ليس للماركسية ما قبلها أو ما بعدها (9)


فؤاد النمري
2015 / 4 / 6 - 22:36     

ليس للماركسية ما قبلها أو ما بعدها (9)

الدكتور فالح عبد الجبار تميّز عن سائر أقرانه في ندوة "ما بعد الماركسية" الذين جميعهم تقدموا إلى ما بعد الماركسية باستثناءه حيث ذهب وحيداً إلى ما قبل الماركسية ليرى أن الماركسية "نظرية ناقصة" إذ كان على كارل ماركس كتابة "نظرية الدولة" منشأ الدولة ومآلها سواء كان ذلك في انكلترا حيث عاش ماركس ودرس الدولة بكل دقة، كما رأى عبد الجبار نفسه، لكنه لم يدرس تاريخ الدولة في البرازيل مثلاً أم في الأرخبيل الأندونيسي أم في جزر الباهاما فيرحل ماركس عن هذا العالم ويترك نظريته ناقصة فلا ينجح عمال العالم في التغلب على الدولة الرأسمالية وتنهار أول ثورة اشتراكية لهم كما حدث في الإتحاد السوفياتي !! ـ ولنا هنا أن نفترض أن الدكتور الجبار اختلف مع سائر أقرانه في الندوة الذين قالوا جميعاً أن مشروع البلاشفة في الإتحاد السوفياتي لا علاقة له بماركس، بينما الدكتور الجبار افترص كما يبدو أن البلاشفة استلهموا بكل أمانة ماركس لكنهم ولما لم يجدوا نظرية متكاملة للدولة ليسترشدوا بها انهار مشروعهم بأساسه المعيب .
ليس علينا بالمقابل إلا أن نفترض أن ماركس لم يشعر أنه بحاجة إلى معرفة تاريخ الدولة في البلدان القصية الطرفية حيث كل بناها مهما اختلفت يقررها المركز التابعة له وهو من الدول في أوروبا الغربية حيث درس ماركس بنية الدولة بكل دقة هناك، إلا إذا أثبت الدكتور الجبار أن الثورة الاشتراكية في هذه البلدان الطرفيه غير الصناعية هي ثورة منفصلة عن الثورة العالمية التي استشرفها ماركس وأنها لا تقوم إلا بعد معرفة تاريخ الدولة الخاصة بكل منها !! عندئذٍ فقط نعترف للدكتور الجبار أن النظرية الماركسية لا تكتمل قبل كتابة "نظربة الدولة" . بغير ذلك ستبقى قناعتنا راسخة بأن كارل ماركس كان الأول والأخير الذي كشف عن القانون العام لبنية الدولة، أيما دولة، والذي يقول أن الدولة إنما هي هيئة القمع (Coercion Corporation) التي تشكلها الطبقة السائدة في المجتمع للحفاظ على امتيازاتها وعلاقات الإنتاج القائمة . نحن الماركسيين الشيوعيين وبعد عراكنا الطويل مع الدولة البورجوازية من مختلف الجنسيات لم نشعر يوماً أننا بحاجة لمعرفة المزيد عن الدولة أكثر مما عرفه ماركس ويحتاجه الدكتور عبد الجبار ليتحفنا بنظرية جديدة عن الدولة يستكمل بها ماركسيته الجديدة "الكاملة".

قدم كل منتدٍ في ندوة "ما بعد الماركسية" عذره الخاص به لتجاوز الماركسية إلى ما بعد الماركسية وكان عذر الدكتور فالح عبد الجبار أوهى الأعذار وقد دفع به إلى ما قبل الماركسية وليس إلى ما بعد الماركسية كسائر أقرانه . ولئن كان علينا أن نعلل ذلك فليس لنا ما نقول سوى أن الدكتور عبد الجبار هو الأكثر وعياً في علوم الماركسية بين المنتدين الخمسة عشر المشاركين حيث لم يوافقهم على ما أتوا به لتخليهم عن الماركسية .
لكن لماذا والدكتور فالح هو الأكثر وعياً ماركسياً يقدم العذر الأوهي !؟
قلنا هو ذلك، إذ لم يرَ فالح أعذار رفاقه في المنتدى ذات قوة كافية لتطعن في الماركسية، وتبرر تخليهم عنها . لذلك لم ينتقد فالح ما جاء به ماركس بل ما لم يجئ به . لم يكتب ماركس نظرية الدولة فاعتبر الجبار الماركسية "نظرية ناقصة" . نحن لا نستطيع أن نوافق الدكتور الجبار على أن الماركسية نظرية ناقصة إلا بعد أن يثبت أن عيباً فيها تسبب في قصور التطور الإجتماعي الموصوف في الماركسية . طالما أن الدكتور الجبار لم يثبت بل وحتى لم يشر إلى ذلك القصور فليس لنا هنا إلا أن نفترض أن انهيار المشروع اللينيني هو القصور الذي اعتمد عليه الدكتور الجبار للإدعاء بنقص النظرية الماركسية . لئن كان افتراضنا حقيقياً، ويبدو أنه كذلك، فلنا أن ننبه رفيقنا المتفقّه في علوم الماركسية إلى أنه افترض ما لا يفترض جيث أننا أمام وقائع تاريخية لم تمّحِ بعد ولا يجوز افتراض ما يخالفها ويدل على غير ما تدل .
فالدولة التي شكلها لينين حال انتفاضة أكتوبر وحتى قبل إعلان الإشتراكية برهنت عملياً أنها الدولة القادرة على حل كل المسائل الصعبة خلال عبور الإشتراكية . دولة البلاشفة تمكنت من سحق جبهات الأعداء البورجوازية والرجعية في الحرب الأهلية خلال عام واحد مارس 1918 ـ مارس 1919 ثم ما لبثت أن دخلت في حرب ضروس في مواجهة 19 جيشاً أرسلتها الدول الإمبريالية لخنق البلشفية قي مهدها كما كان يعلن وزير الحربية في الحكومة البريطانية ونستون تشيرتشل فكان أن انتصرت دولة البلاشفة على جيوش التدخل خلال عامين 1919 ـ 1921 . ما بين 1928 ـ 1941 انتقل الاتحاد السوفياتي ليكون دولة اشتراكية راسخة للعمال من خلال خطط التصنيع الكثيف الثلاث الأولى المتوالية وتحويل الزراعة الفردية المتخلفة إلى الزراعة التعاونية الحديثة . تلك هي الدولة اللينينية بقيادة ستالين التي برهنت على أنها أقوى دولة في الأرض، الدولة العملاق كما وصفها ونستون تشيرتشل، والتي تمكنت وحيدة من سحق ألمانيا النازية المعتمدة على كل الموارد المادية والبشرية في القارة الأوروبية . في العام 1949 ولدى تشكيل حلف شمال الأطلسي العدواني رد ستالين على الروح العدوانية لزعماء الأطلسي بالقول .. لن نغلبكم بالحرب بل بالمنافسة السلمية . ليس بعد كل هذا أن يدعي أحدهم بعيب في دولة لينين ـ ستالين . لينين وستالين وهما أبرز ماركسيين في صدر القرن العشرين ومؤسسا أول دولة للعمال في التاريخ لم ينقصهما آراء فيما يسمى "نظرية الدولة" لم يكتبها ماركس .
لكن لماذا انهار الاتحاد السوفياتي بعد عرضه كل هذه القوة الهائلة ؟ إنه الصراع الطبقي بعد الحرب .
العدوان الهمجي المفاجئ الذي شنه هتلر ب 180 فرقة تضم حوالي 3 ملايين جندياً مدججين بأحدث الأسلحة لم ينتهِ قبل أن يحطم معظم قوى الانتاج في الاتحاد السوفياتي ويقتل طلائعيي الحزب الشيوعي والبروليتاريا فكانت النتيجة الإخلال بالتراتب الطبقي في المجتمع السوفياتي بعد الحرب حيث وضعت دكتاتورية البروليتاريا على شفا الإنهيار إذ تقدمت الطبقة البورجوازية الوضيعة على حساب طبقة البروليتاريا . وكان أن عاد الجيش الأحمر (6.5 مليون جندياً) بعد احتلال برلين جيشاً أصفر يعادي الاشتراكية وهو الشريحة الأقوى بين الشرائح المختلفة للبورجوازية الوضيعة . تواجد ستالين وعدد من البلاشفة في قيادة الحزب كان يعادل ميزان القوى ؛ أما بعد تسميم ستالين، وإلغاء الخطة الخمسية الخامسة التي كان هدفها استعادة البروليتاريا قبضتها القوية على السلطة في العامة 1953، ثم طرد جميع البلاشفة من قبادة الحزب بانقلاب عسكري في يونيو1957 ، لم يبق ما يحول دون سقوط كامل السلطة في قبضة البورجوازية الوضيعة . الإتحاد السوفياتي لم يعد اشتراكياً منذ سبتمبر 1953 حين تقرر إلغاء الخطة الخمسية الخامسة خرقاً للنظام وللقانون، وهو الإلغاء الذي أرسى قاعدة مقاومة الاشتراكية عن طريق الإفراط في التسلح وليس السباق في التسلح كما يخطئ العامة الظن .
السطور الذهبية التي خطها ماركس وإنجلز في بيانهما الشيوعي ويهملها عامة الشيوعيين تقول .. " الشريحة الأدنى من الطبقة الوسطى، الصناعي الصغير، صاحب المتجر، الحرفي،الفلاح، جميع هؤلاء يناضلون ضد البورجوازية كيلا يفقدوا تواجدهم كشريحة من ىشرائح الطبقة الوسطى، وهم لذلك ليسوا ثوريين بل محافظين لا بل رجعيين يجهدون لإعادة عجلة التاريخ إلى الخلف . لئن ظهروا أحياناً ثوريين فما ذلك إلا لأن ثمة إمكانية لتحويلهم إلى بروليتاريا وكما لو أنهم يدافعون عن مستقبلهم" .
لم يكن هناك أدنى عيب في دولة دكتاتورية البروليتاريا قبل العام 1941 غير أن الحرب بأهوالها الفظيعة كانت قد دمرت دولة دكتاتورية البروليتاريا لتحل محلها دولة البورجوازية الوضيعة الني حذر منها ماركس وإنجلس كما في السطور الذهبية في البيان الشيوعي .
كانت قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي قد أوقفت سياسة الصراع الطبقي كي تساهم البورجوازية الوضيعة السوفياتية في الدفاع عن الوطن وسمت الحرب بالحرب الوطنية لكن الحرب أوقعت جل خسائرها على طبقة البروليتاريا السوفياتية وكان ذلك لصالح طبقة البورجوازية الوضيعة . إعلان خروشتشوف في المؤتمر العام للحزب الشيوعي الثاني والعشرين في العام 1961 ىإلغاء دولة دكتاتورية البروليتاريا لتحل محلها دولة البورجوازية الوضيعة باسم "دولة الشعب كله" تقليداً لتزوير الدولة الرأسمالية لم يكن بلا أساس في الواقع . كانت الدولة قبل الإعلان قد تحولت فعلاً إلى دولة البورجوازية الوضيعة (Petty Bourgeoisie) والتي لا يمكن أن تتحول إلى دولة رأسمالية كما يتوهم البعض . وعليه فإن الذي انهار ظاهرياً والأحرى أن بدل جلده فقط في العام 1991 هو الدولة البورجوازية "دولة الشعب كله" دولة عصابة خروشتشوف والعسكرتاريا وليس دولة لينين ـ ستالين، دولة دكتاتورية البروليتاريا . وكنت أنا نفسي في السجن عام 1963 قد أكدت للرفاق معي في السجن أن الإتحاد السوفياتي سينهار في العام 1990 لأنه لم يعد دولة اشتراكية .

كل الأحاديث التي دارت في ندوة "ما بعد الماركسية" في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن في العام 1997 حول عيوب الماركسية ما كانت لتدور بل وما كانت تلك الندوة البائسة لتعقد لو لم يشن هتلر تلك الحرب المجنونة على الاتحاد السوفياتي وظلت دولة دكتاتورية البروليتاريا تطور المجتمع الإشتراكي السوفياتي بذات الوتيرة كما في الثلاثينيات أو حتى لو لم تتواطئ عصابة خروشتشوف في قيادة الحزب مع العسكرتاريا السوفياتية على إلغاء الخطة الخمسية الخامسة في سبتمبر 1953 . وهكذا يتخلى المنتدون عن الماركسية تبعاً للحرب الهتلرية على الاتحاد السوفياتي . لا أعتقد أن هؤلاء الماركسيين سابقاً يعون أنهم بتخليهم عن الماركسية إنما هم ينتصرون لهتلر وحربه على الاتحاد السوفياتي حيث كان الهدف الأخير لهتلر والدول الإمبريالية هو "خنق البولشفية في مهدها" من خلال القضاء على أول دولة اشتراكية للعمال تستجيب لنداء ماركس للثورة الإشتراكية . وها هم هؤلاء السادة يتخلون عن الماركسية فيتحقق بذلك هدف هتلر .

يرى الدكتور فالح عبد الجبار أن الدولة هي المبتدى والمنتهى عند ماركس . هذه رؤية غير صحيحة فالبورجوازية ظلت تقيم علاقات إنتاج بورجوازية في مدن مسورة (Bourg) خاصة بها في غرب أوروبا لقرنين أو أكثر قبل أن تشكل أول دولة لها . استولى البلاشفة على السلطة في 6 نوفمبر 1917 لكنهم لم يشكلوا في 7 نوفمبر دولة دكتاتورية البروليتاريا بل دولة تقوم بوظيفة البورجوازية ؛ وتنتهي الدولة تاريخياً بعد إكتمال الشيوعية ولا تنتهي الشيوعية لدى انتهاء الدولة .
إننا ونحن نؤكد على أن الماركسية هي نظرية علمية لا تشوبها الغائية من قريب أو بعيد لكن ماركس كان يعي تماماً أن التطور الإجتماعي الذي هو في معرض اكتشاف قوانينه سيؤول قريباً إلى الإشتراكية فالشيوعية دون أن يترتب عليه أن يتوقف طويلاً أمام أداة بورجوازية تلعب دوراً معاكساً للتطور، تم وصف كل فعاليتها ودون أن يتوقف على الإطلاق أمام دولة دكتاتورية البروليتاريا . وهكذا نحن لا نتفق مع الدكتور الجبار في أن ماركس كان لديه مشروع في كتابة "نظرية الدولة" لم يكتبه .

الحق أن الدكتور فالح عبد الجبار كان أميناً مع نفسه فلم يترك قراءه في فراغ كما تركهم ماركس باعتقاده فهمَّ يكتب نظرية الدولة كيما يكمل الماركسية دون نقصان وليته ما همّ ! فقد بدأ صياغة نظرية دولته بالقول .. "لقد نشأ نظام الدول الحديثة في القرن السابع عشر وأخذ أعضاء هذا النظام يعترفون ببعضهم على نحو متبادل" . وقد أكد على هذا تفسيره لسيادة الدولة إذ يقول .. "إن القدرة على السيادة قد جاءت إلى حد بعيد من الخارج عن طريق الإتفاقيات بين الدول في مجتمع الدول الناشئ حديثاً" !! ـ مثل هذه الأقوال السطحية لا يمكن أن تصدر عن ماركسي متفقه مثا الدكتور فالح عبد الجبار .
النقص المزعوم في الماركسية أتى به فالح إليها إذ قال .. "نشأ نظام الدولة الحديثة في القرن السابع عشر .." وترك قراءه في فراغ كلي ولم يقل لماذا نشأ وكيف نشأ ! ـ ما هكذا يا فالح يورد الماركسيون إبِلَهم !! لا يمكن أن يوافقك ماركسي واحد على أن نظاماً حقوقياً جيوسياسياً واحداً استلهمه أهل العقد والحل في أوروبا الغربية في ذات الوقت وذات الإجتماع دون البحث عن أسباب ذلك الإلهام الذي يبدو بدعواك وكما لو أنه إلهام رباني !! لئن كان الأمر إعتراف متبادل بالسيادة بين الدول في معاهدة ويستفاليا (Westphalia) في العام 1648 فلماذا كانت الحروب منذ منتصف القرن السابع عشر وحتى منتصف القرن العشرين بين ذات الدول !؟ الحروب التي لم تنقطع يوماً خلال القرون الثلاثة التالية لويستفاليا إنما هي برهان قاطع على أن ظهور وصيرورة الدولة القومية ليست لأسباب خارجية كما ادّعى الدكتور الجبار .
الدول الخارجية المحيطة لا تعترف بسيادة الدولة إلا بعد أن تثبت هذه الدولة سيادتها الذاتية ضمن حدودها الجغرافية التي تحددها بداية علاقات الإنتاج والسوق . تعاون الجماعات السكانية المتعددة ودخولها في عمليات إنتاج متكاملة في السوق تخلق وحدة إقتصادية متماسكة . هذه الوحدة المتاسكة تنعكس داخل حدود جغراقية معينة وتشد الجماعات السكانية المتباينة إلى بعضها البعض لتتقارب لغوياً وبالتكوين النفسي والثقافي . وعليه تكون الوحدة الإقتصادية بسوقها الخاص بها هي الثابت والحدود الجغرافية واللغة والتكوين النفسي هي المتغير التابع . لذلك رأينا ظهور الدولة القومية مع ظهور وتقدم البورجوازية الدينامية نحو بناء النظام الرأسمالي . الدولة القومية تتأسس بذاتها وعلى ذاتها قبل أن تعترف بها الدول الخارجية وليس كما يروح الدكتور الجبار .

لا يجوز التوقف عن البحث في "نظرية الدولة" قبل أن نشير إلى أن الدولة القومية التي عُرفت مع نهوض البورجوازية الدينامية ونظامها في الإنتاج الرأسمالي خلال القرون الثلاثة الأخيرة، قد انهارت مع انهيار النظام الرأسمالي في السبعينيات وتحولت من دولة رأسمالية إلى دولة البورجوازية الوضيعة . البورجوازية الوضيعة بصورة خاصة تبيع الدولة بكل متاعها وسقط متاعها لتستهلكه في إشباع غريزتها الإستهلاكية الشرهة . حتى البورجوازية الوضيعة في الولايات المتحدة الموصوفة بالقطب الأوحد في العالم كانت قد باعت أهم عناصر سيادنها وفقدت كل غطاء لعملتها ورهنته للدول الأجنبية، للصين وللسعودية . دولة البورجوازية الوضيعة في الولايات المتحدة باعت كل متاع الدولة حنى باتت مستعمرة صينية بعد أن كانت بالأمس القريب حصن الرأسمالية الحصين .

(يتبع)