بل بدأوا فى التنظيم للاطاحة به، مثل اغتيال جماعة الجهاد بقيادة عبد السلام فراج للسادات فى أكتوبر 1981.

وجه فراج انتقاداته العنيفة بوضوح لاستراتيجيات أحزاء مختلفة من الحركة الاسلامية - تلك القطاعات التى قصرت نفسها على العمل فى المجالات الخيرية الاسلامية، هؤلاء ( أى الأخوان المسلمون الجدد ) الذين يحاولون بناء الحزب الاسلامى الذى يمكنه فقط أن يضفى الشرعية على الدولة القائمة، والذين يعتمدون على الدعوة ولذلك يتجنبون الجهاد، وهؤلاء الذين يدافعون عن الانسحاب من المجتمع حسب اتجاهات جماعة شكرى، وكذلك الذين يرون أولوية الجهاد ضد الأعداء الخارجيين للاسلام ( فى فلسطين وأفغانستان ). وأصر على الصراع الفورى المسلح ضد كل هؤلاء، ان "الجهاد ضد الطاغية" واجل كل المسلمين:

" ان الجهاد ضد العدو فى الداخل أولى من الجهاد ضد العدو فى الخارج... فمسئولية وجود الاستعمار أو الامبريالية فى بلادنا الاسلامية تقع على هذه الحكومات الكافرة. ولذلك يكون الصراع ضد الامبريالية عبثيا وغير مشرف، بل مضيعة للوقت".

أدت وجهة نظر فراج مباشرة الى رؤية للتمرد ضد الدولة. ولكن لم يقض هذا على الاختلافات الهامة داخل مجموعته بين قطاع القاهرة، الذى تشكل حول الهدف الأساسى لاسقاط الدولة الكافرة، والقطاع الآخر فى أسيوط، الذى " اعتبر التنصير المسيحى للمسلمين العقبة الرئيسية أمام انتشار الاسلام ".

كان هذا يعنى فى الممارسة أن توجه مجموعة أسيوط معظم نيرانها ضد الأقلية القبطية ( وغالبيتهم من فقراء الفلاحين ) - السياسة التى كان طلاب الجامعة قد اتبعوها فعلا بنجاح مذهل فى أوائل العام الدراسى، عندما أشعلت حربا أهلية طاحنة بداية فى وسط مصر فى المنيا، وبعد ذلك فى القاهرة فى الزاوية الحمراء:"لم تتردد الجماعة فى اشعال نيران العنف الطائفى حتى تضع الدولة فى موقف حرج وتبين أنها مستعدة للحلول محل الدولة، ولنقل، خطوة خطوة.

كنت جماعة الجهاد فى أسيوط اذن تتبع سياسة مجربة وناجحة لكسب تأييد شعبى محلى من خلال اثارة الأحقاد الطائفية. مكنها ذلك بسرعة من السيطرة على أسيوط فى أعقاب اغتيال السادات. وعلى العكس، لم يفز مناضلى القاهرة، باصرارهم أن الدولة هى العدو، بشكبات متضامنة أو مغذية، وحركتهم المنعزلة - أى اغتيال السادات - لم يتبعها انتفاضة السكان المسلمين فى القاهرة التى سعى اليها بعنف فراج وأصدقاؤه..

وبدلا من أن يؤدى الاغتيال الى تمكين الاسلاميين من الاستحواذ على سلطة الدولة، استطاعت الدولة استغلال فرصة التخبط الناتج عن الاغتيال للقضاء على الاسلاميين. وبسبب القبض على الآلاف واعدام كثير من القادة، أدى القمع الى اضعاف الحركة بصورة هائلة. وبرغم ذلك، لم تنتهى الأسباب التى دفعت كثير من الشباب الى التوجه نحو الاسلاميين. فمع نهاية الثمانينات استردت الحركة ثقتها وبدأت فى النمو السريع فى بعض مناطق القاهرة والاسكندرية. وكان ذلك مصحوبا بحملة ارهابية قوية ضد البوليس وقوات الأمن.

بعد ذلك فى ديسمبر 1992، قامت الدولة بحملة جديدة غير مسبوقة من القمع. واحتلت الأحياء العشوائية فى القاهرة، مثل امبابة، بعشرين ألف جندى بالدبابات والعربات المدرعة. وقبضت على عشرات الآلاف ونظمت عصابات لقتل الهاربين من المناضلين الاسلاميين. وأغلقت أهم المساجد التى يستخدمها المسلمون الراديكاليون بالأسمنت. وقبضت على آباء وأطفال وزوجات المناضلين وعذبتهم.

ومرة ثانية كما حدث فى الثمانينات، نجحت حملة الارهاب التى قامت بها الدولة. ولم تكن الحركة الاسلامية قادرة على، ولا حتى حاولت، تحريك تأييد حماهيرى فى شكل مظاهرات. وبدلا من ذلك، اندفعت فى استراتيجية ارهابية تماما لم تهز استقرار نظام مبارك بجدية، حتى وان كانت قد دمرت فعليا صناعة السياحة.

فى نفس الوقت، استمر الاخوان الملمون فى التصرف كمعارضة موالية، والتفاوض مع النظام على التطبيق التدريجى للشريعة فى قوانين الدولة، والاحجام عن التمرد ضد القمع.






تناقضات الحركة الاسلامية فى الجزائر
ان قصة صعود وثورية الحركة الاسلامية فى الجزائر مشابهة من زوايا عديدة لتلك فى مصر. فقد شجع الديكتاتور الجزائرى بومدين فى أواخر الستيات و1970 الحركة الاسلامية المعتدلة لمواجهة اليسار معارضيه القدماء داخل حركة التحرير التى أنهت الاستعمار الفرنسى.

فى 1970 بادرت الدولة بحملة اسلامية بقيادة مولود قاسم، وزير الدين والتعليم، التى استنكرت "انحطاط الأخلاق" و" التأثير الغربى" وراء " الانفتاحية " و" شرب الخمور " و" الاحساس بالدونية الذى يتمثل فى اتباع الغرب دائما والملابس النصف عارية ". استطاع الاسلاميون استغلال هذه الحملة لزيادة نفوذهم الخاص، حاصلين على الأموال من ملاك الأراضى القلقين من الاصلاح الزراعى لنشر الرسالة التى يمكن أن تشد معظم الشرائح الفقيرة من المجتمع:

" كان جوهر دعاية الاصوليين أن الاسلام مهدد من التسلل الشيوعى والالحادى الذى كان الاصلاح الزراعى يشكل عقبة أمامه.. ونشر الأصوليون أفكارهم الخاصة فى أكثر المناطق حرمانا، بعد البناء السريع للمساجد التى تحولت بعد ذلك الى انشاءات صلبة. سئم العمال والعاطلين عن العمل ظروف حياتهم، حيث لم ينتفعوا من الاصلاح الزراعى، فاستجابوا للاصوليين".

وبعد ذلك فى منتصف السبعينات حصلوا على دعم من قطاعات من النظام للقضاء على اليسار فى الكليات: " نجح الأصوليون فيما بين 1976 و1980 بالتآمر مع النظام فى القضاء التام على نفوذ الماركسيين".

وفى أوائل الثمانينات، استمر قطاع من النظام فى التطلع الى الرؤى الأكثر اعتدالا من الحركة الاسلامية لتدعمه. فقد سعى شيبان، وزير الشئون الدينية حتى 1986 لبناء هذا الاتجاه الاسلامى، ولهذا ساعد الاسلاميين للحصول على أموال لبناء المساجد من الصناعيين والمؤسسات التجارية. ولكن ذلك لم يمكنه من ايقاف تطور رؤى اسلامية راديكالية ترفض النظام. هكذا فى مدينة قسطنطين، بينت إحدى الدراسات:

"حلت الأصولية فى قطاع واسع من الرأى العام فى قسطنطين محل المفاهيم التقليدية من خلال نشر رؤية اسلامية جديدة تدعو الى إحياء مجتمع النبى. وتستمد هذه الأصولية قوتها من الاستفزاز الذى يسيطر على جزء كبير من الشباب، أولئك الخارجين من حسابات النظام الاقتصادى والاجتماعى".

كانت هذه الرؤية الاسلامية من القوة بحيث كانت قادرة عل اجبار وزارة التعاليم الدينية على تعيين أعضائها كأئمة فى المساجد بدلا من أولئك الذين يتبنون رؤى معتدلة.

وبدأ النظام يفقد السيطرة على الميكانيزمات نفسها التى أثارها للتعامل مع اليسار. وبدلا من أن تسيطر على الجماهير لصالح النظام، وفرت الحركة الاسلامية تركيزا لكل مرارتهم وكراهيتهم لأولئك القادة الذين شاركوا فى حرب التحرير فى الستينات ولكنهم أصبحوا الآن طبقة حاكمة متميزة. وعمقت الأزمة الاقتصادية التى عانى منها المجتمع الجزائرى فى منتصف الثمانينات من الاحساس بالمرارة - حيث تحولت الدولة الى الرأسماليين الغربيين الذين استنكرتهم فى الماطى فى محاولة للتعامل مع الأزمة. وأصبح التحريض الاسلامى ضد اولئك الذين يتحدثون الفرنسية وقد " أفسدتهم الأفكار الغربية " بسهولة هجوما على مصالح " الفئة القليلة ولكن المسيطرة من التكنوقراط ذوى التعليم العالى والذين يشكلون أساس طبقة جديدة من البيةروقراطيين ذوى الرواتب العالية".

بدأ النظام فى التحول ضد الاسلاميين بسجن قادتهم فى منتصف الثمانينات، حيث أتهم الرئيس الشاذلى الأئمة " بالديماجوجية السياسية ". وبرغم ذلك، لم تكن النتيجة هى القضاء على الاسلاميين، بل تعزيز موقفهم فى معارضة النظام.

أصبح ذلك واضحا فى أكتوبر 1988. انفجر العداء ضد الطبقة الحاكمة والنظام فى انتفاضة شبيهة جدا لتلك التى كانت وشيكة الجدوث فى أوروبا الشرقية بعد ذلك بعام. وتحولت الحركة فورا، التى بدأت كسلسلة من الاضرابات العفوية فى الجزائر العاصمة، الى معارك كبيرة فى الشوارع بين الشباب والبوليس: أعاد الناس، مثل سجين أطلق لتوه، اكتشاف أصواتهم وشعورهم بالحرية. وحتى قوة البوليس لم تعد تخيفهم. كان تمرد أكتوبر 1988 قبل كل شئ احتجاجا للشباب على ظروف حياتهم بعد ربع قرن من الديكتاتورية العسكرية.

اهتز النظام من أساسه نتيجة لهذا التمرد. وكما فى أوروبا الشرقية، ظهرت كل أشكال القوى السياسية التى قمعت من قبل. وكتب الصحفيون بحرية لأول مرة، وبدأ المثقفون فى الحديث بحرية عن حالة المجتمع الجزائرى الحقيقية.. وعاد السياسيون المنفيون من كل من اليسار واليمين من الخارج، وظهرت حركة نسائية تتحدى قانون العائلة الاسلامى الذى يفرضه النظام، والذى يمنح النساء حقوقا أقل من الرجال. ولكن حالا بدا واضحا أن الاسلاميين كانوا القوى السائدة فى المعارضة خارج مناطق البربر. وكان تأثيرهم من زوايا عديدة يشبه نفوذ " الديمقراطيين " فى أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتى فى السنة التالية. واجتمع لهم القبول الذى أبداه قطاعات من النظام فى الماضى، والدعم الذى يحصلون عليه من بعض الدول الأجنبية القوية ( على سبيل المثال، التمويل من السعودية ) مع قدرتهم على التماسك حول رسالة ركزت مرارة جماهير السكان:

" بدا الاسلاميون بفضل عددهم، وشبكة المساجد الخاصة بهم، وقدرتهم على التحرك عفويا كرجل واحد، كأنما يطيعون أوامر لجنة مركزية سرية، كما لو أنهم الحركة الوحيدة القادرة على تحريك الجماهير والسيطرة على مجرى الأحداث. فقد كانوا هم الذين يتقدمون كمتحدث باسم المتمردين، والقادرين على فرض أنفسهم كقادة للحركة فى المستقبل... وبعد أن هدأ النظام، الذى لم يعرف مع من يتفاوض، بنادقه الآلية، كان يبحث عن القادة والممثلين القادرين على صياغة مطالب والسيطرة على الجماهير الذين يتحركون بعنف لا يمكن السيطرة عليه. لذلك استقبل الشاذلى عباس مدنى، وبلحاج ومهنى (أشهرالزعماء الاسلاميين) ".

وقد أصبحت الحركة الاسلامية، المنظمة الآن فى جبهة الانقاذ، مؤثرة فى الشهور التى تلت ذلك لدرجة أنها كانت قادرة على السيطرة على معظم الدوائر الهامة فى انتخابات يونية 1990 المحلية، وبعد ذلك حصلت على أكبر عدد من الأصوات فى الانتخابات العامة فى ديسمبر 1991، برغم تعرضها للقمع الشديد. ألغى العسكريون الجزائريون الانتخابات لمنع الاسلاميين من تشكيل الحكومة. ولكن لم يوقف ذلك التأييد الجماهيرى للاسلاميين خالقة ظروف حرب أهلية تقريبا فى البلاد، مع سقوط مناطق بكاملها تحت السيطرة الكاملة للجماعات الاسلامية المسلحة.

وبرغم ذلك كان صعود النفوذ الاسلامى مصحوبا بخلط متزايد حول ما تدعو اليه جبهة الانقاذ الاسلامية. فأثناء سيطرتها على المدن الرئيسية بين يونيو1990 ومايو 1991،

" كان التغيير الذى أحدثوه متواضعا؛ أى اغلاق البارات، الغاء الحفلات الموسيقية، الحملات - فى أوقات العنف - من أجل "احتشام النساء " وضد أطباق استقبال الأقمار الصناعية المنتشرة التى " تسمح باستقبل الأفلام الغربية الجنسية"... ولم يعد مدى ( أشهر قادة جبهة الانقاذ الاسلامية ) ولا مجلس شورى الجبهة برنامجا سياسيا اجتماعيا حقيقيا ولا دعوا الى مؤتمر لمناقشته. وقصر مدنى نفسه على القول بأن ذلك سوف يحدث بعد تشكيل الحكومة".

وما فعلته جبهة الانقاذ فعلا هو إعلان معارضتها لمطالب العمال بتحسين الأجور. وقد عارضت فى هذه الشهور اضراب عمال النظافة فى الجزائر العاصمة، واضراب عمال الخدمة المدنية، وكذلك الاضراب العام ليوم واحد الذى دعى اليه اتحاد النقابات " الحكومة " السابق. وبرر مدنى كسر اضراب عمال النظافة فى تحقيق صحفى، شاكيا أن ذلك كان يجبر أناس محترمين مثل الأطباء والمهندسين على كنس الشوارع:

" من حق عمال النظافة أن يضربوا، ولكن ليس من حقهم احتلال العاصمة وتحويل البلاد الى مزبلة. ويوجد اضرابات تقوم بها النقابات وتصبح وجالا لنشاط المفسدين، أعداء الله والوطن، الشيوعيين وآخرين، الذن ينتشرون فى كل مكان بسبب تراجع كوادر حبهة التحرير الوطنية... اننا نحيى ايام الإسلام".

تناسب هذا الموقف " المحترم " تماما مع مصالح الطبقات التى مولت الاسلاميين منذ زمن الاصلاح الزراعى حتى الآن وتناسب أيضا مع هؤلاء الاعضاء الناجحين من البرجوازية الصغيرة الذين كانوا جزءا من جبهة الانقاذ الاسلامية - أى الأساتذة، والأئمة الراسخين، ومعلمى المدارس الثانوية. وقد جذب أيضا أولئك الريفيين الذين مكنهم ولاؤهم للحزب الحاكم السابق - أى جبهة التحرير - من الرخاء المادى، وأصبحوا فلاحين رأسماليين ناجحين أو رجال أعمال أعمال صغار. ولكنه لم يكن كافيا لارضاء جماهير الفقراء فى الحضر الذين تطلعوا الى جبهة الانقاذ أملا فى الخلاص أو اجبار الطبقة الحاكمة والعسكريين على التراجع وقبول حكومة تشكلها جبهة الانقاذ الاسلامية.

فى نهاية مايو 1991 تحول قادة جبهة الانقاذ، أمام تهديدات العسكريين بافساد العملية الانتخابية بدلا من خطر انتصار الجبهة، و" قاموا بانتفاضة حقيقية أعادت الى الأذهان أكتوبر 1988: قنابل مولوتوف، غازات مسيلة للدموع، متاريس، ودفع على بلحاج، الإمام الزعيم، بعشرات الآلاف من المتظاهرين الى الشوارع. وسيطرت جبهة الانقاذ لبعض الوقت على مركز العاصمة الجزائرية، يدعمها عدد هائل من الشباب الذين بدا لهم الاسلام والجهاد البديل الوحيد عن بؤس المجتمع الذى يدافع عنه العسكريون.

فى الواقع، كلما ازدادت جبهة الانقاذ قوة، كلما ترددت بين الهدوء والثورة، داعية الجماهير الى عدم الاضراب فى مارس 1991 وبعد ذلك دعتهم الى الاطاحة بالدولة بعد شهرين فقط فى مايو.

ظهرت نفس التناقضات فى الحركة الاسمية فى الثلاث سنوات منذ أن تزايدت حدة حرب العصابات فى كل من المدن والريف. " وقد أثار الحكم على عباس مدنى وعلى بلحاج بالسجن 12 عاما ثورة كبرى داخل جبهة الانقاذ وانقساما فى قواعدها. وأشاع حجز آلاف الأعضاء والمتعاطفين معها فى معسكرات فى الصحارى الارهاب فى المدن وحرب العصابات فى الريف. ونشأت منظمتين مسلحتين، هما الحركة الاسلامية المسلحة، والجماعات الاسلامية المسلحة، التى حصلت على تأييد الجماعات المسلحة فى كل مناطق البلاد. ولكن كانت الحركتان السريتان تتميزان " بالانقسامات الداخلية":

" فى مقابل ‘ الاعتدال ‘ المفترض للحركة الاسلامية المسلحة، التى تغتال ‘ فقط ‘ ممثلى ‘ النظام الفاجر‘، تعرض الجماعات الاسلامية المسلحة الجهاد المتطرف، والذى يختار ضحاياه من الصحفيين، والكتاب، والشعراء والنسويين والمثقفين... منذ نوفمبر 1993 قتل 32 من الأئمة المسلمين المعتدلين والنساء المتبرجات...

أدت معارك قتل الأخوة بين الحركة الاسلامية المسلحة والجماعات الاسلامية المسلحة الى ضحايا كثيرة.. وينسب البعض موت 7 من الارهابيين الى هذه المشاجرات، ولكن البعض الآخر ينسبه الى العصابات التى ينظمها البوليس. وتتهم الجماعات الاسلامية المسلحة القادة التاريخيين لجبهة الانقاذ بالانتهازية والخيانة وبالتخلى عن برنامجهم فى التطبيق الكامل للشريعة."






مفترق الطرق:
تبين تجربة الحركة الاسلامية فى مصر والجزائر كيف أنها يمكن أن تنقسم حول مسألتين مختلفتين: أولا حول ضرورة اتباع مرحلة تطول أو تقصر من الاصلاح السلمى للمجتمع القائم أو حمل السلاح؛ ثانيا حول ضرورة الكفاح لتغيير الدولة أو تطهير المجتمع من " الكفر".

فى مصر تعتمد الأخوان المسلمون حاليا على سياسة إصلاحية تتوجه نحوالدولة. وهى تحاول أن تعمل داخل المجتمع الحالى بانية قوتها حتى تصبح معارضة شرعية، مع سيطرة إعلامها الخاص على مختلف منظمات مهنيى الطبقة الوسطى والتأثير داخل قطاعات أوسع من السكان من خلال المساجد والجمعيات الخيرية الاسلامية. وهى أيضا تميل الى التأكيد على الجهاد لفرض احترام القيم الاسلامية من خلال حملات اعلامية تدعو النظام القائم الى ادخال الشريعة فى القانون الرسمى.

هذه هى الاستراتيجية التى تبدو أيضا أنها تجذب قطاعا من قيادة جبهة الانقاذ المسجونين أو المنفيين فى الجزائر. فى الشهور القليلة الأولى من 1994 كانت هناك تقارير عن مفاوضات بينهم وبين قسما من النظام، مع الاتفاق حول اقتسام السلطة لتطبيق جزء من الشريعة. هكذا حاء فى تقرير لصحيفة الجارديان فى أبريل 1994 أن رباح كبير، أحد قادة جبهة الانقاذ المنفيين، رحب بتعيين رضا مالك، أحد قادة طبقة التكنوقراط، رئيسا جديدا للوزراء فى الجزائر، " كحدث ايجابى " - بعد يومين فقط من استنكار جبهة الانقاذ لآخر اتفاق بين الحكومة وصندوق النقد الدولى.

يرى بعض المعلقين المحنكين أن هذه الصفقة تقدم أفضل الطرق للبرجوازية الجزائرية لانهاء حالة عدم الاستقرار والحفاظ على موقعها. هكذا يرى جوان جويتسلولو أن العسكريين كان يمكن أن يتجنبوا الكثير من المتاعب من خلال السماح لجبهة الانقاذ الاسلامية بتشكيل الحكومة بعد انتخابات 1991:

" ستعوق الظروف التى تصعد فيها الى السلطة تطبيق برنامجها بشكل فعال. فمديونية الجزائر، واعتمادها فى التمويل على الدائنين اليابانيين والأوروبيين، والفوضى الاقتصادية والمشاعر العدائية للقوات المسلحة كانت ستشكل عقبة كبيرة يصعب على حكومة جبهة الانقاذ التغلب عليها... فعجزها عن الوفاء بوعودها الانتخابية كان شيئا معروفا مسبقا. وعلى مدار سنة من حكومة محاصرة بقوة من أعدائها، كانت جبهة الانقاذ ستفقد جزءا كبيرا من مصداقيتها"

تتناسب ‘ الاصلاحية فى الحركة الاسلامية ‘ مع احتياجات طبقات اجتماعية هامة معينة - أى أصحاب الأراضى التقليديين والتجار، والبرجوازية الاسلامية الجديدة ( مثل أعضاء الأخوان المسلمين الذين أصبحوا مليونيرات فى السعودية) وذلك القطاع من الطبقة الوسطى الاسلامية الجديدة الذين حظوا بالتحرك لأعلى. ولكنها لا ترضى الشرائح الأخرى الذين تطلعوا الى الحركة الاسلامية - أى الطلاب والخريجيين الفقراء، أو فقراء الحضر. وكلما سعت جبهة الانقاذ والأخوان المسلمون الى المساومة، كلما تطلعت هذه الشرائح الى اتجاه آخر، معتقدين أن أى تنازل عن مطلب إدخال اسلام السنوات الأولى يعد خيانة.

ولكن من الممكن أن يوجه رد فعلهم نحو ذلك فى اتجاهات مختلفة. فربما يظل سلبيا فى مواجهة الدولة، داعين الى استراتيجية الانسحاب من المجتمع، ويكون التشيد فيها على الدعوة وتنقية الأقليات الاسلامية، بدلا من التشديد على المواجهة. كانت تلك هى الاستراتيجية الأصلية لجماعة شكرى فى مصر فى منتصف السبعينات، وهى أيضا رؤية بعض الدعاة لراديكاليين القلقين من قوة الدولة اليوم.

أو من الممكن أن تتحول الى الصراع المسلح. ولكن بالضبط كما يمكن أن يوجه الصراع السلمى ضد الدولة أو ضد مظاهر الفجر وحدها، كذلك يمكن أن يكوون الصراع المسلح صراعا للاطاحة بالدولة، أو حركات مسلحة ضد ‘ أعداء الاسلام ‘ وسط السكان عموما - أ الأقليات العرقي والدينية، والنساء المتبرجات، والأفلام الأجنبية، ونفوذ ‘ الامبريالية الثقافية ‘ وهكذا. ربما يبدو منطق الموقف هو دفع الناس نحو خيار الصراع المسلح ضد الدولة. ولكن يوجد منطق مضاد قوى فى العملية، تقع جذوره فى التكوين الطبقى لاتباع الحركة الاسلامية.

فكما رأينا، ان القطاعات التى تؤيد لاحركة الاسلامية من الطبقات المستغلة تنسحب بشكل طبيعى الى اتجاهاتها الأكثر إصلاحية. وحتى عندما لايكون لهم خيار الا حمل السلاح، فهم يريدون أن يفعلوا ذلك بطريقة تقلل الى الحد الأدنى الاحتجاج الاجتماعى الأوسع. فهم يسعون الى الانقلابات بدلا من الحركة الجماهيرية. واذا حدث ذلك رغما عنهم، يحاولون انهاءه بأسرع وقت ممكن.

يستطيع فقراء البرجوازية الصغيرة الجديدة التحرك أبعد بكثير نحو مفهوم الحركة المسلحة. ولكن موقعهم الاجتماعى الهامشى الخاص يمنعها من رؤية ذلك كتطور من الصراعات الجماهيرية مثل الاضرابات. وبدلا من ذلك تتطلع الى المؤامرات التى تعتمد على الجماعات الصغيرة المسلحة - المؤمرات التى لا تؤدى الى التغيير الثورى الذى أراده قادتهم، حتى عندما يحققون أهدافهم المباشرة مثل اغتيالهم للسادات. ومن الممكن أن تحدث خللا كبيرا فى المجتمع الحالى ولكنها لا تستطيع تثويره.

كانت هذه تجربة الشعبويين فى روسيا قبل 1917. وكانت تجربة جيل من الطلبة والخريجين فى كل منطقة العالم الثالث الذين اتجهوا نحو الجيفارية والماوية فى أواخر الستينات( والذين ما زال أتباعهم يحاربون فى الفلبين وبيرو). وهى تجربة الاسلاميين المسلحين فى مواجهة الدولة فى مصر والجزائر اليوم.

ربما يكون الطريق الوحيد للخروج من هذا المأزق أن يبنى الاسلاميون أنفسهم على أساس طبقات غير هامشية ومتوسطة الحجم. ولكن الأفكار الأساسية للحركة الاسلامية تجعل ذلك مستحيلا حيث يدعو الاسلام، حتى فى شكله الأكثر راديكالية، الى العودة الى مجتمع الأمة الذى يوفق بين الأغنياء والفقراء، وليس الإطاحة بالآغنياء. هكذا يطرح البرنامج اٌلإقتصادى لجبهة الإنقاذ خطة ‘ للمشروعات الصغيرة ‘ التى تنتج ‘ الاحتياجات المحلية ‘ مدعية أن ذلك بديلا عن ‘ الرأسمالية الغربية ‘ والتى لا تتميز فعلا عن الدعاية الانتخابية للعديد من الأحزاب الليبرالية والمحافظة المنتشرة فى العالم. وشددت فى محاولاتها لتشكيل ‘ نقابات إسلامية ‘ فى صيف 1990 على واجبات العمال، لأن النظام القديم منحهم حقوقا كثيرة و‘ عود العمال على الكسل ‘ كما تدعى. وأصرت على أن الصراع الطبقى ‘ لا يوجد فى الإسلام ‘، لأن النصوص المقدسة لم تتحدث عنه. والمطلوب هو أن يعامل صاحب العمل عماله بنفس الطريقة التى يأمر بها القرآن المؤمنين لمعاملة عبيدهم - أى ‘ أخوة ‘.

وليس غريبا أن أى من ‘ الجماعات الإسلامية ‘ لم تنجح فى أى مكان فى بناء قاعدة لها فى المصانع حتى ولو عشر القوة التى بنوها فى القطاعات الأخرى. ولكن بدون هذه القاعدة لن يمكنها بمفردها تحديد مسار التغيير الإجتماعى، حتى لو نجحت فى هدم النظام الحالى. فأولئك الذين يعيشون على هامش المجتمع يمكنهم فى ظروف معينة إثارة أزمة كبرى داخل نظام غير مستقر فعلا. ولا يمكنهم تحديد كيفية الخروج من هذه الأزمة.

ربما تستطيع الجماعات الإسلامية إثارة تلك الأزمة فى أحد الأنظمة الموجودة ولذلك يستطيعون عزل قادتها الحاليين. ولكن ذلك لن يمنع الطبقة الحاكمة، التى سيطرت فى ظل هؤلاء القادة، من الاتفاق مع الإسلاميين الأقل نظالية للتمسك بالسلطة. وبعد تلك الأزمة بوقت قصير يواجه المناضلون الإسلاميون أنفسهم آلة الموت الجبارة على أيدى الدولة.

إنه ذلك الضغط من الدولة هو الذى يشجع بعضهم للتحول عن الهجوم المباشر على النظام إلى المهمة السهلة فى مهاجمة ‘مظاهر الكفر‘ الأقليات - الإتجاه الذى يشدهم فى المقابل للإقتراب من تيار الإسلاميين الإصلاحيين‘ المعتدل‘.

فى الواقع، يوجد دياليكتيك معين داخل الحركة الإسلامية. يتعلم الإسلاميون الذين يناضلون ضد الدولة، بعد تحمل الجزء الأكبر فى الصراع المسلح الفاشل، الطريق الصعب فى إحناء الرؤوس، وبدلا من ذلك يتحولون للصراع من أجل فرض السلوك الإسلامى إما مباشرة أو من خلال الإصلاحية الإسلامية. وهكذا يظهر مناضلون جدد باستمرار ينشقون ويتجهون الى طريق الحركة المسلحة حتى يتعلم هؤلاء أيضا حدود الحركة المسلحة المنعزلة عن قاعدة اجتماعية مؤثرة.

لا يوجد تحرك أوتوماتيكى من معرفة حدود الحركة الإصلاحية الإسلامية الى الإتجاه نحو السياسة الثورية. بل تؤدى حدود الإصلاحية إلى إما جماعات وعصابات إرهابية تحاول التحرك دون قاعدة حماهيرية، أو فى اتجاه الهجوم الرجعى على ضحايا مشكلات النظام. ولأن كلا الاتجاهين يعبر عن نفسه بنفس اللغة الدينية، يوجد غالبا سيادة لاتجاه على آخر.فمن يريدون الهجوم على النظام والإمبريالية يهاجمون الأقباط والبربر والنساء المتبرجات. ومن لديهم كراهية غريزية للنظام ككل يقعون فى فخ الرغبة فى التفاوض حول فرض الشريعة من خلال الدولة. وعندما توجد انقسامات بين المجموعات المتصارعة - أحيانا ما تكون عنيفة لدرجة أنهم يشرعون فى قتل بعضهم البعض كمرتدين عن الإسلام الحقيقى - يعبر عنها بطرق تخفى الأسباب الإجتماعية الحقيقية وراءها. لو أن أحد الإسلاميين المتطلعين لأعلى كف عن الجهاد، فان ذلك يبرهن فقط على أنه شخصيا ‘ مسلم سئ، ( أو حتى مرتد)؛ وهذا لا يمنع فى حد ذاته إسلاميا آخرا متطلعا لأعلى من أن يكون " مسلما جيدا "







التجربة الإيرانية:
يهيمن النظام الاسلامى فى ايران على المناقشات حول الاحياء الاسلامى، مثلما يهيمن سجل الستاليينة على المناقشات حول الاشتراكية، وغالبا حتى بين اليسار يتوصلون الى استنتاجات مماثلة. ويعرف المسلمون، بنفس الدرجة التى كان يعرف بها الستالينيون يوما ما، كأخطر القوى السياسية جميعا، القادرة على فرض شمولية تمنع أى تطور تقدمى، وضرورى من أجل مواجهتهم بالنسبة لليسار أن يتحد مع القطاعات الليبرالية من البرجوازية، أو حنى تأييد خكومات غير ديمقراطية فى قمعها للجماعات الاسلامية. وهذا الرأى يبالغ فى تقدير تماسك الحركة الاسلامية ويبسب اليها القدرة على صنع الاحداث التاريخية والتى فى الواقع ليست لديها، وهذا مبنى على فهم خاطئ لدور الاسلام أثناء وبعد االثورة الايرانية فى عام 1979.

تلك الثورة لم تنتج عن الحركة الاسلامية، ولكن عن التناقضات الكبيرة التى ظهرت فى نظام الشاه قى منتصف واواخر السبعينات، حيث فاقمت الازمة الاقتصادية الانقسامات العميقة الموجودة بين رأسمال المال الحديث المرتبط بالدولة والقطاعات الاخرى التقليدية المتمركزة حول البازار ( التى كانت تسيطر على ثلثى تجارة الجملة وثلاثة ارباع تجارة التجزئة )، فى نفس الوقت كانت تعمق التونرات داخل جماهير العمال والاعداد الهائلة من الفلاحين السابقين الذين أتوا كالفيضان الى المدن. كانت المؤسسة الدينية الممتعضة من النظام تشترك فى مظاهرات الاحتجاج التى يقوم بها المثقفون والطلاب والتى أنتشرت لتضم فقراء الحضر فى سلسلة من الصدامات الكيرى مع البوليس والجيش، وشلت موجة من الاضرابات الصتاعة وتعطلت نتيجة لتلك الاضرابات أهم حقول البترول. وبعد ذلك وفى اوائل فبراير 1979 نجحت كل من عصابات الفدائيين اليسارية والعصابات الاسلامية اليسارية من مجاهدى خلق فى اثارة انقلابات كبرى فى القوات المسلحة، واحدثت انهيارا ثوريا للنظام القديم.

كان ينسب الى الزعيم الاسلامى المنفى ايات الله خومينى جزء كبير من الحركة الصاعدة، وكان أسمه يرمز الى معارضة الملكية، وكان يقيم خارج باريس حيث نقطة الاتصال بين ممثلى مختلف القوى المشتركة فى الحركة - أى البازاريين ورجال الدين القريبين منهم والمعارضة البرجوازية الليبرالية والنقابات المهنية والطلاب وحنى العصابات اليسارية - ومع عودة الخومينى الى طهران فى يناير 1979 أصبخ القائد الرمزى للثورة. وبرغم ذلك كان أبعد من ان يسيطر على الاحداث فى هذه المرحلة، ختى برغم حاسة التكتيك السياسى الحادة التى كان يمتلكها، فقد نمت الاحداث الرئيسية التى أسقطت الشاه - أى انتشار الاضرابات والانقلابات داخل القوات المسلحة - مستقلة تماما عنه، وكذلك فى الشهور التى تلت الثورة لم يكن الخومينى قادرا على فرض أى سلطة على الانتفاضة الثورية أكثر من أى شحص اخر، ففى المدن مارست لجان مخلية متنوعة سلطة الامر الواقع. وكانت الجامعات تحت سيطرة اليسار والمجاهدين وفى المصانع قاتلت الشورى ( مجالس العمال باللغة الفارسية ) من اجل السيطرة مع الادارة وغالبا ما طردوا عملاء نظام الشاه وتولوا عملية ادارة الانتاج بأنفسهم. وبدأت حركات فى المناطق التى يسكنها اقليات عرقية - كردستان فى الشمال الغربى وخوزيستان فى الجنوب الغربى المتحدث بالعربية - تقاتل من اجل تقرير المصير. وفى القمة كانت هناك مجموعتان تتطلعان الى العملية، احداهما كانت الحكومة الاقليمية برئاسة بازارجان " اسلامى معتدل " ومرتبط بالقطاعات الحديثة من البرجوازية فقد اسس جمعيات الطلاب الاسلامية فى الخمسينات، وبعدها نقابة المهندسين الاسلامية، والثانية مجموعة المجلس الثورى الذى رشحه الخومينى وكان يعمل كمركز بديل للسلطة وتجمعت حوله مجموعة من رجال الدين والمثقفين الاسلاميين المرتبطين بعلاقات مع البازار.

واخيرا استطاعت المجموعة الملتفة حول الخومينى اقامة سلطة كاملة لنفسها وكذلك الحزب الجمهورى الاسلامى ولكن ذلك استغرقهن سنتين ونصف من المناورات بين القوى الاجتماعية المختلفة والتى كان من الممكن بسهولة ان تتفوق عليهم. وخلال معظم عام 1979 تعاونوا مع بازارجان فى محاولة لاحكام السيطرة على مجالس العمال فى المصانع والحركات الوطنية الانفصالية. وقد استخدموا لفة اسلامية لتحريك قطاعات من البروليتاريا الرثة ورائهم فى عصابات، أى حزب الله، حتى يهاجم اليسار، وفرض القيم الاسلامية ( ضد النساء اللاتى يرفضن ارتداء الخمار ) ولتشترك مع الجيش فى اخماد الحركات الانفصالية. وكانت هناك نماذج للقمع الوحشى مثل اعدام حوالى مائة شخص بسبب " الجرائم الجنسية " أى الزنا والمثلية الجنسية، وقتل بعض المناضلين اليساريين، واطلاق النار على المعارضين الذين ينتمون الى الاقليات القومية، مثلما يحدث فى أى محاولة لاعادة ترسيخ المجتمع البرجوازى بعد انتفاضة ثورية عظيمة. ولكن المحصلة الاجمالية للحزب الجمهورى الاسلامى لم تكن ايجابية جدا فى اوائل خريف عام 1979، فمن ناحية، دغمت تلك النجاحات التى احرزها فى التعامل مع الثورة موقف المجتمعين حول بازارجان الذى تزايد الشقاق بينهم وبينه باستمرار وكما بينت ذلك دراسة لحركة بازارجان:

" بعد عام واحد من سقوط الشاه كان يتضح ان الطبقات الوسطى الاقضل تعليما وكذلك القوى السياسية التى يؤيدونها ( أى بازارجان ) كانت توسع بسرعة من تأثيرها، وتصبح مسيطرة فى مواقع معينة فى وسائل الاعلام ومؤسسات الدولة وخاصة المؤسسات التعليمية.. ومع تفكك وحدة القةر الاسلامية لم تستطع اللجان الاسلامية الحصول على تأييد غالبية الموظفين فى المؤسسات التابعة لها. "

ومن الناحية الاخرى، كانت هناك حالة من غدم الاستقرار هددت بالافلات من سيطرة الخومينيين وأدت الى النمو الهائل لكل من اليسار العلمانى واليسار الاسلامى، فقد كان اليسار مسيطرا فى أوساط الطلاب برغم الموجة الاولى من القمع الذى تعرض له فى أغسطس 1979، وكانت مجالس شورى المصانع قد انهكت نتيجة لموجة القمع ذاتها، لكن استمر الكثير منها قائما لعام آخر، وبالطبع لم يكن استعداد العمال للصراع قد انتهى - ففى عام 79-1980 كان هناك 360 اضرابا متنوعا " الاعتصام بالمصنع أو احتلاله " و180 اضرابا فى 80-1981 و82 اضرابا فى 81-1982.

تمكن الحزب الجمهورى من استعادة سيطرته على الموقف من خلال القيام بتحول ثورى فى نوفمبر 1979 بتنطيمه لاقلية من الطلاب الذين اتبعوا شعاراته بدلا من شعارات الفدائيين أو مجاهدى خلق لاحتلال سفارة الولايات المتحدة والاحتفاظ بموظفيها كرهائن مثيرا بذلك مواجهة كبرى مع أكبر قوة امبريالية فى العالم. وتذكر دراسة أخرى لهذه الفترة أن " الطلاب الاصولين فى المنظمات الاسلامية الذين كان ينظر اليهم - قبل اسابيع قليلة من منافسى الجماعات - على انهم رجعيين وطفوليين، بدوا الان كثوريين نشطيين وكانت الجماهير تحيهم عندما يظهرون على بوابة السفارة الامريكية اثناء لقاءاتهم مع الصحفيين ".

لقد كان التحول الى موقف راديكالى معادى للامبريالية مصحوبا بموجة ثورية فى سياسات الحزب الجمهورى الاسلامى فى المصانع، فمن الدفاع عن المديرين القدماء تحول الى التحريض على عزلهم - برغم أن الهدف لم يكن سيطرة العمال على مجالس الادارة - وليحل محلهم مديرين اسلاميين ليتعاونوا مع المجالس الاسلامية التى كان اليساريون والمجاهدون معزولين عنها تلقائيا " ككفار". وحقق التحول الثورى شعبية جديدة للحزب الجمهورى الاسلامى، فقد بدا يضع سياسة معاداة الامبريالية موضع التنفيذ، تلك السياسية التى استخدمتها مجموعة البازارجان دعائيا خلال سنوات طويلة من معارضة الشاه ولكنهم الان يتخلون عنها لانهم يحاولون اقامة علاقة جديدة قوية بين ايران والولايات المتحدة. لثد كان أيضا يتحرك فى ضؤ الشعارات الشعبية الهامة التى رفعت فى الشهور التى تلت الثورة بواسطة القوى المتنامية لكل من اليسار العلمانى والاسلامى:

" كان احتلال الاصوليين للسفارة الامريكية قد ساعدهم على التغلب على بعض العقبات، ونتج عن ذلك مساعدة تلك الجماعات التى دافعت عن سلطة رجال الدين لتطبيق سياساتها والسيطرة على المؤسسات الحساسة التى كان يعمل فيها وتسيطر عليها الطبقات الوسطى الافضل تعليما. فعندما هاجم الطلاب الموالون لرجال الدين بوابات السفارة الامريكية عاد أولئك الذين كان يشار اليهم كرجعيين الى الظهور كقادة ثوريين قادرين على اغراق القوى العلمانية وانصار التحديث معا... كان ذلمك بداية لتحالف جديد حيث كان بعض رجال الدين ومن لهم علاقات معهم من البازاريين قادة المجموعات الكبيرة من فقراء الطبقة الوسطى وكان فقراء الحضر هم القائمين بالوظائف ".

لم تكن المجموعة الملتفة حول الخومينى فقط تزداد جماهيرية، بل أيضا كانت تخلق قاعدة أوسع بكثير لنفسها حيث عزلت أو على الاقل هددت بعزل قدماء المديرين والموظفين " الغير اسلاميين ". ففى الصناعة والاعلام والقوات المسلحة والبوليس بدأت طبقة جديدة من الناس فى السيطرة على واعتمد كستقبلهم الوظيفى على قدرتهم على الدعاية للرؤية الخومينية للاسلام، وكذلك اولئك الذين تبقوا من هياكل السلطة القديمة اسرعوا فى البرهنة على التزامهم الاسلامى من خلال تطبيق سياسة الحزب الجمهوورى الاسلامى.

تبدى نجاح مجموعة الخومينى فى توحيد قطاع كبير من الطبقة الوسطى وراءها - أى كل من البرجوتزية الصغيرة التقليدية فى البازار وكثير من الجيل الاول من الطبقة الوسطى الجديدة - فى صراعها من اجل السيطرة على مؤسسات السلطة، وكان سر نجاحها هو قدرتها على جعل اولئك الذين اتبعوها فى كل مستوبات المجتمع يوحدون بين الحماس الدينى مع الترقى الشخصى. فيستطيع الان كل من كان يعمل كمدير مساعد فى شركة أجنبية ان يديرها تحت سيطرة الدولة وهو يشهر انه يؤدى واجبه الدينى فى خدمة الامة، ويستطيع الان من كان يعيش فى بؤس شديد بين البروليتاريا الرثة أن يحقق الذات بقيادة أحد مجموعات حزب الله فى محاولاتها لتطهير المجتمع من " الرذيلة " و" الشيوعيين الكفرة "، كانت الفرصة المتاحة أمام هؤلاء الذين اختاروا خط الخومينى هائلة، حيث خلق الانتقال من بلد المديرين الاجانب والمحليين والتقنيين أثناء الشهور الاولى من الانتفاضة الثورية 13000 وظيفة تحتاج لمن يشغلها، وأضاف تطهير " اللاسلاميين " من المديرين والموظفين وضباط الجيش الكقير الى المجموع.

ان الشئ المثير فى الطريقة التى استخدمتها مجموعة الخومينى فى طرد معارضيها وتأسيس نظام الحزب الواحد انه لم يكن خناك بالتحديد شئ اسلامى فيها، ولم تكن - كما يعتقد كثير من الناس الذين ارهبتهم المثابرة الدينية للنظام - نتيجة لخاصية ما غير عقلانية من العصور الوسطى للاصولية الاسلامية. لكنها فى الواقع كانت مماثلة جدا للطريقة التى اتبعنت فى اجزاء مختلفة من العالم بواسطة احزاب تعتمد على قطاعات من البرجوازية الصغيرة، وعلى سيبل المثال كانت هى الطريقة المستخدمة من قبل الاحزاب الشيوعية الضعيفة فى جزء كبير من اوروبا الشرقية لتجعيم حكمها بعد 1945. ان النموذج الاولى للبرجوازى الصغير الذى يربط بين الانتماء الايديولوجى والترقى الشخصى يوجد فى رواية الاب جوريو لبلزاك - أى اليعقوبى العصامى الذى يصنع ثروته من خلال استغلال الندرة الناتجة عن الانتفاضة الثورية.

لايمكن لحزب سياسى يعتمد على تنظيم قطاع من البرجوازية الصغيرة حول الصراع من اجل الوظائف ان يصل الى السلطة فى أية ظروف، فمعظم هذه المحاولات تنتهى الى لا شئ، لان التكوينات البرجوازية الصغيرة ضعيفة جدا حتى تتخدى سلطة الطبقات الحاكمة القديمة دون تحريك جماهير المجتمع الذى لا يستطيغون السيطرة عليه حينذاك، وهكذا، فى الثورة البرتغالية عام 1974-1975 حاول الحزب الشيوعى تخلل مؤسسات السلطة التى سقطت وتمزقت فى مواجهة المقاومة التى نظمتها القوى الرأسمالية العظمى من ناحية، وكذلك تصاعد نضالية العمال من أسفل من ناحية اخرى. هذه المحاولات يمكن أن تنجح فقط اذا كانت الطبقات الاجتماعية الرئيسية مشلولة لاسباب تاريخية معينة.

وكما وصفها تونى كليف فى واحدة من التحليلات الماركسية الهامة، اذا كانت الطبقة الحاكمة القديمة ضعيفة جدا عن التشيث بالسلطة فى مواجهة الازمة الاقتصادية الثورة من اسفل، بينما لاتمتلك الطبقة العاملة التنظيم المستقل الذى يسمح لها ان تصبح قيادة الحركة، هنا تستطيع قطاعات من الاتنليجنسيا أن تقايض عى السلطة، شاعرة انها تحمل رسالة حل مشكلات المجتمع ككل:

" ان الانتليجنسيا حاسة لتاخر بلادهم التقنى، وبسبب مشاركتها فى عالم العلوم وتكنولوجيا القرن العشرين، تكون مختنقة من تخلف بلادها الخاصة. يتأكد هذا الشعور من خلال " بطالة المتعلمين " المزمنة فى هذه البلاد. وفى ظروف التخلف الاقتصادى العام يكون الامل الوحيد لمعظم الطلاب هو الوظيفة الحكومية، ولكن لا يوجد تقريبا ما يكفى من هذه الوظائف لهم.

ان الحياة الروحية للمثقفين ايضا فى ازمة فهم يشعرون بعدم الامان أو الاتنماء داخل نظام يتأكل من خلال تأكل النماذج التقليدية وتحللها، ويفتقدون فيه للقيم الراسخة.

ساعد التحلل الثقافى على نممو الحاجة الشديدة الى وحدة جديدة يجب ان تكون كلية وديناميكية لو كان لها ان تملاء الفراغ الاجتماعى والروحى، يجب ان توحد بين الانتماء الدينى والنضال القومى. انهم يسعون الى حركة ديناميكية توحد الامة وتفتح مجالات واسعة أمامها، ولكنها غى نفس الوقت ستمنحهم السلطة، وهم يأملون فى الاصلاح من أعلى وسوف يسعدهم تسليم العالم الجديد الى أناس يعترفون بالجميل بدلال من ان يشهدوا حرطة تحرر من أناس واعين بانفسهم وينتظمون معا بحرية تكون نتيجته عالما جديدا لانفسهم، وهم يهتمون أقل من ذلك بكثير بالديمقراطية وكل هذا يجعل رأسمالية الدولة الشمولية هدفا جذابا جدا للمثقفين. "

برغم أن هذه الكلمات ككتبت عن جاذبية الستالينية والماوية والكاستروية فى بلاد العالم الثالث، فهى تتناسب تماما مع الانتليجنسيا الاسلامية حول الخومينى فى ايران، ولم يكونوا كما يعتقد خطأ العديد من المعلقين اليساريين مجرد تعبير عن رأس المال التجارى " الطفيلى المتخلف البازارى التقليدى " ولم يكونوا ببساكة تعبيرا عن الثورة البرجوازية المضادة الكلاسيكية. فقد قاموا باعادة تنظيم ثورية للملكية والسيطرة على رأس المال داخل ايران حنى عندما تركوا علاقات الانتاج الرأسمالية كما هى، واضعين رؤوس الاموال الكبيرة التى كانت مملوكة للمجموغة الملتفة حول الشاه فى أيدى مؤسسات الدولة ومؤسسات تابعة لها يسيطرون بأنفسهم عليها - وذلك بالطبع فى صالح المقهورين، بتسمية الشركة التى احتلت الامبراطورية الاقتصادية الخاصة بالشاه مؤسسة المستفزين، وكما يذكر بايات:

" كان احتلال الاسلامين للسلطة انعكاسا للفراغ فى السلطة فى دولة ما بعد الثورة، فلم تكن البروليتاريا ولا البرجوازية قادرة على فرض هيمنتها السياسية، ويجب التفتيش عن سبب عجزها فى تطورهما التاريخى الذى يشهد على ضعف كلا منهما. "

أو كما بينها كليف بالنسبة لانتليجنسيا بلاد العالم الثالث " أن قوتهم لها علاقة مباشرة بضعف الطبقات الاخرى وانعدام اثرها السياسى " وكان ذلك بسبب اعتمادهم على الموازنة بين الطبقات الاجتماعية الرئيسية لمد سيطرتهم الخاصة على الدولة وقطاعات من رأس المال حيث كان على مجموعة الخومينى ضرب منظمات اليسار أولا ثم المنظمات البرجوازية القائمة على ( بازارجان.. الخ ) قبل أن تكون قادرة على تدعيم سلطتها. فى عام 1979 كان ذلك يعنى العمل نغ بازارجان ضد اليسار لاحماد الموجة الثورية، وبعد ذلك التلميح بشكل معين لليسار باحتلال السفارة الامريكية لعزل البرجوازية القائمة، وخلال الثمانينيات كان يعنى ترددا آخر ( زجزاج ) بالسماح لزعيم اسلامى آخر له علاقات مع البرجوازية القائمة هو " بن صدر " لتولى الرئاسة وبعد ذلك العمل معه لتدمير حصن اليسار أى الجامعات، وعندما أقترح الحزب الجمهورى الاسلامى ارسال العصابات الاسلامية، حزب الله، الى الجامعات لتطهيرها من العناصر المعادية للاسلام، كان بن صدر مسرورا بان يعلن:

"وافق كل من قادة الحزب الجمهورى والليبراليون على فكرة الثورة الثقافية نت خلال القعل المباشر للجماهير الذين حرضوا على التظاهر فى ساحات الجامعات.. كان ذلك بالنسبة لليبراليين وسيلة للتخلص من المحرضين اليساريين فى النقابات العامة والمصانع والمناطق الريفية، حتى يمكن اعادة الاستقرار الاقتصادى والسياسى للبلاد.

احتلت عصابات حزب الله الجامعات، اصابة وقتلت أعضاء الجماعات السياسية التى كانت تعارض الثورة الثقافية، واحرقت الكتب والصحف التى أعتقد أنها " غير اسلامية "، وأغلقت الحكومة كل الجامعات والكليات لمدة ثلاثة سنوات تم خلالها اعادة كتابة مناهج الجامعات."

وبرغم ذلك، حتى فى هذا الوقت استمر الخومينيون فى الحفاظ على جزء من صورة " اليسار " الخاصة بهم مستخدمين لغة معادية للامبريالية لتبرير ما يفعلون وقد أصروا على ان الحرب لفرض القيم الاسلامية ضرورية فى الصراع ضد الاستعمار الثقافى وان اليسار، لانه كان قد قاوم ذلك، كان فى الواقع يعمل لصالح الامبريالية. وساعدتهم الاخداث على تأكيد هذه الادعاءات، فقد شهدت نفس الفترة المحاولة الفاشلة للولايات المتحدة فى اعادة احتلال السفارة من خلال ارسال طائرات هليكوبتر محملة بالسلاح (والتى اصطدمت مع بعضها البعض فى الصحراء)، وكذلك مظاهرات الشيعة ضد الحكومة فى البحرين، واعمال التمرد التى تناصر الخومينى فى منطقة الاحساء الغنية بالبترول فى السعودية واحتلال اسلاميون مسلحين للمسجد الحرام فى مكة، ومحاوولة صدام حسين فى العراق للتقرب من الولايات المتحدة وشياخات الخليج العربى باعلانه غزو ايران. استطاع الخومينى الاعلان، عن حق، ان الثورة مهددة من قوى متحالفة مع الامبريالية، وعن خطأ، انهم وحدهم يستطيعون الدفاع عنها. وليس عجيبا أن الخومينى نفسه اشار الى الهجوم " كمنحة آلهية "، سمحت الحاجة الى التحريك الجماهيرى الواسع ضد القوى الغازية فى شتاء 80 - 1981 لمؤيديه بتبرير احكام سيطرتهم على حساب كل من اليسار وجماعة بن صدر، ححنى استطاعوا فى يونيو ويوليو 1981 أن يهزموها بتأسيس هيكل شمولى تقريبا.

ولكن لماذا لم يكن اليسار قادرا على اعاقة تقدم الحزب الجمهورى الاسلامى ؟ فبالنظر الى الوراء، غالبا ما أدعى أن الخطأ يقع فى فشل اليسار أن يفهم فى الوقت المناسب الحاجة الى التحالف مع البرجوازية الليبرالية التقدمية، وهذه هى رؤية هاليداى، ولكن، وكما رأينا، كانت البرجوازية الليبرالية بقيادة بازارجان وبعد ذلك بن صدر تتحالف مع الخومينى فى حملته ضد مجالس الشورى فى المصانع وحملته لتطهير الجامعات، وما فرق بينهم هو من الذى سيجنى ثمار نجاحاتهم ضد اليسار، وقد كان ذلك فقط عندما اكتشف الخومينى انه قد نسى أن بن صدر ( وليس بازارجان الذى استمر حزبه فى نشاطه الشرعى ولكن بلا تأثير ) اشترك مع اليسار الاسلامى فى مجاهدى خلق فى محاولة فاشلة للاطاحة بالنظام.

كان الخومينون قادرون على التفوق على القطاع الليبرالى المزعوم من البرجوازية لانهم، بعد هزيمتهم لليسار، أستطاعوا عند ذاك استخدام الدعاية المعادية للامبريالية لتحريك قطاعات من فقراء الحضر ضد البرجوازية القائمة، لقد استطاعوا أن يلعبوا على الفجوة الواضحة بين الحياة البائسة للجماهير وأنماط الحياة "الغير اسلامية " للاغنياء ولم يستطع اليسار مقاومة المناورة من خلال مساندة القطاع الغنى المتفرنج من البرجوازية.

كان السبيل لهزيمة الخومينى حقا يقع فى تعبئة العمال للصراع من أجل مصلحتهم الخاصة، كان ذلك من الممكن أن يدفع القطاع الليبرالى المزعوم من البرجوازية والحزب الجمهورى الاسلامى الى موقف دفاعى.

لعب صراع العمال دورا حيويا فى الاطاحة بالشاه، وبعد ذلك كانت توجد صراعات هامة فى المصانع الكبيرة بين مجالس المصانع والادارة. ولكن بمجرد أن انزاح الشاه، نادرا ما أنتشرت صراعات العمال خارج حدود المصاننع المتفرقة للمنافسةعلى قيادة المقهورين والمستغلين، لم تصبح مجالس المصانع أبدا مجالسا للعمال على نمط سوفيتات روسيا فى 1905 و1917، وبسبب هذا الفشل لم تفلح أبدا فى جذب جمهور العمال العاديين والحرفيين المستقلين وفقراء التجار وراءها - أى حثالة البروليتاريا - الذين عباءهم الخومينيون ضد اليسار تحت شعارات دينية.

كان هذا الضعف فى حركة العمال جزئيا نتيجة لعوامل موضوعية، فكان هناك أنقسام داخل الطبقة العاملة بين أولئك العاملين فى القطاع الحديث فى المصانع الكبيرة وهؤلاء العاملين فى القطاعات التقليدية فى الورش الصغيرة ( والتى معظمها كانت تدار من أصحابها أو أعضاء العائلة ). وكانت المناطف التى يسكنها العمال غالبا يسودها عدديا القطاعات البائسة من البرجوازية الصغيرة، فقد كان يوجد 750 الف تاجر ومن الطبقة الوسطى، وتجار صغار، فى طهران فى 1980 فى مقابل 400 الف عامل فى المؤسسات الصناعية الكبيرة. وكانت أعداد كبيرة جدا من العمال جديدة على الصناعة ولديهم تراث ضئيل من الصراع الصناعى - 80% منهم كانوا من أصول ريفية وكل عام تغرق الاحياء بحوالى 330 الف من الفلاحين السابقين، وكان ثلثهم فقط متعلما ولذلك كان قادرا على قراءة الاعلام اليسارى، برغم أن 80% كانوا يمتلكون جهاز تليفزيونات. وأخيرا كان حجم القمع فى ظل الشاه يعنى أن عدد المناضلين الموجودين فى أماكن العمل كان قليلا جدا.

ولكن عجز حركة العمال عن حيازة قيادة الحركة الجماهيرية الاوسع لم يكن نتيجة لعوامل مموضوعية فقط، ولكنه كان نتاجا للاخطاء السياسية لقوات الجناح اليسارى الهائلة التى كانت موجودة فى الشهور التالية للثورة. تمتع الفدائيون ومجاهدى خلق بمؤتمرات حضرها الالاف، وحصل المجاهدون على ربع الاصوات فى طهران فى انتخابات ربيع 1980 ولكن تراث المجاهدين والفدائين كان يعتمد على العصابات، وأهتموا قليلا بالنشاط حول المصانع، كانت مواقعهم القوية فى الجامعات وليست فى المناطق العمالية. هكذا كان لدى مجاهدى خلق خمسة جبهات للنشاط: منظمة سرية للاعداد للصراع المسلح وجبهة شبابية وجبهة المرأة وجبهة البازاريين وجبهة العمال وكان من الواضح أن الاولوية ليست لجبهة العمال.

وأكثر من ذلك، لم يكن لدى المنظمات اليسارية الكبيرة الكثير، حتى عندما أنضم اليها مناضلين من العمال، ففى الاشهر الثمانية الاولى والحاسمة من الثورة وجهوا فقط انتقادات محدودة للتظام الجديد والتى وجهت بشكل أساسى حول فشله فى تحدى الامبريالية. كان مجاهدوا خلق مثلا:

" يتمسكون بقوة سياسة تجنب المواجهات مع الحكومة ذات الطابع الدينى، ففى اواخر فبراير عندما نظم الفدائيون مظاهرة لاكثر من 80 الف فى جامعة طهران مطالبين بالاصلاح الزراعى، وانهاء الرقابة على الصحف وحل القوات المسلحة، وقف المجاهدون بعيدا عن الاحداث. وفى اوائل مارس عندما احتفلت النساء ذوات التعليم الغربى باليوم العالمى للمرأة بالتظاهر ضد مراسيم الخومينى لالغاء قانون حماية الاسرة، وفرض ارتداء الخمار فى مكاتب الحكومة، وطرد "الجنس الادنى" من القضاء، حذر المجاهدون أن الامبريالية كانت تستخدم هذه الوسائل للتفريق. وفى اواخر مارس عندما هاجم رؤساء نادى متحمسون مكاتب جريدة " ايندجان " المعادية لرجال الدين، لم يقل المجاهدون شيئا، وعارضوا مقاطعة الاستفتاء حول الجمهورية الاسلامية وصراع الاكراد من أجل الاستقلال، وشددوا على أنه لو لم تستمر الامة متحدة وراء الامام الخومينى فربما يغرى ذلك المستعمرين على تكرار محاولتهم فى 1953. "

وفى أغسطس وقف الممجاهدون صامتين عندما هاجمت عصابات مسلحة مكاتب الفدائيين، وتجنبوا تحدى مرشحى الحزب الجمهورى الاسلامى فى انتخابات 1979 لمجلس الشورى ( الفقه ) وبعد احتلال سفارة الولايات المتحدة أصبح اليسار أقل انتقادا للخومينى من ذى قبل. وكان الخومينى:

قادرا على شق المعارضة اليسارية تماما. وأعلن الان الخومينى أن كل المشكلات التى تنشأ فى المصانع وفى أوساط النساء، والاقليات القومية ترجع الى الامبريالية الامريكية. وأن الامبريالية الامريكية هى التى تحارب الحكومة فى كردستان، وفى طبريز، وفى تركمانسارا وخزرستان. وأن النساء اللائى يعارضن القوانين الاسلامية عميلات للصهيونية والولايات المتحدة. وأن العمال المعارضين للشورى عملاء للامبريالية.

سقط حزب تودة وراء رؤية الخومينى وأيد سياستة وانفصلت أيضا عن الصراع أكبر المنظمات اليسارية -الفدايئين، والمجاهدين والبايكار - منعزلين عن العمال المناضلين، والنساء، والاقليات القومية، والذين تمتلك فى اوساطهم حضورا كبيرا."

استمر حزب توده ( الشيوعى المؤيد للروس ) وغالبية الفدائيين فى تأييد الخومينى حتى عزز سلطته تماما فى 1982، حيث انقلب ضدهم بعد ذلك.

ومع مرور الوقت تراكمت أخطاء اليسار. فبينما كفت غالبية الفدائيين عن كل انتقاداتها للنظام بعد احتلاله لسفارة الولايات المتحدة، انتقل مجاهدوا مجاهدوا خلق اخيرا الى الاتجاه المعاكس، معربين عن معارضتهم العلنية للنظام بحلول اواخر 1980 ( أى بعد هجوم النظام على مؤيديهم فى الجامعات ). ولكن استراتيجيتهم فى حرب العصابات حينذاك أدت بهم الى ان يلعبوا مباشرة فى ايدى النظام من خلال الانضمام الى بن صدر لتوجيه صراع مباشر من أجل السلطة لم يكن له صلة على الاطلاق بالصراعات اليومية للجماهير. وعندما فشلت المظاهرات الجماهيرية فى اسقاط النظام، هرب قادتهم الى المنفى، بينما قام مناضلوهم السريون بهجمات مسلحة على زعماء النظام: قدم تفجيير مكاتب الحزب الجمهورى الاسلامى فى يونيو 1981، والذى نتج عنه موت أيات الله بيهاشتى ( رئيس الحزب الجمهورى ) والعديد من قادة وكوادر الحزب الجمهورى الاسلامى، عذرا "للعلماء" لفرض عهد من الارهاب ضد المعارضة لم تحدث فى تاريخ ايران المعاصر.

كان اليسار يتحد مع ممثل البرجوازية القائمة فى حملة الاغتيالات موجهة ضد شخصيات ترى الجماهير انها تلعب دورا ضد الامبريالية. ولم يكن غريبا أن فقراء البرجوازية الصغيرة ومؤيدى الحزب الجمهورى من حثالة البروليتاريا اتفقوا مع قادة الحزب ععلى حملتهم ضد اليسار. فكان من السهل على هؤلاء القادة وصف اليسار على أنه يعمل يدا بيد مع اعداء الثورة الامبرياليين - الرؤية التى حازت مصداقية اكبر بعد ذلك بسنتين عندما اشتركت منظمة مجاهدى الشعب فى الهجوم على ايران الذى قام به الجيش العراقى.

فى الواقع، كان المجاهدون يجسدون كل الاخطاء التى تميز البرجوازية الصغيرة فى العالم الثالث، سواء كانت منظمة فى أحزاب اسلامية أو ماوية أو وطنية، فهى ترى أن النضال السياسى يعتمد على أقلية تتحرك " كطليعة " بالانفصال عن صراع الجماهير. وتتحول المعركة من اجل السلطة الى انقلاب مسلح من ناحية والتحالف مع القوى البرجوازية القائمة من الناحية الاخرى. مع " قيادة " كهذه، ليس غريبا أن معظم العمال الثوريين كانوا عاجزين عن تحويل نضالاتهم فى المصانع المتفرقة الى حركة قادرة على توحيد جماهير فقراء الحضر والفلاحين وراءهم، ولذلك تركوا فراغا استطاع الحزب الجمهورى الاسلامى أن يملاءه."

لم يكن كل اليسار سئيا مثل المجاهدين، وغالبية الفدائيين وحزب توده. ولكن هؤلاء شكلوا القوى الرئيسية التى تطلع اليها هؤلاء الذين أثارتهم التجربة الثورية. وكانت زلاتهم عاملا هاما فى اتاحة الفرصة لمجموعة الخومينى لاستعادة المبادرة واعادة تشكيل دولة ضعيفة الى اداة قوية قادرة على القمع الدموى.

وأخيرا، حتى هؤلاء اليساريون الذين لم يرتكبوا آخطاء خاصة بهم، فقد نشأوا جميعا على تراث ماوى أو ستالينى والذى جعلهم يبحثون عن قطاع " تقدمى " من البرجوازية أو البرجوازية الصغيرة لقيادة الصراع. واذا قرروا أن حركة معينة كانت من " البرجوازية التقدمية " أو " المعادية للامبريالية " يسقطون أى انتقاد يوجه ضدها، ومن ناحية أخرى، لو قرروا أن حركة معينة لم تكن من " البرجوازية الصغيرة التقدمية "، اذن يقررون أنها لم ولن تستطيع الدخول فى اى صراع مع الامبريالية. انهم لايدركون أنه مرة بعد أخرى فى بلاد العالم الثالث يضطر قادة البرجوازية والبرجوازية الصغيرة، من أنصار الرأسمالية والرجعين من حيث اتجاهاتهم الاجتماعية، الى الدخول فى صراعات مع الامبريالية رغما عنهم. كان ذلك صحيحا،على سبيل المثال، بالنسبة لكمال اتاتورك فى تركيا، وجريفز ومكاريونس فى قبرص، وكينياتا فى كينيا، ونهرو وغاندى فى الهند، مؤخرا بالنسبة لصدام حسين فى العراق. وغالبا ما وفرلهم ذلك شعبية لدى اولئك الذين يحرصون على استغلالهم. لايستطيع اليسار منافسة ذلك سواء من خلال مدحهم كابطال " تقدمين " و" معادين للامبريالية "، أو من خلال التظاهر بأن المواجهة مع الامبريالية ليست هامة. بدلا من ذلك، على اليسار أن يحافظ على استقلاليته السياسية بأى تكلفة، مؤكدا على النقدالعلنى لهؤلاء الزعماء لكل من سياساتهم المحلية ولاخطائهم الحتمية فى الصراع مع الامبريالية، فى نفس الوقت التى يعلن أننا نريد هزيمة الامبريالية اكثر بكثير مما يريدون هم.

ولسوء الحظ، كان اليسار الايرانى ككل يتخبط من خطأ الى أخر، ولذلك انتهوا الى اتخاذ موقف محايد فى الشهور الاخيرة من حرب الخليج الآولى عندما تدخل الاسطول امريكى مباشرة لترجيح كفة العراق ضد ايران. ولم يفهموا أنه كانت هناك طرق لاتخاذ موقف معاد للامبريالية ربما ساعد على تقوية الصراع ضد النظام الايرانى فى الداخل ( استنكاررفض النظام لاجبار الاغنياء على دفع تكاليف الحرب، انتقاد تكتييكات "الموجه البشرية " الوحشية والعبثية من ارسال مشاهد بأسلحة خفيفة فى هجمات جبهوية على مواقع عراقية محصنة بقوات كبيرة،ادانة فشل النظام فى وضع برنامج يحرص العمال العراقين والاقليات على الثورة ضد صدام حسين، استنكار الدعوة من أجل تعويضات الحرب حيث تجعل الشعب العراقى يدفع ثمن جرائم الحكام، وهكذا وبدلا من ذلك تنبنوا موقفا عزلهم تماما عن أى شخص فى ايران يتذكر ان الامبريالية ارهقت البلاد فى الماضى ويرى انها تفعل ذلك ثانية حين تسنح لها فرصة.

لم يكن اذن انتصار الخومينى حتميا، ولايبرهن كذلك على أن الحركة الاسلامية قوة رجعية متميزة يجب على اليسار أن يعد نفسه للتحالف مع شيطان الامبريالية ( بل والشيطان الرجيم ) وحلفائه فى الداخل فى مواجهتها. انها فقط تؤكد أن الانتفاضة الثورية، فى غياب قيادة مستقلة للطبقة العاملة، يمكن أن تؤدى الى أكثر من شكل واحد من اعادة الاستقرار الى الحكم البرجوازى تحت سيطرة دولة حزب واحد قمعية وسلطوية. لم تكن الوصفة السرية فى هذه العملية طبيعة القرون الوسطى المزعومة فى الاسلام، ولكن الفراغ الذى أوجده فشل المنظمات الاشتراكية فى قيادة طبقة عاملة عديمة الخبرة ولكن مقاتلة.







تناقضات الحركة الاسلامية: السودان
ليست ايران وحدها هى التى سيطر فيها الاسلاميون على السلطة. ففى السنوات القليلة الاخيرة، أصبح للاخوان المسلمين فى السودان النفوذ الحاسم فى الحكومة العسكرية من خلال الجبهة الوطنية الاسلامية.

بدأ الاخوان المسلمون فى السودان فى الاربعينيات كامتداد لحركة الاخوان المسلمين التى أسسها البنا فى مصر، ولكنها اكتسبت وجودا مستقلا بنظريات خاصة بها، بعد قضاء عبد الناصر على المنظمة الام فى الخمسنيات. وترجع اصول التنظيم الى جامعة الخرطوم، حيث تعاركت الحركة مع الشيوعيين للسيطرة على الطلاب. أدى ذلك بقيادتها الاولى الى تأكيد العناصر الراديكالية فى الافكار الاسلامية ولكن، فى الستينات نجحت القيادة الجديدة بقيادة حسن الترابى فى توسيع قاعدة المنظمة، مضيفة ألاف الاعضاء الجدد الى ال2000 عضو الاساسيين فيها.

"شهدت عضويتها أيضا تنوعا كبيرا من خلال ضم العلماء، وأئمة المساجد، والتجار، وقادة الطرق الصوفية وأخرين برغم أن نسسبة العناصر الغير حاصلة على تعليم حديث ظلت صغيرة فى الاعضاء النشطين ". وتزايد أعضائها اكثر فى الثمانينات بفضل ظهور قطاع مالى اسلامى بتشجيع الدولة:

"فقد ساعدتهم سياسة التوظيف بالبنك الاسلامى التى فضلت المتدينين. وأدت المؤسسات الاسلامية الى ارتقاء طبقة جديدة تماما من رجال الاعمال الذين اصبحوا اغنياء فى يوم وليلة وفتحت مجالات من التحرك الاقتصادى للكثير ممن كانوا سيصبحون، فى اعلى تقدير، موظفين كبار بالخدمة المدنية ".

لم تكن جماعة الاخوان المسلمين تمتلك البنوك الاسلامية - فقد كانوا يمولون من السعودية ورأس المال المحلى.لكنها امتكلت قوة هائلة من خلال قدرتها على السيطرة على القروض والخدمات الاخرى للعملاء. تترجم ذلك فى التأييد الذى حصل عليه الاخوان بين بعض الاغنياء الجدد وداخل ألة الدولة نفسها: " اسستمرت الحركة فى الاعتماد على مناضلى القلب، ومعظمهم من المهنيين الحاصلين على تعليم حديث، ولكن بدأ خليط هائل من رجال الاعمال ( أو مهنيين تحولوا الى تنفيذين ) فى التميز،.



فى انتخابات 1986 بعد الاطاحة بديكتاتورية النيمرى، حصلت جبهة الاخوان، أى الجبهة الوطنية الاسلامية، على 5, 18% من اجمالى الاصوات، ومعظم الاصوات حصلت عليها الاحزاب التقليدية. ولكنها حازت ما لايقل عن 23 مقعدا من 28 مقعدا التى انتخبها خريجو الجامعات فقط، واتضح فى الحال أن لديها تأييدا كافيا بين قطاع من الطبقات الوسطى الحضرية ورجال الاعمال لتكون الحليف الطبيعى لشخصيات هامة فى القوات المسلحة. وفى انقلاب عام 1989 استولى الجنرال البشير على السلطة، ولكن بدا أن السلطة الحقيقية استقرت فى أيدى الجبهة الوطنية الاسلامية. ومنذ ذلك الحين أصبحت الخرطوم أحد مراكز الحركة الاسلامية العالمية، وأحد مناطق جذب المناضلين المنافسة لطهران والرياض.



وبرغم ذلك، لم يكن صعود الاخوان فى السودان الى السلطة سهلا، فقد تكرر تعرضها لفقد عدد كبير من أعضائها وكثير من قاعدة تأييدها. ولكن من غير المحتمل أن يكون استمرارها فى السلطة مأمونا.

سعى الترابى الى بناء نفوذ الاخوان، عندما كان منافسيه فى الحكومة، من خلال التحريض بين الطلاب والطبقة الوسطى، والى حد ما بين العمال ولكنه بعد ذلك انتهز كل الفرص للمشاركة فى الحكومة بنفسه حتى يزيد من تأثير الاخوان داخل مؤسسات الدولة، وفعل ذلك للمرة الاولى فى أوائل الستينات. وقد ساعد تحريض الاخوان بين الطلاب على تحلل ثورة اكتوبر 1964 التى قام بها الطلبة، ومهنيى الطبقة الوسطى والعمال. وبعد ذلك استغلت تواجدها فى الحكومة الجديدة لتهدئة الموجة الثورية والضغط لاعاقة الشيوعيين وكذلك جذبت اليها بعض الطبقات المحافظة صاحبة الامتيازات.



واتبعت نفس المناورة مرة ثانية بعد الانقلاب العسكرى الذى وضع الجينرال جعفر النميرى فى السلطة فى مايو 1969. وقد اضطهد الاخوان مع الاحزاب التقليدية لبعض الوقت. ولكن فترة وجودها فى المعارضة سمحت لها باعادة بناء بعض التأييد الشعبى الذى فقدته أثناء تواجدها فى الحكومة، بسيطرتها على قيادة التحريض حول أحوال الطلاب وقيادة انتفاضة فاشلة للطلاب ضد النظام فى 1973.



وبعد ذلك فى السبعينات تشبثت بعرض من النميرى "للمصالحة الوطنية " حتى تنضم الى نظامه، مع تحول الترابى الى رجل قانون عسكرى، ومسئول عن مراجعة القوانين لجعلها تتفق مع الشريعة، وقد كانت هذه هى الفترة التى استخدمت خلالها تطور القطاع المالى الاسلامى لتثبت جذورها بين اصحاب رأس المال.وكان أيضا خلال هذه الفترة أن بدأت فى كسب ضباط معينين فى الجيش.



وبرغم ذلك، خلقت هذه المناورات توترا مستمرا داخل الاخوان وهددت بصورة متكررة قاعدة تأييدها الاوسع. فلم تكن الكوادر الاساسية للاخوان منذ أوائل الخمسينات راضية على الاطلاق عن سلوك قادتها فى غرس قطاعات من النخبة التقليدية من الاغنياء الجدد. ولم يبد مطلقا أ ن منهج الترابى يتناسب مع النظرية الاصلية للطليعة الاسلامية التى تبنوها كطلبة ثوريين فى الاربعينات. وقد بدا لهم أنه يغذى الافكار الاسلامية حتى لكسب النفوذ (الاحترام ) خاصة عندما بدأ فى تجنيد النساء، وتأييد حصولهن على حق التصويت وأصدر كراسا يؤكد أن الاسلام "الحقيقى " يمنح المرأة نفس الحقوق التى يمنحها للرجل. بالنسبة للمنشقين فقد بدا ببساطة أنه يحاول أن يسترضى الطبقات الوسطى العلمانية. وفوق كل ذلك كان النميرى معروفا يسلوكه المنافى للاسلام وخاصة شرب الخمر. وقد فضل مجموعة من الاعضاء القدماء ثورية شخص مثل سيد قطب، وانشقوا أخيرا ليشكلوا منظمة خاصة بهم لها علاقة بالاخوان المسلمين فى مصر.



بدأ التعاون مع نظام تقل شعبيته باستمرار فى احباط التأييد الاوسع للاخوان. وشهدت أوائل الثمانينات موجه عالية من الثورة الشعبية ضد النميرى، بمظاهرات طلابية فى 81- 1982، واضراب عمال السكة الحديد فى 1982، وانقلابات قوات الجنوب فى 1983 تبعها اضرابات القضاة والاطباء. وخلال هذه الفترة اصبح الاخوان هم القوة الوحيدة خارج النظام نفسه التى تؤيد نميرى، وبدأت تخشى أن تدمر جنبا الى جنب مع الديكتاتور عندما سقط أخيرا.



عند ذاك استخدم النميرى ورقته الاخيرة. فقد أعلن التطبيق الفورى للشريعة فى القانون. لم يكن لدى الاخوان أى خيار الا أن يندفعوا بثقلهم وراءه فلاكثر من ثلاثين عاما كانت اجابتهم على كل مشكلات السودان هى "العودة الى الشريعة". وقد كانت الشعار البسيط والوحيد الذى يربط رؤيتهم للاصلاح بالتقاليد الاسلامية للجماهير من خارج الطبقة الوسطى الحضرية. ولذلك بدأوا فى التحريض تأييدا لتطبيق الشريعة، وذلك فى مواجهة المعارضة من القضاه وجزء كبير من النظام القضائى. فشارك مليون شخص فى مظاهرة للاخوان تدعو الى مؤتمر عالمى يناقش تطبيق الشريعة، وساعد اعضاء الاخوان على توفير العنصر البشرى فى المحاكم الخاصة بتطبيق الشريعة التى أسسها النميرى.



رفع ذلك من جاذبية الاخوان وسط دوائر تقليدية معينة، خاصة عندما بدأت المحاكم فى القبض على بعض الشخصيات البارزة وفضح فسادهم.وزادت القوة الجديدة التى حازتها من جاذبيتها للعاملين فى آلة الدولة الذين يتطلعون للترقى ولكن بينما ادت هذه الاجراءات الى زيادة شعبية الاخوان بين بعض القطاعات التقليدية من السكان وبصورة اكبر بين من يديرون الدولة، فقد أدت ايضا الى زيادة هائلة فى التذمر ضدهم بين قطاعات أخرى، فقد اغضبت العلمانيين أو معتنقى الاديان الاخرى (غالبة السكان فى جنوب البلاد ) دون أن تكون، فى الواقع، قادرة على تحسين أحوال جماهير المسلمين. كانت اسطورة الشريعة هى أنها نظام قانونى جديد سيقضى على كل المظالم. ولكن لم يمكن تحقيق ذلك من خلال اصلاح لم يكن الا مجرد اصلاح قانونى، بل واصلاح قام به نظام فاسد لاجماهيرية له. ولذلك لم يعنى هذا القانون الجديد حقا الا استخدام العقوبات الشرعية، أى الحدود - قطع يد السارق، رجم الزانى، وهكذا.



فى الستنيات استطاع الاخوان بناء أنفسهم بين الانتليجنيتسيا الحضرية جزئيا بسبب تغافلها عن هذا الجانب من الشريعة. كان الاعتقاد الاسلامى الذى قبله الترابى هو " الدوران حول المسألة بالتأكيد على أن الحدود تطبق فقط فى مجتمع اسلامى نموذجى الذى يختفى فيه الفقر تماما ". ورغم ذلك، فالدليل الواضح تماما الان هو أن الشريعة بتغييرها للنظام القانونى اصبحت وسيلة استخدام هذه العقوبات، وتحول الترابى 180 درجة مهاجما من يعلنون أنه لايمكن فرض الاخلاق على الناس من خلال التشريع.



وقد تواكب التذمر ضد محاكم الشريعة التذمر ضد القطاع المالى الاسلامى، فقد ساعد ذلك بعض اعضاء الطبقة الوسطى الى الترقى لاعلى داخل قطاعات هامة من الاعمال.ولكنه بالضرورة قد احبط اكثر منهم بكثير:



"نشأت حالة من التذمر فى وسط المجتمع التجارى وبين ألاف من المتطلعين الذين اعتقدوا أن سبب حرمانهم من فوائد النظام الجديد هو محسوبية الاخوان... وفى النهاية، كانت الادعاءات حول افساد الاخوان للنظام المصرفى الاسلامى هى الوصمة الوحيدة الاكثر ضررا التى برزت فى عصر النميرى واسقطتهم فى نظر القطاعات الكبيرة من السكان "



واخيرا، فان تحالف الاخوان مع النميرى حول تطبيق الشريعة أجبرهم على التماس العذر له فى وقت كانت تتزايد الثورة ضده. حتى برغم تحرك النميرى أخيرا ضد الاخوان بضغط من الولايات المتحدة قبل أن تطيح به انتفاضة شعبية بقليل، وكان الاوان قد فات بالنسبة للاخوان لان يرتبطوا بالثورة بأى معنى.



لقد استمرت، لتحوز سلطة اكبر من ذى قبل بين يديها خلال أربع سنوات، لأنها قدمت لضباط الجيش الذين انقلبوا أخيرا ضد النميرى شيئا لم يكن لدى أحدا أخر - ألاف الاعضاء النشطين المستعدين لمساندتهم فى حربهم الاهلية الضارية ضد المتمردين غير الاسلامين فى جنوب البلاد وفى قمعهم للتمرد فى مدن الشمال. كان تحالف القوى العلمانية التى قادت الثورة ضد النميرى قد اعاقته المصالح الطبقية المتناقضة، وعجز عن تحويل التمرد الى حركة للتغيير الكامل للمجتمع، شاملة اعادة التوزيع الشاملة للثروة ومنح حق تقريرالمصير للجنوب، أو عن القضاء عليه. سمح هذا للاخوان بطرح أنفسهم بقوة على ضباط الجيش كالقوة الوحيدة القادرة على فرض الاستقرار، كاشفة عن قوتها بوضوح من خلال تنظيم مظاهرات كبيرة ضد أى تنازلات لصالح متمردى الجنوب. ولذلك كان استحواذ العسكرين على السلطة فى 1989 مرة ثانية، حتى تمنع اتفاقية سلام مقترحة بين الحكومة والمتمردين، وتأمرت مع الاخوان.



وبرغم ذلك، يعرف الاخوان فى السلطة اجابة واحدة فقط لكل المشكلات التى تواجه النظام - وهى زيادة القمع الوحشى المغلف فى لغة دينية. ففى مارس 1991 أدخلت الشريعة مرة ثانية مع الحدود. والأن تواكبت الحرب فى الجنوب مع القمع الموجه ضد الطوائف الغيرعربية الأخرى، شاملة الفيور والنوبيين، ذلك برغم ادعاءات الترابى، فى فترة المعارضة، بأنه يرفض أى شكل من الاسلام يقوم على الشوفينية العربية. وكان أحد نماذج القمع ضد من يعارضون الحرب فى الجنوب أحكام الاعدام التى صدرت منذ عامين ضد مجموعة من االاشخاص فى دافور " لتحريضهم على الحرب ضد الدولة وحيازة اسلحة " وقد حكم على أحد الاشخاص بالشنق وأن تصلب جثته علنا بعد ذلك. وعن اقتراب انتخابات النقابات والؤسسات المهنية كانت هناك تقارير عن الارهاب والاعتقالات والتعذيب. حتى بعض المحافظين الذين أيدوا الحملة الاسلامية اصبحوا الأن يتعرضون للقمع. وكان النظام يحكم قبضته على الطرق الصوفية " التى اعتقدوا أن احتفالاتها تربى التمرد الشعبى "، ويوجه معظم الناس اللوم الى النظام والاخوان على تفجير أحد مساجد الصوفية أوائل هذا العام والذى قتل فيه 16 شخص. وبرغم ذلك لم يوفرالقمع الاستقرار للنظام الا بصورة مؤقتة، فقد كانت هناك سلسلة من أعمال العنف فى المدن منذ سنتين بسبب نقص السلع وزيادة الاسعار. وتبعت بوادر التحدى ضد صندوق النقد الدولى تطبيق برنامج الانقاذ الاقتصادى الذى يعتمد على "التحريرالاقتصادى" والذى يتضمن كثير من السياسات التى دافع عنها الصندوق فى الماضى، مؤديا الى تجديد المفاوضات مع الصندوق. أدى ذلك الى تدهور حاد فى مستويات المعيشة، وغضب جماهيرى اكثر وحركات تمرد اكثر.



فى نفس الوقت، فأن النظام معزول عالميا عن الانظمة الاسلامية الرئيسية الأخرى: اختلف الاخوان مع ايران لوقوفهم ضدها فى حرب الخليج الاولى، ومع السعودية بتأييدهم للعراق فى حرب الخليج الثانية. وربما لهذا السبب حاولت أن تطرح نفسها كعامل جذب للاسلاميين فى مناطق أخرى الذين لم يتأثروا بهاتين الدولتين وبالاخوان المسلمين المصرين - حتى برغم أن سياسات الترابى كانت، لمدة ثلاثين عاما، امتدادا للثورية التى دافعت عنها هذه الجماعات الاسلامية.



ورغم ذلك فان الاخوان السودانيين انفسهم يقعون تحت ضغط هائل، فتوجد اشاعات أن الجبهة الوطنية الاسلامية ربما تنشق الى جانبين، مع تهميش المندفعين، واشتراك المعتدلين نسبيا مع الاجنحة المحافظة من حزب الامة والحزبين التقليديين الرئيسيين. ويوجد انقسامات بين الجيل الأول من اعضاء الجبهة الوطنية الاسلامية المستعدين للتواجد جنبا الى جنب مع الاحزاب العلمانية والمتحمسين من الشباب الغير قابل للمساومة.

نقطة أخيرة جديرة بالذكر عن السودان. لم يكن صعود الاخوان الى السلطة هناك نتاجا لقوة خرافية ما لديها.بل أن اسباب ذلك تقع فى فشل القوى السياسية الاخرى أن تطرح حلا للأزمة العميقة والمتفاقمة فى البلاد. ففى الخمسينات والستينات كان للحزب الشيوعى قوة اكبر من الاخوان.ونافس الاخوان على التأثير بين الطلبة وكان لهم اتباع بين نقابيى المدن.ولكنه فى 64 - 1969 اختار أن يستخدم هذا النفوذ، ليس لتقديم برنامج ثورى للتغيير، ولكن للدخول فى حكومة غير ثورية، التى انقلبت عليهم بعد ذلك بمجرد أن هدأت موجة الثورة الشعبية.لقد كان تأييد الاخوان للنميرى تحديدا فى السنوات الاولى لحكمه هو الذى منحها الفرصة لاحراز السبق فى الجامعة وتحطيم قاعدة الشيوعيين.




خاتمة
لقد أخطأ الاشتراكيون بالنظر الى الحركات الاسلامية على أنها اوتوماتيكيا "رجعية " و"فاشية " أو أنها أوتوماتيكيا " معادية للامبريالية " و"تقدمية " ان الحركة الاسلامية الراديكالية، بمشروعها فى اعادة تشكيل المجتمع على النموذج الذى اقامه محمد فى القرن السابع بالجزيرة العربية، فى الواقع هى "يوطوبيا " نابعة من قطاع بائس من الطبقة الوسطى الجديدة. وكما فى أى "يوطوبيا برجوازية صغيرة "،فان مؤيديها فى الممارسة، يواجهون الاختيار بين محاولات بطولية عبثية لفرضها فى مواجهة اولئك الذين يديرون المجتمع الحالى، أو المساومة معهم، بتوفير طابع ايديولوجى زائف لاستمرار القمع والاستغلال. وهذا هو حتما ما يؤدى الى الانشقاقات بين الجناح الراديكالى الارهابى من الحركة الاسلامية من جانب، والجناح الاصلاحى من الجانب الأخر. وهذا هو أيضا ما يدفع بعض الراديكاليين الى التحول عن استخدام السلاح فى محاولة تأسيس مجتمع بدون "طغاه " الى استخدامه لفرض اشكال السلوك "الاسلامى " على الأفراد.

لايمكن للاشتراكيين اعتبار طوبيى البرجوازية الصغيرة كأعدائنا الاساسيين فهم ليسوا المسئولين عن النظام الرأسمالى العالمى أى قمع ألاف الملايين من البشر من أجل الاتجاه الأعمى للتراكم، ونهب قارات بكاملها بواسطة البنوك، أو الأليات التى دفعت الى سلسلة من الحروب البشعة منذ اعلان "النظام العالمى الجديد " ولم يكونوا مسئولين عن فظائع حرب الخليج الأولى، التى بدأت بمحاولة صدام حسين للتقرب من الولايات المتحدة ومشايخ الخليج،وانتهت بتدخل الولايات المتحدة المباشر لصالح العراق. ولايقع عليهم اللوم بالنسبة للمذابح فى لبنان، حيث خلق الاكتساح المزدوج، أى تدخل سوريا ضد اليسار والاحتلال الاسرائيلى، الظروف التى شكلت العسكرية الشيعية. ولايقع عليهم اللوم فى حرب الخليج الثانية، مع "القذف الموجه " الى مستشفيات بغداد وذبح 80000 شخص عند هروبهم من الكويت الى البصرة. وسوف يستمر الفقروالبؤس والقمع والتعدى على حقوق الانسان فى بلاد مثل مصر والجزائر حتى لو اختفى الاسلاميون غدا. لهذه الاسباب لايمكن للاشتراكيين تأييد الدولة ضد الاسلاميين. ومن يفعلون ذلك، على أساس أن الاسلاميين يهددون المبادئ العلمانية، يسهلون فقط على الاسلاميين أن يصفوا اليسار كجزء من مؤامرة "االطغاة العلمانيين " "الكافرين " ضد القطاعات الاشد بؤسا فى المجتمع. انهم يكررون اخطاء اليسار فى مصر والجزائر عندما مدحوا انظمة لم تقدم شيئا للجماهير على أساس انها " تقدمية ", الأخطاء التى مكنت الاسلاميين من النمو. ويتناسون أن اى دعم تقدمه الدولة للمبادئ العلمانية هو فقط يعتمد على الظروف، واذا كان فى مصلحتها، فسوف تقوم الدولة بعمل صفقة مع أكثر الاسلاميين تزمتا لفرض أجزاء من الشريعة خاصة الاجزاء التى تتضمن العقوبات الشديدة على الجماهير فى مقابل تخلى الراديكاليين عن أعتقادهم بتحدى الاستبداد، هذا هو ما حدث فى باكستان فى ظل ضياء الحق والسودان فى ظل النميرى، وهذا بالتأكيد ما تنصح به ادارة كلينتون العسكريين الجزائريين أن يفعلوه.

ولكن الاشتراكيين لا يمكن أن يؤيدوا الاسلاميين أيضا، فهذا يعنى المطالبة باستبدال أحد أشكال الاضطهاد بشكل آخر، وأن يردوا على عنف الدولة بالتخلى عن الدفاع عن الاقليات العرقية والدينية والنساء والمثليين جنسيا، وأن يشاركوا فى التأمر على كبش الفداء الذى يجعل استمرار الاستغلال الرأسمالى ممكنا دون اعتراض بشرط أن يتخذ شكلا " اسلاميا ". وسوف يعنى التخلى عن هدف السياسة الاشتراكية المستقلة المبنية على تنظيم العمال فى صراعهم لكل المقهورين والمستغلين وراءهم، لصالح حركة تذيلية لطوبوية البرجوازية الصغيرة التى لايمكنها أن حتى أن تنجح بشروطها الخاصة.

الاسلاميون ليسوا حلفاءنا، فهم يمثلون طبقة تحاول السيطرة على الطبقة العاملة وبقدر نجاحها تجر العمال اما فى اتجاه مغامرة عبثية وكارثية أو فى أتجاه الاستسلام الرجعى للنظام القائم أو غالبا فى الاتجاه الاول ثم الثانى. ولكن هذا لايعنى أن نأخذ موقفا سلبيا رافضا للاسلاميين، فقد نموا على أساس مجموعات اجتماعية كبيرة تعانى فى ظل المجتمع القائم، والذين يمكن تنظيم شعورهم بالتمرد لصالح اهداف تقدمية بشرط وجود قيادة ناتجة عن ارتفاع مستوى الصراع العمالى. وحتى بعد هذا الارتفاع فى مستوى الصراع بقليل يمكن أن يتأثر العديد من الافراد الذين تجذبهم الرؤى الراديكالية فى الحركة الاسلامية بالاشتراكيين بشرط أن يربط الاشتراكيين بين الاستقلال السياسى التام عن كافة أشكال الحركة الاسلامية مع الاستعداد لانتهاز فرص جذب الاسلاميين الافراد الى أشكال راديكالية حقيقية من الصراع بجانبهم.

إن الحركة الاسلامية الراديكالية مليئة بالتناقضات، دائما ما تكون البرجوازية الصغيرة مشدودة فى اتجاهين، نحو التمرد الراديكالى ضد المجتمع القائم ونحو المساهمة معه، ولذلك فان الحركة الاسلامية دائما تتأرجح بين الصراع من أجل تحقيقى الاحياء الكامل للمجتمع الاسلامى، والمساومة من أجل فرض الاصلاحات "الاسلامية " تعبر هذه التناقضات عن نفسها بالضرورة فى صراعات مريرة وغالبا ما تكون عنيفة داخل الجماعات الاسلامية وفيما بينها. ان من ينظرون الى الحركة الاسلامية على أنها جمود رجعى فريد ينسون وجود الصراعات بين اسلاميين مختلفين حول الموقف الذى يتخذونه عندما كانت السعودية وايران فى مواجهة بعضهم البعض أثناء حرب الخليج الأولى. وكانت هناك رؤى أدت الى قطع جبهة الانقاذ الاسلامية فى الجزائر صلتها مع حلفائها السعوديين، أو بالاسلاميين فى تركيا الى تنظيم مظاهرات مناصرة للعراق من مساجد يمولها السعوديون أثناء حرب الخليج الثانية.وهناك معارك عسكرية شرسة تشتعل بين الجيوش الاسلامية المتصارعة فى افغانستان. واليوم يوجد جدال داخل منظمة حماس بين الفلسطينيين عما اذا كان يجب المساومة مع بقايا الادارة الفلسطينية بزعامة عرفات - وبالتالى بشكل غير مباشر مع اسرائيل - فى مقابل تطبيقها للشريعة الاسلامية. هذه الخلافات حول التوجه تظهر بالضرورة بمجرد تعامل الاسلام "الاصلاحى" مع الدول القائمة الندمجة فى النظام العالمى.لأن كل من هذه الدول فى صراع مع بعضها، وكل منهم يتفق بطريقته الخاصة مع الامبرياليات السائدة.

ومن الضرورى أن تظهر خلافات مماثلة فى كل مرة يرتفع فيها مستوى الصراع العمالى، فمن يمولون المنظمات الاسلامية يريدون نهاية هذا الصراع، ان لم يكن تحطيمه. وبعض الشباب الاسلامى الراديكالى سيؤيد الصراع بشكل غريزى. وسوف يتشبث قادة المنظمات فى الوسط، يهمسون بضرورة تصديق اصحاب العمل وضرورة ضبط النفس والصبر بالنسبة للعمال.

وأخيرا يدفع تطور الرأسمالية نفسه القادة الاسلاميين الى القيام بتحولات أيديولوجية فىالاوقات التى يقتربون فيها من السلطة. فيضعون القيم الاسلامية فى مواجهة القيم الغربية "ولكن معظم مايدعونه بالقيم الغربية لاتقع جذورها فى ثقافة أوروبية وهمية ما، ولكنها نشأت عن تطور الرأسمالية خلال القرنيين الماضيين. هكذا فمنذ قرن ونصف، كانت الرؤية السائدة بين الطبقة الوسطى الانجليزية عن الجنس مماثلة بوضوح لتلك التى يدعو اليها انصار الاحياء الاسلامى اليوم (الجنس خارج الزواج حرام، ولايحق للمرأة تعرية حتى كعبيها، واللاشرعية وكانت وصمة عار لايمكن للناس نسيانها )، وكان للمرأة حقوق أقل فى بعض الشئون من تلك التى تمنحها لها معظم الرؤى الاسلامية اليوم ( كان الميراث للابن الاكبرفقط، بينما يمنح الاسلام الابنة نصف نصيب الرجل، لم يكن لها حق الطلاق، بينما يمنحها الاسلام هذا الحق فى ظروف محدودة جدا ) لم يكن مل غير الميول الانجليزية شيئا ما نابعا من النفوس الغربية " الهوى " أو أى قيم "يهودية مسيحية مزعومة "ولكن تأثير التطور الرأسمالى - فحاجتها الى عمل المرأة دفعتها الى تغيير بعض المبادئ، والاهم من ذلك، وضعت المرأة فى موقف تستطيع من خلاله المطالبة بتغيير أكثر بكثير.

لهذا السبب، حتى فى البلاد االتى كانت الكنيسة الكاثولكية تتمتع بقوة هائلة فيها مثل ايرلندا وايطاليا وبولندا واسبانيا كان عليها أن تقبل مترددة تراجعا فى نفوذها ولا تستطيع البلاد التى فيها الاسلام دين الدولة تحصين نفسها من الضغوط نحو تغيرات مماثلة برغم محاولاتها الشاقة.

يتضح ذلك من تجرية جمهورية ايران الاسلامية، فبرغم كل الدعاوى حول الدور الاساسى للمرأة كأم وزوجة، وكل الضغوط لاخراجهم من مهن معينة مثل المحاماة، فقد تزايدت قليلا نسسبة النساء فى قوة العمل واستمرت لتشكل 28% من موظفى الحكومة وهى نفس النسسبة فى وقت الثورة. فى مقابل ذلك، أضطر النظام الى تغيير موقفه من منع الحمل، باستخدام 23% من النساء وسائل منع الحمل، وأحيانا الى تهدئة حدته فى فرض الخمار. وبرغم أن النساء محرومات من المساواة فى الحقوق مع الرجل فى الطلاق وقوانين العائلة، فما زال لهن حق التصويت ( وتوجد امراتين أعضاء فى البرلمان ) ويذهبن الى المدارس ولهن نصيب محدود من الاماكن فى الجامعة فى كل المجالات ويشجعن على دراسة الطب والتدريب العسكرى وكما يلاحظ ابراهيمان عن الخومينى:

" غالبا ما كان أتباعه المقربون يسخرون من التقليدين لكونهم مودة قديمة واتهموهم بأنهم مهوسون بالاتباع النقى مانعين بناتهم من الذهاب للمدرسة، ويصرون على ارتداء بناتهم الصغار للخمار حتى فى عدم وجود رجال ويستنكرون الميول العقلية مثل الادب والموسيقى ولعب الشطرنج، والاسوأ من ذلك يرفضون الاستفادة من الصحف والراديو والتليفزيون."

لاشئ من ذلك جدير بالدهشة، فمن يديرون الرأسمالية الايرانية ودولتها لا يستطيعون التخلى عن قوة عمل المرأة فى قطاعات هامة من الاقتصاد. وكذلك بدأت تلك القطاعات من البرجوازية الصغيرة الذين يشكلون العمود الفقرى فى الحزب الجمهورى الاسلامى فى ارسال بناتها الى الجامعة والبحث عن عمل منذ السبعينات تحديدا لانها احتاجت الى الرواتب الاضافية لزيادة دخل العائلة وزيادة فرص الزواج لبناتهم، ولم يكونوا فى الثمانييات على استعداد لالغاء ذلك لمجرد الاخلاص للتعليم الدينية.

لاتستطيع اى الايديولوجية الاسلامية تجميد التطور الاقتصادى وبالتالى التطور الاجتماعى اكثر مما تستيطيع أى أيديولوجية أخرى. ولذلك فمرة بعد مرة ستظهر التوترات العنيفة داخلها وتعبر عن نفسها من خلال منازعات أيديولوجية عنيفة بين انصارها. والشباب الاسلامى عادة ذكى ويهتم بمنتجات المجتمع الحديث.فهم يقرأون الكتب والصحف ويشاهدون التلفزيون، وبالتالى يعرفون كل الانقسامات والصدامات داخل حركاتهم الخاصة. وبرغم أنهم يصطفون بقوة فى مواجهة " العلمانيين " سواء من اليسار أوالبرجوازية، سوف يجادلون بعضهم البعض بعنف - بالضبط مثل فعل انصار الروس وانصار الصين من عالم الحركات الستالينية المتحجر منذ ثلاثين عاما. وهذا الجدال سوف يبدأ فى زرع شكوك خفية فى اذهان بعضهم على الاقل.يستطيع الاشتراكيون الاستفادة من هذه التاقضات لدفع بعض الاسلاميين الاكثر راديكالية الى مراجعة انتمائهم للافكار والمنظمات الاسلامية - ولكن فقط اذا استطعنا تأسيس منظمة مستقلة خاصة بنا، والتى لاتتذيل الاسلاميين أو الدولة.

سوف نجد انفسنا فى بعض القضايا فى نفس الجانب مع الاسلاميين ضد الدولة والامبريالية. كان ذلك مثلا فى عدد من البلاد أثناء حرب الخليج الثانية. ويجب أن يكون صحيحا فى بلاد مثل فرنسا وبريطانيا عندما نكون فى مواجهة التميز العنصرى، وعندما يكون الاسلاميون فى المعارضة، فأن شعارنا يجب أن يكون "مع الاسلاميين أحيانا، ودائما ضد الدولة " ولكن حتى فى ذلك الوقت، تستمر معارضتنا للاسلاميين حول قضايا أساسية. فنحن مع الحق فى نقد الدين كما أننا مع الحق فى ممارسته، ونحن مع حق عدم ارتداء الحجاب كما أننا مع حق الشابات فى البلاد العنصرية مثل فرنسا فى ارتدائه اذا رغبن فى ذلك، ونحن ضد التميز الذى تمارسه المؤسسات الكبيرة فى بلاد مثل الجزائر ضد من يتحدثون العربية، ولكننا ايضا ضد التمييز ضد البربر وتلك القطاعات من العمال وفقراء الطبقة الوسطى الذين تربوا على التحدث بالفرنسية. والاهم من ذلك، نحن ضد أى اجراء يضع قطاعا من المقهورين والمستغلين فى مواجهة قطاع أخر على اساس أصول دينية أو عرقية. ويعنى ذلك أننا كما ندافع عن الاسلاميين ضد الدولة سوف ندافع أيضا عن اضطهاد النساء والبربر والاقباط والمثليين جنسيا ضد بعض الاسلاميين.

وعندما نجد أنفسا فى نفس الجانب مع الاسلاميين، فأن جزءا من مهمتنا الجدال الشديد معهم وتحديهم ليس فقط فى موقف منظماتهم من المرأة والاقليات ولكن أيضا عن المسألة الجوهرية ما اذا كان المطلوب هو التصدق من الاغنياء أو الاطاحة بالعلاقات الطبقية القائمة.

لقد أرتكب اليسار خطأين فى التعامل مع الاسلاميين فى الماضى، الاول كان تجاهلهم كفاشيين لا يوجد بيننا وبينهم شئ مشترك والثانى كان النظر اليهم كتقدميين لا يجب توجيه النقد ضدهم. ولعب هذان الخطأن معا دورا فى مساعدة الاسلاميين على النمو على حساب اليسار فى معظم بلاد الشرق الاوسط، ومن الضرورى وجود رؤية مختلفة ترى الحركة الاسلامية نتاجا لآزمة اجتماعية عميقة لايمكن حلها وأن نناضل لكسب بعض الشباب الذين يؤيدونها الى رؤية اشتراكية ثورية مستقلة ومختلفة عنها تماما.