الفن والنشاط العملي


اللجنة الاعلامية للحزب الشيوعي الاردني
2015 / 5 / 22 - 14:54     

الفن والنشاط العملي

ان اساس الحياة الاجتماعية هو النشاط العملي، فجميع مجالات الحياة تخدم الممارسة العملية مباشرةً او بشكل غير مباشر، وتعتمد عليها بهذه الطريقة أو تلك. وتوحي لنا دراسة بدايات التاريخ البشري ومراحله المبكرة بشكل قاطع ان قيام نشاط عملي-اجتماعي (بالمقارنة مع النشاط البيولوجي) قد استنبت نشاطاً ثقافياً في المجتمع ضرورياً ويخدم النشاط العملي: نشاطاً ثقافياً ادراكياً، تقييمياً، يطرح المهام ويقيم الاتصالات. ولذا فلادراك خصوصية كل من هذه النشاطات الثقافية وما يربط بينها من صلات، وفهم لطرق الرئيسية لتطور الحياة الثقافية يمكننا ايجاد المفتاح لذلك في الخواص المميزة لحياة المجتمع العملية وفي التغيرات التي طرأت عليها.
فجميع نشاطات المجتمع، على تعددها، موجهة بالمقام الأول نحو تغيير الطبيعة على ايدي الانسان. وبكلمة فانها تعمل على انتاج السلع المادية وتطوير الانتاج ذاته وتطوير المؤسسات الاجتماعية القائمة. ولا تتحقق النتائج العملية الا من خلال نشاط عملي مادي، بينما النشاط الثقافي يخصب هذا النشاط فقط، وبالتالي يمكننا التمييز بين وسيلتين يستطيع الانسان بواسطتهما السيطرة على الواقع: النشاط العملي (المادي) والنشاط الثقافي (النظري). ومع تطور المجتمع يمكن القيام بالأشكال الأساس للنشاط الثقافي بمعزل عن الانتاج المادي، يتراوح في مداه، مما يستدعي تخصيص افراد لمهمة الانتاج الثقافي.
وهناك نشاط اجتماعي اخر أو جانب اخر من النشاط الثقافي، تغيير الانسان بواسطة الانسان، وهو نشاط مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالجانب الأول الا انه يحتفظ بسمات خاصة به، يكمن فيها المدخل لادراك جميع الظواهر الاجتماعية ذات الارتباط بهذا الجانب من الممارسة، بما فيها الفن، على وجه التحديد.

ضرورة الفن-التربية الشاملة للانسان:
منذ عشرين عاماً خلت، ثار نقاش حاد (ما زلنا نسمع اصداءه بين اونة واخرى) بادر به الكاتب والعالم الانجليزي سنو C.O snaw وقد اطلق الشاعر السوفييتي بوريس سلوتسكي Boris Slutsky على هذا النقاش حوار الفيزيائيين و(الغنائيين). سعى (الفيزيائيين) للبرهنة على انتفاء الجدوى من الفن وقارنوا بينه وبين العلم الذي لا يشك في اهميته العملية التي تنمو بسرعة وبصورة اكيدة. واعتبر الأشد حماسةً من بين الفيزيائيين الفن عقيماً وبالتالي لا يستحق من الناس الحاضرين عنايتهم واهتمامهم. ولو اقتصر النشاط العملي للانسان على تغيير الطبيعة لكان هؤلاء على حق ولفقد الشعراء الغنائيون كل حجة للطعن في هذه الافتراضات. في هذا المجال يمكن بالفعل الاستغناء عن الفن الذي لا يمكن مقارنته بالعلم. الا أن للفن ضرورته الجوهرية لجانب اخر من الممارسة العملية، وبالتالي للحياة الاجتماعية بمجملها، وفي هذا المجال فان دوره هائل لا يمكن الاستغناء عنه.
ندرج على مسرح الحياة ونحن لا نحمل سوى الخبرة البيولوجية للجنس الواحد، اما الخبرة الهامة الثانية التي تميز الانسان-الخبرة الاجتماعية التاريخية-فتتوفر لنا من خلال معارك الحياة برعاية الاخرين وخاصةً الأكبر سناً. ان هذه العملية المعقدة، اللازمة لكل مجتمع، والتي ينظمها المجتمع ويرعاها بسبب ضرورتها، انما هي عملية تطوير الانسان، الكائن الاجتماعي، زجه في حياة المجتمع، ومع مختلف مجموعاته وعبر مجالات من النشاط الضرورية لحياة المجتمع.
في المقام الأول يتحدد هدف هذا النشاط بـ(تغيير طبيعة الانسان). هنا يرتبط تطور الانسان بدخوله نظاماً للانتاج الاجتماعي المتكون تاريخياً، له نسقه الخاص من تقسيم العمل والقوى المنتجة. والانسان أكثر عناصر هذا النظام نشاطاً. يتطلب هذا الأمر اعداد الناس مهنياً واعادة تدريبهم وفق قاموس قائم على اتقان الخبرة المتراكمة في ممارسة تغيير الطبيعة بواسطة الانسان في جميع مجالاتها، وهذه تعتبر المهمة الرئيسية لعملية الصلات الاجتماعية التي تخدم هذا الوجه من أوجه النشاط العملي.

غير أن تطوير الانسان لا يقتصر على تكوينه كعنصر انتاجي في المجتمع، فالانسان قبل كل شيء، ومهما عمل أو تصر (ليس في عمله وحسب، بل وفي الحياة بوجه عام، ليس في الحياة الاجتماعية وحسب، بل وفي الحياة الشخصية) محتم عليه الدخلو في علاقات متشابكة معينة مع اناس اخرين وتحديد مواقفه تجاههم وتجاه نفسه، ازاء مصالحه ومصالح الاخرين. ازاء مجموعات العمل وفي الحياة ازاء الفئات الاجتماعية والطبقات، والأهم ازاء المجتمع والطبيعة بمجملها. وأثناء السيرورة الاجتماعية للانسان يغدو جزءاً من الهيئة الاجتماعية القائمة بصورة موضوعية (بدون ارادته) وفرداً متميزاً بمواقفه الخاصة-التي أدركها ومارسها بأسلوبه الخاص-تجاه العالم المحيط وتجاه نفسه.
وتشكل هذه المواقف عاملاً هاماً في نشاطات الانسان، بما فيها الضرورية لمجتمعه ضرورةً جوهرية، وبالتالي فللقوى الاجتماعية مصلحة عظيمة في تشكيل المواقف الخاصة والنماذج البشرية (وغالباً ما تكون نماذج متنافرة مع نشوء المصالح المتناحرة) مثلما لها مصلحة في الاعداد المهني لهذه النماذج والمواقف.
وعلى الرغم مما هي عليه الأنماط التفريدية من تنوع، فان لهذه المواقف الكثير مما هو مشترك فيما بينها، طالما تتطابف مصالح الناس الذين ينتمون لهيئة اجتماعية واحدة وكذلك حاجاتهم وامالهم. وهنا ايضاً ينهض تشكيل الانسان على اساس استيعابه للخبرة الاجتماعية-التاريخية، ولكن ليس خبرة تغيير الطبيعة أو المؤسسات الاجتماعية وحسب، بل وتغيير العلاقات الانسانية للفرد، ولم يعد هذا الأمر مجرد خبرة مهنية، بل خبرة شاملة: يحتاجها افراد جميع المهن في جميع نواحي الحياة.
فالنشاط العملي الذي يتطلبه المجتمع لتشكيل مختلف علاقات الانسان وتحويلها بالتطابق مع حاجات المجتمع (أو حاجات هذه الطبقة أو تلك) انما هو النشاط الاجتماعي لـ(تغيير الناس بواسطة الناس).
يجب أن نلاحظ في هذا النشاط، أن النشاط الثقافي قادر ايضاً على التغلغل في جوهر العلاقات الشخصية للانسان والوصول الى أعماق شخصيته و(تحريك أعماقها) حراثتها. في هذه الحالة، يفضي (التغيير) الثقافي الى صياغة مواقف جديدة أو تكييف المواقف القائمة مع الواقع أو مع الانسان نفسه وبالتالي لا يخدم النشاط العملي وحسب، بل وكذلك الى حد ما يندغم معه ويؤدي وظائفه.

لذا يمكن القول بوجود نمط ثقافي-عملي موحد للنشاط البشري. وليست العناصر العملية والثقافية فقط هي التي تندغم معاً، بل وكذلك جميع اشكال النشاط الثقافي على تنوعها.
وليس الا في وحدة لا انفصام لها تغدو حقاً تلك المعارف والخطط والمعاشرة التي يحتاجها ذلك الجانب من الممارسة، العامل الثقافي الذي يثمر النتائج العملية-بمعنى التأثير الذي يترك على الشخصية. ولهذا السبب تأتي بنية الفن مركبة ومعقدة، ويكون الفنان في ان واحد مخططاً وباحثاً وخبيراً ومدرساً، نظرياً وعاملاً تطبيقياً مثقفاً وعاملاً يدوياً، فهو يعيد انتاج العالم في صور فنية ويجسمها في عمل مبني من مادة خاصة على قاعدة نظام معين للاتصال الفني، وبمعونة تقنية وتكنولوجية معينة. هنا يمكن تفسير طبيعة الفن، هذه الطبيعة متعددة الأوجه، وهنا ايضاً نعثر على مداخلنا لادراك السمات النوعية لكل من هذه الأوجه.
في المقام الأول، تنشأ هذه الأوجه من الطبيعة الفريدة لاعداد الانسان اعداداً شاملاً، فنحن نتلقى خبرةً مهنية ومعرفة ومهارات جاهزة ونتقنها كوقائع موضوعية، وهي بالتالي يمكن تحصيلها بالتربية والمران.
أما الخبرة الشاملة فلا يمكن اكتسابها عن طريق التعلم: (اذ يجب ممارستها، كل فرد يغرسها كما لو أنه يبدأ من نقطة الصفر، وعلى كل فرد أن يكتسبها بصورة مستقلة من خلال الاحساس والمعاناة الشخصية، بحيث تغدو جزءاً عضوياً من علاقته بالعالم وبنفسه، جزءاً من شخصيته. وعلى الرغم من أن هذه الخبرة تتشكل تاريخياً، وهي متماثلة تقريباً لمعظم الناس، حيث تحتفظ بمضمون موضوعي، فانها تتخذ شكلاً ذاتياً وشخصياً صارماً.
ولهذا السبب فالقوة الرئيسية المشكلة لشخصية الانسان تتمثل في حياته العملية، حيث تتشكل مختلف مواقفه ازاء مختلف الأوضاع والحالات من خلال تفاعله مع العديد من الناس وبالتماس مع العديد من الأحداث وضمن أوضاع مواتية وغير مواتية. الا أن مؤثرات الحياة، اذ تمثل العامل الأقوى على الانسان، فانها لا يمكن التنبؤ بها وقد تعارض بعضها بعضاً وتظل تجربة الانسان محدودة بمكان معيشته وزمانها، بقضاياه وبالناس الذين قد يتصل بهم. كما أن المجتمع بحاجة، من جانب اخر، الى التأثير على أغلبية الناس بطريقة هادفة منتظمة قائمة على ادراك التجربة الاجتماعية-التاريخية وتكثيفها، ويتحقق هذا الهدف عبر سيرورة (تغير الناس بواسطة الناس) وبالاستعانة بجميع ادوات التأثير الثقافي والعملي. فالفن يتميز بكونه ينجز جميع هذه المهام من خلال (محاكاة) الحياة وواتباع دروبها.

والفن بالمقارنة مع الأدوات الاجتماعية الأخرى، المتعلقة بهذه الممارسة، لا يطرح وصفات جاهزة أو تقييمات غير مشروطة أو معايير مطلقة، فهو اذ يحاكي الحياة فانه يبدع نماذجه الحياتية الفاعلة، القادرة على تغيير الانسان مثلما تغيره الحياة، أي يجره في خضم أحداث ويرشده الى ملاحظات وانفعالات وانعكاسات شبيهة بتلك التي تحدثها الحياة الواقعية، كل ذلك لكي ترشده الى استنتاجات معينة على حساب منجزاته وأخطائه، مكتسباته وخسائره، وتتيح له الابقاء على هذه الخبرة المكتسبة بهذا الاسلوب واستيعابها في أعماق شخصيته.
ويوجه الفن بالطبع هذه العملية بصورة لاواعية ولكن بقوة وكل ما يفضي اليه من مشاعر وأفكار هي من ثمار تفسير الفنان وتعميمه لملاحظاته عن الحياة ولخبارت العديد من الناس وحتى خبرات الأجيال، وتلك الملاحظات التي تتركز بشكل مكثف في الأعمال الفنية العظيمة مثلما تتركز المادة في أكثف النجوم.
وبالنتيجة، فالفن لا يمارس تأثيره على موقف ما بعينه وحسب بل وعلى مواقف الانسان أيضاً، على نواة الشخصية الانسانية. ولا يجري الاحساس مباشرةً بهذا التأثير بل وبصورة غير مباشرة وفي أوضاع عدة وعلى مراحل مختلفة من الحياة.
فالفن أداة اجتماعية لا مثيل لها في صياغة الشخصية المتكاملة، وبهذا الهدف العملي الرئيسي تتقرر الخواص الأساسية لجوانبه المتعددة ولاندماج جميع هذه الجوانب في كل متكامل.
جدلية المعرفة والتقييم والتخطيط والتنظيم:
لكي نبني نماذج مؤثرة من الحياة يجب علينا دراسة الحياة، فالفن شيء مستحيل بدون الالمام بالواقع، ويتقرر الطابع المميز للمعرفة بالغاية العملية للفن. فالفن، اذ يهدف لصياغة الانسان وصياغة موقفه ازاء الواقع فانه يعكس بالضرورة ظواهر الحياة بالارتباط مع علاقات الناس بهذه الظواهر. ويدرك الفن هذه العلاقات ذاتها، محاولاً كشف تلك العلاقات الخاصة لفئة ما أو لمختلف الفئات الاجتماعية وللنماذج البشرية، ومحاولاً أيضاً الكشف عن جوهرها ومنابعها واتجاه تطورها.
لذا يلتمس الفنان تلك النزاعات الجارية في الحياة، حيث يتضح من خلالها جوهر العلاقات الانسانية بوجه خاص، وينتقي تلك الظواهر اتي تتيح له الكشف بأوضح ما يمكن عن نموذج الشخصية الانسانية عن طريق تقصي الموقف الذي يتخذه النموذج ازاء هذه الظواهر.
وتتشكل هذه المواقف في الحياة على مختلف الأصعدة ويمكن لموضوعها أن يأتي ملموساً، خاصاً وشائعاً، أو قد يكون حدثاً بارزاً يهم العديد من الناس ويشمل عدداً من الحقائق والوقائع، فللانسان علاقاته بالأفراد والجماعات البشرية، وبحركات اجتماعية وبأمم وبالبشرية جمعاء. وحياول الفن احتضان كل هذا التنوع، ويعكس الواقع من خلاله أي موضوع هذه العلاقات بشكل ملموس في جميع تجلياتها (وهذا ما يميز الفنون الجميلة والسينما والمسرح الخ) أو معمماً بهذا لقدر أو ذاك حتى في أكثر الصيغ تعميماً أي عندما يعرض الموضوع بصيغة ضبابية. وتطرح علاقات في مرحلة تحولها الى حالة نوعية جديدة (وهذا ما يميز موسيقى الالات على سبيل المثال). في نفس الوقت، يمكن أن تتخذ الأشياء العادية حتى أكثرها صدقاً، معنىً تعميمياً أو حتى رمزياً لدى عرضها فنياً.
ويفترض في الفن، لدى ادراك ظواهر الواقع من منطلق موقف الانسان منها، ان يقيم هذه الظواهر. فالموقف الشخصي من شيء ما، هو في نهاية المطاف تقييم له بشكل رئيس، لذا فالجانب المعرفي يتشابك مع الجانب التقييمي في الفن، ولا يمكن وجودهما منعزلين عن بعضهما بعضاً. ولكن الفنان، اذا ما عكس على مستوى الادراك مواقف مختلفة من ظاهرة معينة، فانه على مستوى التقييم يقيم هذه الظاهرة ويحدد موقفه منها. فالفن اذاً ينهض بمهمة (تقييم التقييمات) ويقرر هدفه العملي انتقاء شكل هذه التقييمات.
برز تاريخياً شكلان رئيسيان: هناك الشكل الموضوعي الذي يتجلى في أحكام واستنتاجات منطقية ويستند الى معايير في نظام المعاني الموضوعية ويقف خارج المصالح الشخصية للفرد ولرغباته وطموحاته. أما الشكل الذاتي فيتلون بالعواطف. انه بالنسبة للفرد، تعبير عن مصالحه ورغباته وطموحاته وينهض على معايير ضمن نسق المعاني الشخصية التي يكمن في اساسها الجربة الاجتماعية-التاريخية للعلاقات الانسانية التي تمثلتها الذات. وبذا، قد تأتي التقييمات صادقة ليس في الشكل الموضوعي فقط، بل وفي الذاتي أيضاً (اي تتطابق مع قيم قائمة بصورة موضوعية) ولكنها قد تأتي غير صادقة. قد تعبر عن قيم ثقافية حقيقية أو متخيلة أو ربما تعبر عن مواقف من العالم صادرة عن نزوة أو تقدير ذاتي أو اعتباطية. وليس غير التقييمات الوجدانية بمقدروها التغلغل في أعماق الشخصية والتحول الى مواقف خاصة وترشيد تصرفاتها.
ولهذا، يتوجب على الفن، لدى محاولته طرح قيم حقيقية تعبر عن الحاجات الملحة للتطور الاجتماعي ان يضفي على (أحكامه) طابع المعاني الشخصية والطاقة العاطفية العظيمة. وهذا لا يعني أن تقييمات الفن هي دوماً عاطفية. اذ يلجأ الفن أيضاً الى الحجج والاستنتاجات المنطقية عندما يشرح ويفسر الأفكار الفلسفية والسياسية والجمالية الخ، فيحض المتلقي بذلك على التأمل ويرشده الى استنتاجات ايديولوجية معينة. ولكن لكي تغدو هذه اراء المتلقي واستنتاجاته، فيجب على الفنان أن يمررها عبر فلتر عاطفي مضفياً عليها معناً شخصياً.
كما أن محتوى تقييم التقييمات يتقرر عبر الهدف العملي للفن، أي نموذج من الأشخاص يود أن يصوغ؟ أي المواقف يود أن يبثها وأي المواقف يرفضها؟ على هذه الأمور تتوقف القيم التي يتكئ عليها: قيم تعبر عنها المثل الاجتماعية للطبقات التقدمية والثورية، أم تلك الممثلة لتطلعات القوى الرجعية؟ هنا يلامس الفن حدود الأيديولوجيا ويلامس جانب التقييم جانب التخطيط.
فالفنان يخطط للتأثير الثقافي والعملي لانتاجه، ويتقرر هذا الأثر في المقام الأول بعلاقات الناس أو بنماذجهم. هنا يخضع الفن لتأثير قوي من جانب الطبقات المتناحرة ويسهم بدور نشط في صراعها، فالتناحر الطبقي يتجلى في الفن في علاقات الناس ونماذجهم، تلك العلاقات والنماذج التي يكرسها أو يكافح ضدها، ينشد اليها أو يشدها.
والفن بذاته يسهم في انتاج المثال التقدمية وترويجها عن طريق ابراز حاجات المجتمع الملحة ضمن نماذج جديدة من الناس وعبر علاقاتها بالعالم وبنفسها عن طريق العثور على أناس ومواقف جديدة حتى في الحياة الراهنة، وبقدر ما يتعلق الأمر بالعلاقات البشرية، منابعها وتطورها، فان جانب التخطيط يهيئ للفن قدرة على رصد المستقبل، ومن خلال قدرته هذه تطرح عملية تغيير الانسان للانسان احتياجاتها الجديدة من الفن.
للتخطيط علاقات وثيقة متشابكة من فهم الواقع وتقييمه. ان التقصي الدقيق للعلاقات القائمة في الحياة المعاصرة
ولعملها باتجاهات تطورها يساعد في الاعتداء الى المواقف والنماذج الجديدة للناس وحاجات المجتمع التي نضجت فيها، وابرازها لما هي لم تزل في طورها الجنيني. وكما يفترض صياغة المثل الجديدة التعمق في ادراك المثال الراهن وتقييمه الصحيح، وينطبق نفس الأمر على العمل الفني الواحد. ان برمجة التأثير الثقافي والعملي لأي عمل فني يحتم الى حد كبير انتقاء الفنان للمادة من الحياة وكذلك تنظيمه لهذه المادة كـ(نموذج) من نماذجها. وتتم هذه البرمجة من خلال ادراك الفنان وتقييمه للواقع. الا أن الفنان لا (يستثمر) في عمله برنامجه وحسب، بل وجميع الوسائل المطلوبة لتنظيم استيعاب المتلقي وتوجيهه، الى جانب التأمل المبدع للمضمون الحيوي الذي يحتويه العمل الفني.

التفاعل الابداعي وتنظيم الصورة الفنية
لقد بات معروفاً أن العمل الفني، اي الموضوع المادي للفن، يبنى وفق نظام معين من اللغة الفنية الا أنها لغة خاصة. وكثيراً ما ترد انتقادات مبررة في الأدب السوفييتي لتطبيق نظام الاشارة Semiotics بشكل الي على دراسة اللغة في مجال الفن. فمثل هذه الأساليب عقيمة في هذا المجال لأنها بشكل رئيسي لا تأخذ بالحسبان الطابع الثقافي والعملي في الفن، وهو ما يفترض الخصوصيات الرئيسية لابداع الصور الفنية وتجسيمها في نسيج العمل الفني كذلك. ان هذا التجسيم يشكل الحلقة المركزية في سلسلة الاتصال بين الميدع وجمهوره.
فنظرية الاشارة تعتبر نظم الاتصال الاجتماعي نظماً ثقافية واخبارية وهذا صحيح حقاً في كل ما يتعلق بممارسات (تغيير الانسان للطبيعة). فوظيفتها الرئيسية تتمثل في ابلاغ المخاطب بنتائج النشاط الثقافي لمبدع الخبر المبثوث. والعمل الفني ينقل ايضاً ثمار النشاط الثقافي المبثوث، والعمل الفني ينقل ايضاً ثمار النشاط الثقافي للمبدع، الا أن ذلك يتم بطريقة يمنح الثمار قوةً عملية، لا تعتمد على ما يتم ايصاله فقط، وعلى كيفية التوصيل.
وبذا، فعملية التوصيل تكتسب طابعاً ثقافياً-عملياً، اذ لا يتم التوصيل ما لم يستفز الفن نشاطاً لدى المتلقي ويوجهه الوجهة المطلوبة، وما لم يستوعب المادة الاخبارية استيعاباً ابداعياً ويتمثلها في أعماق شخصيته. وبدون نشاط كهذا لن يتحقق توصيل (نموذج) المبدع، ولن يترك على المتلقي.
يتم الايصال الناجع بثلاثة طرق على الأقل: فله أولاً وظيفة ابلاغ، حيث يبلغ القارئ أو المتفرج أو المستمع بنتائج ادراك المبدع وتقييمه للواقع وله ثانياً وظيفة الايحاء، اذ يوحى للمتلقي بـ(تقييم التقييمات) او يحيل وجهة نظر المبدع الى وجهة نظر خاصة بالمتلقي. وله ثالثاً وظيفة تنظيمية، اذ يولف الفن بين ملاحظات المتلقي وتجاربه وتأملاته التي استفز حضورها العمل الفني ويرشده الى الاستنتاجات والتقييمات والأهجاف التي برمج لها المبدع في عمله الفني. وتشكل هذه الوظائف معاً عملية متكاملة واحدة، ويتطلب الأمر قدراً من المادة الحيوية لكي يثبت في وعي المتلقي الملاحظات والتجارب والأفكار التي تحمل تلك المادة بصماتها. يتوجب عرض هذه المادة وتنظيمها باسلوب خاص حتى تخلف الأثر المرجو والذي بدونه يستحيل اثارة نشاط المتلقي وارشاده الى النتائج المرجوة.
تجد هذه المهام المعقدة حلها في مخزون من الوسائل والأدوات الخاصة والبنى المعمارية الراسخة التي تشكلت وهي تنمو باستمرار في جميع ميادين الفن: هناك بنى (داخلية) تدخل في تنظيم المادة الحيوية التي اتخذت (نموذجها) الفني وهناك بنى (خارجية) يندرج في اطارها جميع عناصر الموضوع المادي للفن وتقنية الابداع الفني وتكنولوجيته. ونجد في الطابع العملي الايجابي للفن مدخلاً لفهم القوانين الرئيسية التي تتحكم في تشكيل هذا المخزون واغنائه والاستفادة منه.

جوهر المتعة الجمالية وعناصرها:
اقتصر حديثنا حتى الان على الغاية الاجتماعية من الفن، استخدامه في تلبية حاجات المجتمع لبناء وتطوير شخصية متكاملة، الا أن للفن ضرورة جوهرية ايضاً بالنسبة للفرد، تتمثل في اشباع حاجاته الفنية. ولهذه الحاجات-اشباع المتعة الفنية-تركيبها المعقد.
لقد قيل انفاً أن الفن يطرح (تقييمه للتقييمات) من خلال اثاره والانفعالات. الا أنها انفعالات فنية خاصة، خضعت في الاونة الأخيرة لدراسة نظرية معمقة، ومن السمات الخاصة بهذه الانفعالات انما دوماً ايجابية، اي أنها تخلق حالة اشباع عاطفي. حتى تلك التجارب التي تبدو سلبية في الحياة الواقعية، بمعنى انها تسبب الألم والحزن والضيق-تخضع لعمية (اعلاء في الأحاسيس) حسب تعبير عالم النفس السوفييتي ليف فيغوتسكي، ولهذا السبب فحتى العمل الفني التراجيدي يمثل عنصر اعلاء للمشاعر في نهاية الأمر. وعن طريق عدوى الانفعالات وتحويلها بالايحاء الى جزء من وعي المتلقي يوفر للفن في ذات الوقت متعة للمتلقي.
وترتبط هذه المتعة بسمة أخرى للفن، سمة هي من ثمار طبيعته الثقافية-العلمية. فقد اشرنا من قبل الى أن على الفن أن يجتذب جمهوره داخل عالم شبيه بعالم ملاحظاتهم وتجاربهم وتأملاتهم. الا أن هذا لا يتم الا بالهاب اهتمام الجمهور واثارة رغبته في ولوج هذا العالم والعمل عليه والسيطرة عليه. ذلك أن المشاركة المباشرة والعانية في الأحداث التي يعرضها الفن ومعاناة هذهن الأحداث عاطفياً والتفكير فيها امور تغني حياتنا. فالمتعة الفنية، بالتالي تتوقف على اي الجوانب الحياتية يبرزها العمل وعلى قوة الابراز ومدى اكتماله وعمقه، بكلمة، انه جانب مربوط بالمعرفة.
فاندماج المتلقي مع الحياة التي يعرضها الفن توفر له الفرصة (وهي ما يحتاجها كل شخص) للالتحام بالاخرين. حقاً انه التحام ودي وثيق باناس مرموقين مثيرين للاهتمام اغنياء ثقافياً. هنا ايضاً يكمن مصدر اخر للمتعة الفنية.
هنا تتجلى امامنا قدرة الفن على اداء دور (كتاب الحياة) حيث يقوم بوظيفة التنوير والعويض على الانسان ما فاته. انه يتيح لنا امكانية ولوج حلقات من البشر والأحداث لا تتوفر فرصها لنا دوماً في الحياة الحقيقية. وهو يوفر الفرصة لكي تغني تجاربنا وتأملاتنا-في ذواتنا وفي الاخرين-وفي العالم فرصة لا تتوفر لنا في الحياة اليومية. انه يتيح لنا أن تقع على متع جديدة ورغبات جديدة وطموحات جديدة.
كل ذلك في حد ذاته سيرورة ابداعية. ان مشاركة الجمهور في الابداع شرط لا غنىً عنه لتحقيق فاعليته العملية. في ذات الوقت يمثل اتخاذ موقف فاعل ابداعي من الواقع جانباً ضرورياً من جوانب المواقف الجمالية للانسان كما تنعكس في نفسيته على صورة خبرة فنية وانتشاء عاطفي. فقدرة الفن على الكشف Heuristic ability هي ايضاً احد مصادر الاستمتاع الفني.
يتحقق الاستمتاع من اكتمال الشكل الفني للعمل، من سيطرة المبدع التامة على مادته ومن الأدوات التقنية الخاصة بأجناس الفن، من مهارة الفنان في الاستفادة من جميع الوسائل والأدوات والبنى المعمارية التي بحوزته، من نقاء ذوقه وصفائه، ومن رفاهة احساسه وحدة ذهنه، التي قال عنها ليف تولستوي انها على قدر من الأهمية، وتضفي على العمل الفني قوةً خاصة وسحراً فريداً. وكل ذلك منابع اضافية للمتع الفنية التي يوفرها العمل الفني الحقيقي.
تتحد جميع أجه الفن المختلفة-المعرفي والتقييمي، التخطيط والاتصال، الثقافي والمادي-لابداع المتع الفنية. وكلها تسهم في انجاز مهام الفن الاجتماعية. انها لخاصية بارزة للفن، فهو اذ يؤثر في الانسان لصالح مجتمعه، فانه دوماً يمنحه المتعة العالية في نفس الوقت-هذا على افتراض استيعاب العمل الفني بعمق وبنشاط وبطريقة ابداعية. وتزود هذه القدرة الفن بطاقة وامكانيات اضافية ضمن نظام من الوسائل يجري حالياً توظيفها بشكل مثابر يتسع باستمرار وبصورة منهجية كجزء من شروط تطوير الانسان تطويراً منسجماً شاملاً.

س.خ. رابوبورت
ترجمة: محمد سعيد مضية