جولة في وعي الطبقات


محمد فرج
2015 / 4 / 2 - 09:49     


هذه الجولة لا تعني أن تموضعي الطبقي تغير من وقت لآخر، فلم أتعرض يوماً لا لمفاجآت الثراء السريع في أسواق المال، ولم أنجز "قصة نجاح" هوليودية كتلك التي تروى عن بائع متجول أصبح صاحب أكبر سلسلة مطاعم واحتكر نكهة من اختراعه هو، كما أنني لم أعش واعياً بما يكفي لحقب تغيرات اقتصادية جذرية كتلك التي لحقت بروسيا إبان انهيار الاتحاد السوفياتي، أو جوعاً شديداً في سوق بكر كما حدث في القطاعات التكنولوجية والمقاولات في أوائل التسعينيات في بلادنا، ولم أكن يوماً صاحب ثروة وأودى بي سوء الإدارة المالية إلى إفلاس مفاجئ وضعني في مواجهة مستوى جديد من العيش. عشت حياتي منذ اليوم الأول في عائلة متوسطة الحال، وهكذا استمر بي الحال إلى اللحظة، لذلك أنا هنا لا أتحدث عن جولة في تموضعات جديدة من وقت إلى آخر، بل أتحدث عن جولة أتاحتها لي الصدف التاريخية في مواقع العمل والاهتمامات الشخصية في لقاء الأفراد، وبناء علاقات اجتماعية قريبة منهم، أتاحت فرصة للتعرف على أنماط الطبقات المختلفة، فكل طبقة مهما حملت من استثناءات فهي تمتلك نمطاً رائجاً في أوساطها، فقاعدة أن لكل طبقة وعيها، ووعيها بمصالحها يسحب معه وعياً اجتماعياً ليست قاعدة فائتة أبداً.


سيقول قائل أن الطبقة ليست العامل الوحيد في بناء الوعي، ولربما سيتناول أمثلة تحرجني في مرجعيتي الأيديولوجية، التي أفتخر بها كأيديولوجيا معرفة ومنهج تحليل بالأساس، وهي الماركسية، أمثلة تتعلق بأحد رموز الاشتراكية العلمية، فريدريك إنجلز، أو حتى في أحد رموز الاشتراكية الطوباوبة، روبرت أوين، اللذين انتسبا إلى عائلات أرستقراطية، ولكنهما انسلخا عن وعي طبقتهما، وهنا يكمن مربط الفرس، “انسلخا عن وعي طبقتهما”، عن الاحتمالية الأوسع لاحتضانهما، ولكنهما تمكنا من تجاوزه بوعي عابر للطبقات، وهذا ما يحدث مع المثقفين الثوريين عادة على اختلاف الطبقات التي ينتمون إليها.

الوفرة في وعي الطبقات

وفرة المال تعني تعدد الخيارات، بالتأكيد تعدد الخيارات في الشراء، شراء السلع الاستهلاكية، وشراء الطبابة، وشراء التعليم. ولكن الوعي الذي تنتجه هذه الوفرة لا يتوقف عند حدود تنوع خيارات الاستهلاك، بل تتجاوزه لما هو أبعد، تتجاوزه إلى الآليات النفسية في مواجهة حالات الخسارة، فمثال الطفل المدلل يرتبط دائماً بطفل العائلة الثرية، لأن آليات مواجهته للخسارة مستندة إلى صدمة، إلى حدث غريب غير اعتيادي، وهذه الصدمة لا تتفاعل في حالات خسارة ما امتلكه (فقدان أو تلف لعبة) بل غالباً في خسارة ما يمكن تملكه قبل تملكه (شراء لعبة جديدة). والحالة في الغالب معكوسة عند أطفال الطبقات الفقيرة، فهم ينظرون بعين الفرح والدهشة للمقتنيات الجديدة، ولكنهم شديدو الغضب حيال فقدان هذه الأشياء. أبناء الطبقات الفقيرة يواجهون الخسارة الواقعية وبدلالتها اللغوية، كما هي، يواجهونها كحالة فقد لما تم الاستحواذ عليه، وأبناء الطبقات الثرية يواجهون الخسارة بمعناها الخيالي، هم يرفضون فشل تحقق الخيال واستحالته إلى واقع.

وعي الوفرة ينسحب كذلك على الحب، فشعور الوفرة عند أبناء الطبقة الثرية، هو شعور في الوفرة في الحب كذلك، وهذا يظهر جلياً في الموسيقى المفضلة لديهم التي تتناول الحب كسلعة تتمثل في شكل عينات متعددة، أما أبناء الطبقة الفقيرة والذين يفضلون الموسيقى والأغنيات التي تحمل جرعات حزن هائلة، تثير سخرية الطبقات الثرية، فهم يشعرون بالحب كحالة فردية منطلقة من مفهوم الفقد والعوز ومحدودية الخيارات.

هموم الطبقات

الفجوات في الوفرة بين الطبقات تخلق كذلك فجوات هائلة بين أبنائها في همومهم، شكوى الطبقات الثرية على مسامع أبناء الطبقة الفقيرة هي كمشاهدة أفلام تركية مدبلجة للمرة الثانية، وشكاوى الأخيرة للأولى هي مفاجآت غير متوقعة وآلام غير محسوسة، والإحسان من هذا الباب، هو ظاهرة ذاتية أكثر منها موضوعية بالنسبة لأبناء الطبقات الثرية، هو جزء من تحقيقها لذاتها.

هموم الطبقات الثرية ملتصقة بمبدأ اللذة، فهي متمحورة حول تحقيق الذات، وتتجاوز ضغوط الموضوع الاقتصادي إلى الواقع الاجتماعي والموقع فيه وكم الخدمات المعنوية التي يقدمها هذا الواقع (القبول الاجتماعي، التفوق البدني، الاستقطاب الجنسي،… إلخ). هموم الطبقات الفقيرة تصطدم بمبدأ الواقع، وأولويته الأولى هي الكسب الاقتصادي.

الطلبة المتفوقون في المدارس والجامعات من أبناء الطبقة الثرية ينظرون إلى نجاحاتهم كنتيجة معركة اجتماعية، وأبناء الطبقة الفقيرة ينظرون إليها كنتيجة معركة طبقية اقتصادية، والاستثناءات الباحثة عن المعرفة من أجل المعرقة قليلة في الطبقتين، على حد سواء.

دين الطبقات وأحلامها

دين الطبقة الثرية هو أداة ناعمة لإدامة السيطرة “ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات”، ووسيلة للتكفير عن “الآثام” التي لم يتخلص منها عقلها الآثم. فأبناء هذه الطبقة، يجدون في نمطهم الاجتماعي، الذي لا يتسق مع النص الديني، آثاماً قابلة للتكفير والتوبة، وهذا يتقاطع مع وعي الوفرة المذكور سابقاً. أما الطبقة الفقيرة فدينها هو أداتها الناعمة للتخفيف من عبء السيطرة، هو زفيرها وأنينها البديل عن الثورة الاجتماعية، و”آثامها” هي تعبيراتها الاحتجاجية في وجه الدين، وهي تمارس تلك “الآثام”، هي تنتقم من قدرها العاجزة عن الثورة عليه.

الحالات الخارجة عن حدود الدين في الطبقة الثرية متحررة منه، ولكن تلك الخارجة منه في الطبقات الفقيرة، غالباً ما تكون تعبيراً احتجاجياً عليه ينطلق من الاعتراف بوجوده.

من يقود ثورات الطبقات

كثيراً ما يقولون: “انظر إلى جيفارا أو كاسترو أو فرانز فانون أو كارلوس أو وديع حداد أو لينين أو جمال عبدالناصر أو هوغو تشافيز، الضباط الأحرار في مصر، الضباط الأحرار في العراق”، لم يكونوا، جميعاً، من طبقات مسحوقة بالمعنى الحرفي للكلمة، فلقد كانوا بالأغلب أبناء طبقات وسطى، وهذا صحيح، ولكن بمقاربة حذرة، خوفاً من الانزلاق إلى فكرة مفادها، أن المساحة المتوفرة لابن الطبقة الثرية، التي تمنحه الآفاق الأوسع للتفكر، تسمح له أن يقود الثورات. ولكن، في الأغلب والأكثر رواجاً، من يقود الثورات الشعبية هم أبناء الطبقة الوسطى المثقفين الثوريين وليس أبناء الطبقة الثرية الذين ينزعون غالباً إلى الأدب والموسيقى التي تخلو من الاشتباك اليومي والصراع التناحري الذي ينتج عنه خسارات محتملة قاسية.

المثقفون الثوريون من أبناء الطبقة الوسطى، نالوا الفرصة في الكشف عن عيوب النظام الذي يرزحون تحت نيره، ومن الداخل، وتمكنوا من مقاربة الأمثلة اليومية مع الأفكار العامة للوجود، لذلك هم الأقدر والأكثر اهتماماً بمشاريع الثورات هذه. المثقف الثوري من الطبقة الوسطى، هو عامل ومفكر في الوقت نفسه، مفكر في هموم الطبقة العاملة التي ينتمي إليها. خرج عن تردد طبقته “الطبقة الوسطى” الذي يشكل السمة الأساسية لأبناء الطبقة ذاتها، من هم خارج فئة المثقفين الثوريين من نفس الطبقة.

الطبقة الوسطى

جمهور الطبقة الوسطى يمتلك سيكولوجيا جماعية تتصف بسمات عامة متعددة، وعلى رأسها القلق الدائم من المستقبل والتردد، وهذه الصفات تتضاءل في فئة المثقفين الثوريين منهم. هذا التردد يجعل هذه الطبقة غير ثورية، مع أن مثقفيها هم قيادات هذه الثورة في الغالب.

الطبقة الوسطى تمتلك وفرة جزئية، لذلك هي تدرك الخسارة بمنظور مركب بين الطبقة الثرية والطبقة الفقيرة، وهي تمازج بين الخوف من فقدان الأشياء والرغبة في تملكها، وهي تنفصم في الحب بين “برود” و “واقعية” الطبقة الثرية، ومآسي الفقد عند الطبقة الفقيرة، وهمومها كذلك مختلطة، فهي تستنسخ هموم الطبقتين، وتواجه معركة اقتصادية طبقية ومعركة اعتراف اجتماعي في الوقت نفسه، وتبقى تتراوح بينهما. وأحلامها مزيج من أحلام الثراء وقصص النجاح وكوابيس الانزلاق إلى الطبقة المسحوقة. مع كل ذلك التردد تبقى، وبكل غرابة، المنبع الأساسي لقيادات الثورات!