اليسار دوره وموقعه في عالم عربي يتأسس من جديد

علي غريب
2015 / 5 / 13 - 00:04     


إذا كان اليسار العربي طيلة القرن الماضي قد فشل في تحقيق أهدافه وطموحاته وبقي خارج المواقع السلطوية، مستقبلاً القرن الجديد وهو على أزمة حادة فهل يقدر هذا اليسار على استعادة حضوره وحجز مكان قيادي له في مرحلة إعادة تأسيس عالم عربي جديد؟!
من غير الممكن التطرق الى هذا الموضوع دون المرور على تجربة اليسار في القرن الماضي. فالمنطقة العربية تدخل في مرحلة تحوّل كبير وحراك شعبي وسياسي غير مسبوق وإعلان ثورات وانتفاضات ما زالت تناضل من أجل تغيير الواقع القائم. هذه الأحداث تكشف عن واقع عربي تتغير ملامحه وتؤكد أن المنطقة مستمرة لفترة بعيدة على الصراعات والتدخلات الاجنبية الاستعمارية والحروب الاهلية، مرحلة تعكس بصورة جليّة الواقع العربي المتداعي بعد مرور قرن على تأسيسه يمكن تقسيمها الى مراحل ثلاث.
المرحلة الاولى: مرحلة التأسيس وهذه قد حصلت بعد الحرب العالمية الاولى التي أدت الى هزيمة العثمانيين الذين حكموا العالم العربي ما يقارب الأربعة قرون كان خلالها منقسماً بين ولايات وسناجق، فاقتسمه الاستعمار الانكليزي- الفرنسي استناداً الى اتفاقية سايكس- بيكو حيث بُنيت الدول ورُسمت حدودها الجغرافية على قاعدة الالتحاق والتبعية ووُضعت تحت سلطة الملوك والأمراء والإقطاع.
في ظل هذا الواقع وعلى وهج انتصارات ثورة اكتوبر الروسية تأسست الاحزاب اليسارية- الشيوعية العربية مترجمة النظرية الماركسية، وناقلة لها الى المجتمع العربي، مُسقطة بذلك نظرية ثورية متقدمة جداً تدعو الى التغيير الجذري، على واقع مُستعمَر ومتخلّف جداً في كافة المجالات، تسوده العلاقات الاقطاعية والتخلّف الاقتصادي وتعمّه الأميّة الشاملة، وبالتالي لم تتحول الماركسية بالممارسة الى حالة ثورية وخلق واقع ثوري في غياب الشروط الموضوعية والمكونات الحقيقية القادرة على القيام بثورات اجتماعية طبقية ، بقدر ما بقيت ضمن مهمات نضالية مطلبية.
وما ميّز تلك المرحلة سياسياً هو التحاق الاحزاب الشيوعية العربية بالمدرسة السوفياتية وتوجهاتها إما لقصور في طرح مسألة السلطة في بلدانها، وإما لخوف من اتهامها بالتحريفية كما حصل مع العديد من الأحزاب الشيوعية العالمية التي لم تنضو تحت لواء التعاليم السوفياتية وقراراتها السياسية. ومن تلك القرارات تأييد الاتحاد السوفياتي لانشاء كيان صهيوني على أراضي فلسطين، ما أدى بمعظم الشيوعيين العرب الى الالتزام بذلك القرار الذي بقي وصمة عار على مواقف الاحزاب العربية دفعت ثمنها طويلاً من الانفكاك الجماهيري عنها، كما أنها اتخذت مواقف معارضة لقيام وحدات عربية أو غير متماهية معها (في ظل شعور شعبي عربي عارم في تلك المرحلة)، سبقها غياب اهتمام جدي بالقضايا القومية في برامج الاحزاب، بينما تعايشت مع الأنظمة وراحت تبشّر بنظرية التطور اللارأسمالي السوفياتية، مما أدى ببعض الأحزاب الشيوعية الى الالتحاق الذيلي بأحزاب البرجوازية فأضعفت من خلال ذلك استقلاليتها وراحت تبحث عن مشاركه شكلية في السلطة عبر نائب هنا ووزير هناك في ظل مسميّات جبهة وطنية تقودها الاحزاب القومية الحاكمة. هذا الالتحاق أدّى الى إخراج الاحزاب الشيوعية، عدا البعض القليل منها، من دائرة التأثير والفعل الثوري المعارض والى اقتصار برامجها على رؤى إصلاحية، مما أفقدها الاثنين معاً، المعارضة والسلطة على السواء. وصل اليسار الشيوعي في نهاية القرن الى الازمة التي ما يزال يبحث عن حل لها بعد أن تعمقت بانهيار الاتحاد السوفياتي.
ورغم النهوض الكبير للفكر الماركسي بعد منتصف الخمسينات من القرن الماضي لم يترك هذا الفكر تأثيره الثوري في صفوف الجماهير الشعبية والعمالية بتثبيت وعي طبقي على الوعي الديني والعشائري رغم الجماهيرية الواسعة التي اكتسبتها تلك الاحزاب بفعل نضالها المطلبي.
بينما نرى بالمقارنة أحزاباً يسارية في اميركا اللاتينية، ولا سيما أيضاً بعد منتصف القرن الماضي، عرفت تطوراً غير مسبوق لماركسية أكثر التصاقاً بالواقع الاجتماعي وخارج الأحزاب الشيوعية التقليدية، واستمرت تلك الأحزاب اليسارية بتصاعدها واتساع جماهيريتها رغم انهيار الاتحاد السوفياتي ونجحت في تثبيت تجربة متميزة في فهمها وممارستها للديمقراطية على المستويين السياسي والاجتماعي.
المرحلة الثانية: في مرحلة الاستقلال الوطني بعد الحرب العالمية الثانية استطاعت دول عربية عديدة أن تستفيد من موازين القوى الدولية الجديدة ومن إنهاء النفوذ الاستعماري الفرنسي- الانكليزي، وفي ظلّ تحد كبير وخطير بإنشاء الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، نشأ عالم عربي بقيادة سلطات عسكرية تمثل مصالح البرجوازية المتوسطة والصغيرة مدعومة من الاحزاب القومية منهية بذلك عهد الملوك والاقطاع في بلدانها، حاملة معها منظومة فكرية-ثقافية قائمة على شعارات تقدمية (وحدة-حرية- اشتراكية) متبنّية مهمة تحرير الأرض الفلسطينية. إلا أنّ هذه القوى سرعان ما سقطت بشعاراتها ومنظومتها الفكرية بعد حرب 1967 وهزيمتها أمام اسرائيل، فسقط معها شعار “الحل بالجيش”، وتحوّل همّ الحاكمين الأساس الى التمسك بالسلطة فتماهى الحاكم بالوطن وبالدولة عبر ديمقراطية 99.9% وهتافات الجماهير “بالروح، بالدم، نفديك يا….” وليس يا وطن، على قاعدة شعار لويس الرابع عشر “أنا الدولة والدولة أنا”. إلاّ أنّ المفارقة هي أن الأخير كانت لديه دولة بينما لم يكن الأمر كذلك عند الحكام العرب، وأصبح مفهوم الأمن القومي معبِّراً عنه بأمن الرئيس وعائلته، وتحوّل المعارض للنظام بنظرهم الى معارض للوطن والدولة، وبالتالي وقع عليه اتهام الخيانة الوطنية وكان مصير المعارضين القبر أو السجن او النفي. وانتقل العالم العربي الى حالة غير مسبوقة من التبعية والارتهان السياسي والى التفكك وازدادت الخلافات بين الدول العربية وتهمشت الجامعة العربية وراح كل نظام يبحث عن كل ما يساعد على تأبيد الحاكمين في السلطة عبر الوراثة والفساد، ولم تعد القضايا القومية وخاصة القضية الفلسطينية تحظى بأيّ اهتمام فعلي لديهم، فتُركت فلسطين لأهلها وارتفعت اعلام إسرائيل في قلب عدة عواصم عربية.
وبالمقابل شكلت التراكمات المتسارعة على المستوى الاقتصادي الاجتماعي عبر سياسة “الانفتاح” الى هيمنة كاملة للقوى الرأسمالية على مقدرات البلاد، وتركزت الثروات في يد طبقة رأسمالية محدودة وفي ايدي الحاكمين وعائلاتهم، مما أدى الى تعميق الأزمة المعيشية للمواطنين، وبالتالي إلى تشديد قبضة القمع لضبط أيّ تحرّك واعتراض شعبي، وكان من نتيجة ذلك انفصام بين الأنظمة وشعوبها التي باتت مهيّأة للتجاوب مع أيّة دعوة ترى فيها انقاذاً لها من الفقر والعوز والتسلّط، وهذا ما ظهر في الاستجابة السريعة وغير المتوقعة لدعوة مجموعات من الشباب عبر وسائل التواصل الاجتماعي للمشاركة في الانتفاضات والثورات الشعبية. وقد شكلت حرب الخليج الاولى إعلاناً عن نهاية المرحلة الثانية.
المرحلة الثالثة: وهي المرحلة الراهنة “بناء عالم عربي جديد” تحت مسمى “مشروع الشرق الاوسط الجديد”. كان التمهيد لهذا المشروع في حرب “تحرير الكويت” التي قال عنها بوش الأب “لسنا امام تحرير دولة صغيرة من سيطرة دولة أقوى منها، إننا أمام بناء نظام عالمي جديد”. وشكلت أحداث 11 أيلول مقدمة لغزو العراق عام 2003 حين وضع المشروع الاميركي موضع التنفيذ المباشر وأعلن بوش الابن شعاره “من ليس معنا فهو ضدنا ولا مواقف رمادية للدول بعد اليوم”. وكانت المراهنة الأساسية على الحرب الاسرائيلية على لبنان عام 2006 لتدمير المقاومة، إذ صرّحت حينها وزيرة الخارجية الاميركية كونداليزا رايس بأن “على نتائج هذه الحرب سيُبنى مشروع الشرق الاوسط الجديد”، واستكمل أوباما هذا النهج بخطاب له في جامعة القاهرة أعلن فيه أن الحليف القادم لأميركا في الشرق الاوسط هم “الجماعات الإسلامية السلفية”.
في ظل هذا الواقع العربي المريض والمتداعي لم يقتصر وضع المنطقة على المشروع الاميركي- الصهيوني وحده، بل على ضفافه ظهر مشروعان آخران هما المشروع الإيراني حيث الفرصة التاريخية لتَمدّد إيران في المنطقة مستفيدة من جوهر المشروع الاميركي القائم على تفتيت وتقسيم الدول العربية الى دويلات مذهبية وإثنية. فالحاجة الأمنية والاقتصادية دفعت بإيران الى موقف يرفض الهيمنة الاميركية والصهيونية والى أن تكون طرفاً أساسياً في المنطقة عبر التواجد الشيعي في كل من العراق وسوريا ولبنان والبحرين واليمن والسعودية الخ….
والمشروع الآخر هو المشروع التركي القائم على حلم استعادة الخلافة الاسلامية بعدما رُفض طلب تركيا الانضمام الى الاتحاد الاوروبي فراحت تسعى لإقامة تكتل من دول إسلامية أسوة بتكتلات الدول التي نشأت في العالم.
أمام هذه المشاريع تحولت المنطقة العربية الى ساحة مفتوحة للحروب وللتدخلات الاجنبية يسودها ويتمظهر فيها الفكر الاسلامي السياسي وشعار “الحل بالإسلام” في ظل ضعف ومأزق الاحزاب القومية واليسارية على السواء. ولم تتوان القوى السياسية ذات الطابع الديني في الانخراط عملياً منذ وصولها الى السلطة في المشاريع المطروحة المدعومة من الرجعية العربية ومال النفط العربي. وهذه المشاريع واجهتها صعوبات كبيرة منذ هزيمة اسرائيل في عام 2006 وانسحاب اميركا مجبرة من العراق والسقوط السريع لحلفائها الاسلاميين من السلطات مما اضطرها الى خلق تنظيمات ارهابية سلفية فتحت لها الباب للعودة مجدداً الى المنطقة بالقوة العسكرية وبطلب عربي هذه المرة للقضاء على ما يسمّى “داعش واخواتها”. لكنّ المشروع الاميركي نفسه استطاع أن ينشر الفوضى والاقتتال الداخلي وإثارة الصراعات الطائفية والمذهبية والاثنية وأسس لقيام فيدراليات ما يشير الى ان المنطقة مرشحة الى فترة طويلة من الصراعات والحروب والتدمير.
ومن الاهمية بمكان ما حصل من ثورات بشكل أساسي في كل من تونس ومصر عبر نزول الملايين من الجماهير الى الشوارع. وكي لا نقع في الأوهام، لم تحصل بعد تحولات ذات طبيعة ثورية. فالانتفاضات والثورات ما زالت تدور في الاطار الدائري وليس التصاعدي، وهي ما زالت لديها ميول تصالحية بسبب غياب فاعليه القوى اليسارية فيها. وآخر تعبيرات ذلك شهدناه بعودة الشعب المصري الى الوقوف وراء الجيش اعتراضاً على محاولات الإسلاميين تحويل مصر الى دولة دينية وحجبت اصواتها عن حمدين صباحي وعن برنامجه “الطبقي”. وبموازاة ذلك أعادت الانتخابات الاخيرة في تونس اليمين الليبيرالي الى سدة الحكم وهذا ما يؤكد من جديد، أن لا ثورة شعبية ناجحة دون برنامج ثوري وقيادة ثورية. وما الشعار الذي رفعته الجماهير “الشعب يريد اسقاط النظام” الذي شارك فيه الليبيرالي واليساري والاسلامي سوى المدخل الى فتح الباب أمام صراع اجتماعي حاد يتحدد من خلاله طبيعة النظام الاقتصادي والاجتماعي في المرحلة المقبلة.
فأين اليسار العربي من الأحداث الدائرة وما مشروعه للمرحلة المقبلة؟
يُجمع اليسار العربي تقريباً على أن حركة التحرر الوطني العربية انتهت الى فشل كان من نتيجته سقوط منظومة الأفكار والشعارات التي رفعتها السلطات العسكرية العربية والأحزاب القومية. وفي المقابل ينبغي أن يعترف هذا اليسار أيضاً بأن مشروعه التغييري قد انتهى الى مأزق، وعلى هذا المأزق تقدم الإسلام السياسي ورفع شعار “الحل بالإسلام”، وعلى هذا الواقع المهزوم لحركة التحرر الوطني طُرح مشروع الشرق الأوسط الجديد.
إن اليسار العربي في اللحظة الراهنة أمام أمّة عربية ومجتمع عربي في حال من الضياع والفراغ لم يسبق لهما مثيل. فلا قائد “ملهم”، ولا أحزاب بديلة مؤهلة، ولا مرجعية وازنة وقادرة على ضبط ما يحصل من أحداث وحروب ومتغيرات قد تطيح بدول او تغيّر حدوداً، وربما تقتلع شعوباً من اوطانها. واذا سلّمنا بأن النظام العربي السابق قد سقط فإنّ ملامح النظام الجديد ما زالت مجهولة.
يقول غرامشي: “عندما يموت العالم القديم ولم يولد الجديد يظهر في الظلمة بينهما أشباح الوحوش”.
والنظام العربي المنهار فشل في بناء دولة عربية حديثة وبقيت الدول كيانات مفتقدة الى المرتكزات الأساسية التي يحتاجها نشوء الدول. وهذا ما تبيّن بوضوح لحظة سقوط أنظمة الاستبداد إذ أنّ القاعدة الاجتماعية ما زالت قائمة على القبيلة والعشيرة والطائفية والاثنية وتلك هي اتفاقية ودولة سايكس- بيكو. لذا فاليسار العربي بحاجة الى إعادة تقويم للمرحلة الماضية لأن مهمته في الوقت الراهن قد تكون أصعب من السابق وأكثر تعقيداً بسبب تشابك التطور الصناعي والتكنولوجي والعلمي مع واقع القوى المنتجة، وهو ما توقعه ماركس من تقدم سيشمل جميع مناحي الحياة من وسائل المعرفة والاتصالات والآلة، ممّا يؤدي الى تفاقم الاستغلال من قبل رأس المال وتزايد الفقر والبطالة والاستعباد للفئات الشعبية والتفاوت الكبير في الثروة بين الطبقات الاجتماعية.
إن الخشية أمام هذا التطور تكمن في أن يقع اليسار مرة أخرى في حرق المراحل أو في فصل الصراع الاجتماعي عن الصراع الوطني والقومي. ومن المكابرة عدم الاعتراف بذلك. وإلا ما معنى أن تبقى أحزاب اليسار الماركسي العربي حوالي قرن بكامله لم يتحقق لأيّ منها اهدافه السياسية رغم ما اكتسبت تلك الاحزاب من تأييد جماهيري واسع في بلدانها. وما نقرأه مجدداً في وثائق غالبية الاحزاب ما يزال يعتمد على تحديد التناقض الراهن والمرحلي بين الطبقة العاملة وبين القوى الرأسمالية – هل هذا التحديد يعبّر عن حقيقة الصراع الدائر اليوم في العدد الاكبر من الدول العربية؟ – ودون أدنى شك لا يخلو صراع في العالم من أن يكون أحد أسبابه الرئيسية صراعاً اجتماعياً- طبقياً لكن هذا التحديد ساد منذ تأسيس الاحزاب الشيوعية العربية وهو يصلح لكل بلد في العالم يقوم نظامه على استغلال الانسان للانسان. وما افتقدته برامج الاحزاب هو تحديد خصائص كل بلد وتحديد المهام النضالية المرحلية، الأمر الذي أدّى إلى القفز فوق الشروط والقوانين الموضوعية التي لا يمكن تحقيق الاهداف السياسية من دون إدراكها. خاصة وان ما تشهده الدول العربية من أحداث تتعدد فيه التناقضات بين الاستبداد والديمقراطية، وبين التحرر الوطني والهيمنة الاستعمارية، بين دولة القبائل والعائلات والدولة المدنية، وبين المشروع الوطني والمشروع الإسلامي- الإرهابي. هذه التناقضات جميعها تتطلب مهام ذات طبيعة مجتمعية لا يمكن حصرها بحزب واحد او بطبقة اجتماعية بعينها، لأن الصراع الدائر بشكله الرئيسي الراهن هو بين الطموحات الشعبية وحقوقها الاجتماعية والسياسية والسيادية من جهة وبين المشاريع التي تنطوي على تقسيم وتفتيت الدول العربية الى دويلات وفيدراليات مذهبية واتنية وأنظمة رأسمالية تابعة.
اليسار العربي اليوم أمام معركة تحرر وطني على كافة المستويات في مجابهة الاستعمار الامبريالي- الصهيوني وتدخلاته العسكرية المباشرة من خلال المعاهدات والقواعد العسكرية المنتشرة على ارض اكثر من دولة عربية، وفي مواجهة مشروع الفكر السلفي- الإرهابي. وهذا يقتضي قيام جبهات سياسية تقدمية يشكل فيها اليسار الرافعة التاريخية للمرحلة الراهنة كونه أمام مشاريع شديدة الخطورة بأهدافها اذا ما قُيّض لها النجاح، لأن المطروح فيها هو مصير الدول وحدودها وليس مصير الأنظمة القائمة فيها، ومطروح مصير شعوب تقتلع من أوطانها بفقرائها واغنيائها.
وأخطر ما في الامر تصفية القضية الفلسطينية وتأبيد تشريد شعبها العربي. فاليسار أمام إعادة بناء عالم عربي جديد تتأسس فيه من جديد الدولة العربية ونظامها السياسي الاقتصادي والقوى الطبقية المتحكمة فيه وواقع سيادتها واستقلالها وحدودها الجغرافية.
امام هذه المعطيات والاحداث والاحتمالات لا يمكن لليسار العربي ان يدخل بفاعلية اليها دون تقييم نقدي جدي لتجربة القرن الماضي ولا يمكن ان يحقق حضوراً اذا ما بقي على نفس الرؤى والاولويات النضالية التي اوصلته الى الازمة.
وتحديد مهامه بواقعية.
1- أولى هذه المهام في هذا الظرف التاريخي التوصّلُ الى تحديد واقعي للمخاطر المحدقة الداهمة، وللاهداف الممكنة التحقيق. إنّها المهام التحررية والاجتماعية والسياسية والسيادية التي تمنع السيطرة الاستعمارية وتنقل بلداننا من حالة التخلّف، وعرقلة بناء دولة حديثة، من الاستبداد الى التقدم بكل المجالات. وهذا يقتضي التخلّي عن تحديد شعارات عامة وذات بعد استراتيجي في مؤتمرات الاحزاب دون أن تكون شروط تحقيق هذه الشعارات متوفرة على أرض الواقع.
2- وفي جانب آخر نرى أن اليسار العربي معنيّ بالنظر الى التطورات المتسارعة في العلوم والتكنولوجيا والاتصالات والفكر وهذا يقتضي قراءة ماركسية منفتحة نابعة من تحليل واقعي وملموس للوضع العربي الاجتماعي والسياسي.
3- الانطلاق من شروط العصر الذي نحن فيه مع التأكيد على استمرار النضال من أجل التغيير عبر التفاعل مع شروط تجعل من النضال سبيلاً لتحقيق الاهداف. فالماركسية لم تتكلم على الشركات المعولمة المتعددة الجنسيات، ولم تتكلم على القيمة الزائدة إلا عبر عمال المصانع والمعامل بشكل رئيسي، كما أنها لم تتكلم إلا عن الطبقة العاملة كقوة ثورية لها مصلحة في التغيير الجذري مُتوِّجة ذلك بسلطة دكتاتورية البروليتاريا. فهل هذه المفاهيم والتحديدات ما زالت صالحة في عصرنا الراهن؟ ان مفهوم الطبقة ذاته قد أصبح بحاجة إلى إعادة تحديد، وعملية التغيير لم تعد محصورة بالطبقة العاملة وحدها. فالقاعدة الاجتماعية التي تعاني من الاستغلال والفقر قد اتسعت وتعددت فئاتها، فالتحقت بالطبقة العاملة فئات اجتماعية جديدة تُشاركها الفقرَ والظلم والاستبداد والاستغلال والبطالة… وهي لا تقلّ حاجة الى التغيير عن الطبقة العاملة.
4- إن مجرد سماع كلمة دكتاتورية في عصرنا الراهن تثير الامتعاض والاعتراض. الا ان الماركسية سوف تبقى دليل اليسار وفلسفته لكنها ليست انجيلاً ولا قرآناً كما للمؤمنين.
5- لا يكفي أن يكون عنوان برنامج اليسار إسقاط أنظمة الطغمة المالية وبقايا الاقطاع في ظل هذا الواقع العربي المتداعي، فهو شعار استراتيجي دائم. إنما ينبغي تحديد المهام المرحلية المتدرّجة حيث تتوفر الامكانات والظروف لتحقيقها وصولاً الى تحقيق مهمة بناء الاشتراكية. لأن الامور والوقائع أكثر تشابكاً وتعقيداً من استنتاجات تقليدية سهلة قائمة على النظرية البحتة، فالبرنامج الثوري هو القادر على بناء مشروع يربط القضايا التحررية والوطنية بالاجتماعية في برنامج واحد وبمهام مرحلية قابلة للتحقيق.
فالانتفاضات والثورات الشعبية ستبقى في إطار ردّات الفعل على رئيس هنا او امير هناك او حزب هنالك ما دامت تفتقد الى برنامج ثوري لها. فبعد مرور اكثر من ثلاث سنوات على الانتفاضات لم تحقق ما كانت تهدف اليه كما انه ليس ما يؤكد على انها توقفت عند الحدود الراهنة من تحقيق اهدافها. لكن الثابت خلال هذه الفترة أن القوى التي تسلّمت الحكم لم تكن بأفضل من سابقاتها. فلا ثورات شعبية حقيقية دون برنامج مبني على العداء لاميركا والصهيونية ودون استهداف سلطة الطبقة الرأسمالية التابعة ودون مواجهة الإرهاب السلفي، وبالتالي لا يمكن لليسار أن يصبح بديلاً عنها فهو معني بتقديم منظومة من الافكار والرؤى الجديدة منها على سبيل المثال لا الحصر.
1- مهمة بناء الدولة العربية الحديثة التي ينبغي ان تكون مهمة راهنة على جدول اعمال اليسار العربي، دولة قائمة على المواطنة الحقة وعلى قوانين ديمقراطية وعدالة اجتماعية ينفصل فيها الدين عن الدولة ومؤسساتها.
2- الوحدة العربية: تقديم مفهوم آخر للوحدة استفادة من التجربة وعدم تكرار قيامها على ردات فعل ورغبات فوقية، لتحقيق اتحاد بين دولتين أو أكثر دون النظر الى الواقع الاقتصادي والاجتماعي لتلك الدول وطبيعة انظمتها والقوى الحاكمة فيها، بينما لا تكتمل الوحدة العربية ولا تتحقق الا بسياسة متدرجة واعتبارها حصيلة مصالح حقيقية بين شعبين أو أكثر يتم اختيارها بارادة الشعوب وبوعي ذاتي واستفتاءات شعبية ديمقراطية حقيقية.
3- الديمقراطية: ليست للشعوب العربية ودولها ثقافة ديمقراطية فهي تخلّصت من حكم عثماني دام حوالي اربعماية سنة تلاه حكم استعماري غربي، وكان التعبير الأبرز لديمقراطية الانظمة العسكرية متمثلة بانتخاب الرؤساء بنتائج 99.99% وبقوانين قمعية استبدادية وانتخابات شكلية تفتقد الى قوانين انتخابية تحقق وتحفظ التمثيل الشعبي النسبي في النظام وتؤدي الى فصل السلطات واستقلالية القضاء.
4- إعطاء مضامين واقعية وعلمية لمفهوم التنمية الشاملة والتكامل الاقتصادي ولمهام مراكز الابحاث والدراسات.
5- الدعوة الى تشكيل جبهة مقاومة يسارية عربية بكل اشكالها (العسكرية والثقافية والاقتصادية) من أجل تصحيح مجرى الصراع الدائر الذي يتخذ اشكالاً مذهبية واثنية.
6- إعادة الاعتبار الى القضية الفلسطينية على أنها قضية العرب جميعاً لأن وجود اسرائيل ووظيفتها ودورها لا يستهدف فلسطين وحدها ولا الشعب الفلسطيني وحده فضلاً عن كونها رأس حربة للمشروع الاميركي، وبالتالي فإن مواجهتها لا تعني الشعب الفلسطيني وحده، ويستحيل الفصل بين مواجهة اميركا ومواجهة الصهيونية، فهما وجهان لمشروع استعماري واحد، مما يستدعي مواجهة عربية شاملة تستخدم فيها كافة اشكال المقاومة،/ وبينها التحرّك الشعبي لاقفال سفارات اسرائيل ومقاومة التطبيع معها وصولاً الى إلغاء المعاهدات الموقعة مع إسرائيل ومع الولايات المتحدة وانتهاءً بتحرير الاراضي العربية المحتلة واستعادة السيادة الكاملة عليها. فلا إحياء ليسار فلسطيني ينتظر نتائج المفاوضات العقيمة وحلولها أو مصالحات حماس وفتح، ففي الحالتين، إذا ما نجحت، ستكون على حسابه وعلى حساب فلسطين، وما عليه إلاّ أن يعيد الاعتبار للعمل الفدائي من جديد وللانتفاضات الشعبية. وعملية الجبهة الشعبية الأخيرة مفتاح العودة الى إحياء القضية الفلسطينية، وإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية على أن تُجمع كافة الفصائل الفلسطينية على قواعد ديمقراطية تكون مرجعية وحيدة للشعب الفلسطيني وقضيته.
وفي نفس الوقت على الحزب الشيوعي اللبناني ان يعيد بحث استعادة دوره في تحرير ما تبقى من اراضٍ لبنانية محتلة، كما انه من غير الممكن إحياء وتعزيز دور اليسار الشيوعي السوري بمختلف تنظيماته واحزابه في المستقبل وهناك أراض سورية محتلة ومنسية منذ 1967. فلا قيامة ليسار صامت وأراضيه محتلة وثروات بلاده تُنهب. هذا لا يعني ان اليسار العربي الآخر معفي من المواجهة الشاملة، لأن المشاريع المطروحة لا تستهدف بلداً بعينه، والصراع في أي بلد بات جزءاً من الصراع الشامل في المنطقة.
7- إحياء جبهة ثقافية يسارية عربية فالبلدان العربية لا تُستهدف بالعمليات العسكرية والحروب الاهلية فقط بل هي مستهدفة بمنظومة ثقافية متلازمة معها، فالمشروع الاميركي لا يستهدف الاقتصاد وحده ولا السيطرة على الثروات والطاقة وحدها، ولا الدول وجيوشها، بل يستهدف ايضاً إلغاء فكرة القومية والامة والوحدة والهوية العربية، وهذه نقطةُ تقاطع هذا المشروع مع المنظومة الفكرية للإسلام السياسي السلفي الذي لا يعترف بوجود أمّة وقومية وهويّة عربية، ويعتبرها بِدَعاً غربية نقلها عرب مشبوهون لحرف المسلمين عن انتمائهم الديني، وليس في مخزونهم السياسي والثقافي الفكري سوى امة إسلامية واحدة وشعارهم الحل بالإسلام وبالتالي لا يعني لهم شيئا اسقاط العروبة بكل مفاهيمها ومفرداتها.
ومن ناحية ثانية يواجه المجتمع العربي ثقافة الليبيرالية الجديدة بشعاراتها “البراقة”. ولا سيما بين الشباب، “دعونا نعيش” و “حب الحياة” الخ. وتوسيع نشاط المنظمات غير الحكومية التي ترعاها الولايات المتحدة تحت عنوان “نشر الديمقراطية في العالم (وهذه قد جرى اقفالها في عدد من دول اميركا اللاتينية). كما أننا نواجه سياسة النفعية الثقافية والارتداد عبر شراء الاقلام والعقول ووسائل الاعلام. فالمعركة الثقافية لا تقل خطراً عن المعارك العسكرية وما على اليسار الا مواجهتها باحياء جبهة عربية ثقافية تطال المفكرين والمثقفين اليساريين العرب ودعوتهم الى عقد مؤتمرات ثقافية مماثلة للمؤتمر اليساري العربي. على المثقف اليساري دور بالغ الأهمية في هذه المرحلة من أجل نشر وتعميم وتنمية مفاهيم الثورات التي إن لم تحتضنها ثقافة ثورية قد تفشل وترتد وتسقط مجدداً في أحضان البرجوازية. لا سيما ونحن نعلم أن هجرة واسعة حصلت للمثقفين من احزاب اليسار، وعودتهم لن تتم عبر النداءات بل عبر قضايا الحرية والتحرر ورفع الظلم ومواجهة المشاريع الاستعمارية والارهابية الداهمة.
من هنا تستدعي الضرورة إعادة البحث عن وسيلة إعلامية مرئية لليسار العربي. فالخليج العربي وشعبه غائب دائماً عن وثائق واهتمامات اليسار، فكيف يتم التوجه إليه والدخول الى بيوته، وكيف نواجه المشاريع المطروحة، وهي تمتلك الآف المحطات المسموعة والمرئية والمجلات والصحف التي تغزو البيوت على مدى أربع وعشرين ساعة يومياً واليسار لا يمتلك وسيلة اعلامية واحدة؟!
فهل اليسار قادر على الخروج من أزمته وأخذ موقع ريادي وطليعي في قيادة المرحلة القادمة؟
فذلك مرتبط بقدرته على نقد التجربة التاريخية السابقة وعلى تجاوز أزمته، وهو لا ينطلق من فراغ بل وراءه تاريخ نضالي طويل ومخزون ثقافي غني وخبرة تنظيمية تشكل أساساً لتجديد المشروع اليساري العربي انطلاقاً من رؤية ثورية واقعية جديدة لحركة التحرر الوطني باعتبارها ضرورة تاريخية تقتضيها تطورات المجتمعات في المرحلة القادمة، من خلال قراءة ماركسية منفتحة ومتجددة، بما يؤدي الى وضوح العلاقة بين خصائص الفكر الماركسي وقوانينه كمرشد للتغيير وبين خصائص الواقع العربي الملموسة.