عطو و هابرماس و نهاية مدرسة فرانكفورت / 10-13


حسين علوان حسين
2015 / 3 / 26 - 00:05     

مشروع هابرماس للترويج لحتمية دكتاتورية إمبراطورية الشر الإمبريالية / 3-5
التداولية الكونية (universal pragmatics)
في مقالته المعنونة : "ماهي التداولية الكونية " (1979) ، يضع هابرماس الشروط الضرورية للتوصل إلى التفاهم بين البشر من خلال تواصلهم اللغوي . تبدأ المقالة بالقول بأن التنافس بين البشر و الصراع و الأفعال الستراتيجية كلها تؤدي إلى الفشل في التوصل إلى التفاهم بسبب الالتباسات الموقفية ، أي اللبس المتبادل الحاصل في فهم مواقف المشتركين في التواصل الاجتماعي . و لهذا فإن وعي السبل المؤدية إلى التفاهم و عدم التفاهم بين البشر من شأنه التقليل من الصراع الاجتماعي . و يشرح هابرماس معنى "التوصل إلى التفاهم" بتشارك الشخصين أو أكثر من المتحادثين على الأقل في الاتفاق على نفس المعاني بصدد المفردات و العبارات المستخدمة ، و في أفضل الحالات عندما يكون هؤلاء الأشخاص واثقين من كون تلك المعاني متلائمة مع التوقعات الاجتماعية ذات الصلة ، و التي يسميها بـ "الخلفية التعاونية المعيارية المعترف بها" (mutually recognised normative background) . و الهدف من التوصل إلى الاتفاق هو : التبادل البيني (التذات) بين المتحاورين ، و المعارف المتشارك بها ، و الثقة المتبادلة ، و الاتفاق المتبادل لتقوية الأفكار التنويرية [أفكار عصر التنوير لأوربا القديمة التي هشمتها الرأسمالية و رمتها في مزبلة التاريخ] و الإجماع و النيات الحسنة الضرورية للتأسيس للمعايير الاجتماعية النافعة بين أفراد المجتمع (1979: 3) . و من ثم التنسيق الاجتماعي للفعل العملي في البحث عن الأهداف الفردية و المشتركة . و لما كانت اللغة هي الميدان للتداوليات الكونية ، فإن الأخيرة معنية بإعادة التركيب العقلاني لقواعد الأنظمة الرمزية التي يمتلكها كل ناطق بلغة ما . و الوحدة الأساسية للتحليل الهابرماسي هي أفعال الخطاب (speech acts) (1979 : 31) التي يعتبرها هابرماس محكومة بقابليتها للمصداقية التواصلية . أي أن هابرماس مهتم بدلالات الكلام قدر تعلقها بالمزاعم بصدد الحقيقة و الصحة . و من المعلوم أن أفعال الخطاب [الطلب ، السؤال ، الدعوة ، إلخ] إما أن تنجح في تحقيق الهدف المرجو منها أو تفشل (1979: 35) . و لكي يتم استخدام أفعال الخطاب لتحقيق التفاهم و الإجماع فقد اخترع هابرماس نظرية "الفعل التواصلي" (communicative action theory) (1984 ، 1987) . و لكي تشتغل هذه النظرية ، يقسم هابرماس المجتمع تحكمياً إلى مملكتين : المنظومة (system) و عالم الحياة (lifeworld) ، و يُلصِق بكل واحد منهما نوعاً متمايزاً من التواصل الاجتماعي .
يقول لنا هابرماس أن نوع التكامل الاجتماعي الذي يتحقق بواسطة المنظومة إنما يتحقق عبر التكامل الوظيفي للنتائج المتحققة للأفعال و الذي يتجاوز وعي الأفراد و لا يعتمد على توجهاتهم في الفعل المشترك . أما التكامل الاجتماعي الذي يتحقق في عالم الحياة فيستند على تنسيق خطط الفعل و التوجهات الواعية للفعل لدى الأشخاص . و الفعل التواصلي هو المسؤول عن التنسيق لعالم الحياة . كما يقسم هابرماس تحكمياً الأفعال الاجتماعية إلى أفعال ستراتيجية و أخرى تواصلية ؛ الأولى تستهدف تحقيق النجاح ، و الثانية تستهدف تحقيق التفاهم . و من خلال عملية إعادة التركيب العقلاني للبنى التوليدية العميقة للتواصل الاجتماعي يتم التوصل إلى الشروط الكونية لإمكانية تحقق التفاهم المشترك المُلزم و
القهري (compelling) . و هذا يتم بفرض الإجماع كبعد مقرر للحقيقة الاجتماعية ، الأمر الذي يتطلب من كل مشارك في الاتصال اللغوي الناجح أن يدافع عن دلالاته و بما يؤكد المزاعم الأربعة الآتية :
أن هذا المتحدث قد تلفظ بشيء قابل للتفاهم ، أو أن مقولاته مفهومه ؛
أنه قد أعطى للآخرين كلاماُ يمكن فهمه ، أو كلاماً صحيحاً ؛
أن كلامه يمكن فهمه ، أو أن مقاصده معترف بكونها مثلما هي بالفعل ؛
أنه قد توصل إلى التفاهم بصددها مع شخص آخر - أو أنهما قد استخدما الكلمات التي يتفقان عليها (1979: 4) .
هذه الشروط -يقول لنا هابرماس - هي المكونات للتداول الكوني التي يجب على كل متواصل بشري الالتزام بها في المقام المثالي للكلام الذي تم عرضه في الحلقتين السابقتين !
سأناقش الكلام أعلاه بمقارنته مع مبادئ علم اللغة التي يتجاوزها هابرماس لكونها تسقط كل مقولاته ، الواحدة تلو الأخرى ، على أن أناقس فيما بعد قيمتها الاجتماعية .

مميزات علم اللغة و قوانين اشتغالها مجتمعياَ
1. من المعلوم أن علم اللغة المعاصر (اللسانيات - linguistics) - بأقسامه كلها بلا أدنى إستثناء - هو علم وصفي (de-script-ive) تجريبي خالص ؛ و أن مبادئ هذا العلم ترفض رفضاً باتاً كل نوع من أنواع المعيارية (normative) في البحث و التحليل و الاستنتاج . و المقصود بالعلم الوصفي هو دراسة اللغة المحكية و المكتوبة بالضبط كما هي مستخدمة اجتماعياً في الزمكان ، و ليس مثلما "يجب أن تكون" حسب تصور هذا أو ذاك من الدارسين المتفذلكين غير الواعين لحقيقة كون اللغة إنما هي ظاهرة اجتماعية موروثة معطاة يستحيل فرض القوانين الذاتية التحكمية عليها من خارجها البتة . هذا هو المنهج العلمي الثابت المتبع من طرف مؤسسي علم اللغة المعاصر كافة ، ابتداء من سوسير (1857- 1913) و يسبرسن (1860-1943) و ماثيسيوس (1882-1945) ، و انتهاءً بأعظم لغوي في عصرنا هذا ، نعوم تشومسكي (المولود عام 1928) ؛ و هذا هو أول و أهم درس يتعلمه طلاب علم اللغة في كل مكان من العالم ، و بعكسه يتحول العلم الموضوعي إلى تحكمات ذاتية لا قيمة علمية لها البتة .
طيب كيف يسمح إذن هابرماس لنفسه باعتماد المعيارية في كل كلامه عن التواصل الاجتماعي و التداوليات الكونية و التي يسميها "الخلفية التعاونية المعيارية المعترف بها" (mutually recognised normative background) ؟ إن إعتماد هابرماس للمنهج المعياري في درسه يقطع بكونه لا يفهم في طبيعة اللغة نفسها ، ناهيك عن طبيعة المجتمع البشري ، و سأعود لاحقاً لمناقشة هذا الموضوع .
2. معلوم لكل دارس لعلم اللغة أنها نظام كلي للتواصل الاجتماعي يشتمل على خمسة أنظمة داخلية متظافرة للتعبير : النظام الصوتي الذي يدرس العلاقات بين الأصوات البشرية و التحقيق الصوتي للغة (و وحدته الأساسية : "الصويتة" (phoneme) ؛ النظام الصرفي الذي يدرس العلاقات بين بناء الأصوات و الرموز اللغوية ( و وحدته الأساسية : "الصرفيم" (morpheme) ؛ النظام النحوي الذي يدرس العلاقات بين الرموز (و وحدته الأساسية : "الجملة" (clause) ؛ النظام الدلالي (semantics) الذي يدرس العلاقات بين الرمز و المعنى ، النظام التواصلي (pragmatics) الإجتماعي الذي يدرس العلاقات بين الرموز و مستخدميها . و يلاحظ القارئ الكريم أن النظامين الأخيرين - الدلالي (و التواصلي - لا يمتلكان وحدة أساسية للتحليل و التركيب مثلما تمتلك الأنظمة الثلاثة الأولى لأن مدارهما هو كل النطق أو عدم النطق في الحادثة اللغوية . لماذا ؟ لأن المعنى و التواصل الاجتماعي لا يمكن "الإمساك" بهما علمياً على نحو بات ، و لا يمكن إخضاعهما لقواعد التقعيد الوصفي المضبوط . و قديماً قالت العرب : "المعنى في قلب الشاعر" .
يدرس علم اللغة التواصلي (pragmatics) الاستخدام المجتمعي للغة عبر ربط الكلام بسياقاته الاجتماعية القائمة (الزمكان ، نوع الفعالية اللغوية الحاصلة ، المشاركون في المحادثة ، نمط العلاقات القائمة بينهم و خلفياتها و مواقفهم ، نوعية قناة الاتصال المستخدمة ). هنا المعنى لا يعتمد فقط على معرفة المشاركين في الحوار بلغة المحادثة و الإحاطة بها فقط ، بل و كذلك المعرفة السابقة ببعضهم البعض و تصوراتهم عن غرض المتحدث و مدى تطابقها مع تصوراتهم و و آرائهم و قيمهم و حاجاتهم و مصالحهم ... و ذلك باستخدام كفايتهم التداولية (pragmatic competence) ، و هي أصعب و آخر ما يتعلمه الإنسان من الكفايات اللغوية في مجتمعه . كما تتحكم قواعد السلوك الاجتماعي السائدة في كل مجتمع من المجتمعات بها على نحو لازب . و من المعلوم أن هذه القواعد تختلف عبر المجتمعات ، و هو ما يعني عدم وجود قواعد تداولية عالمية البتة ، بلً و انتفاء إمكانية وجودها مطلقاً عكس ما يحاول هابرماس أيهامنا به .
و لإعطاء أمثلة عملية على تباين قواعد السلوك التداولي بين المجتمعات المختلفة ، لنقارن ببساطة العلاقات النموذجية القائمة بين المتحاورين العرب مع بعضهم البعض ، و المتحاورين الأنجلوسكسون . من المعلوم أن أحد أهم وظائف علم اللغة التداولي هو كيفية إدامة الصلات الاجتماعية بين المتحدثين المعارف . عند العرب ، هذه العملية تتم من خلال استعمال أعراف علاقة التضامن و التقارب بين المتحدثين (solidarity and nearness) ، لذا نراهم يتعانقون و يقبّلون بعضهم البعض ، و يجلسون في المحادثة قرب بعضهم البعض أو حتى متلاصقين ، و يستخدمون ألفاظ التشريف و أهلاً و سهلاً و مرحباً و زارتنا البركة و و آنستم و شرفتم و أنا مشتاق ، و أنا أسأل عنكم و انتم لا تسألون عنا ، و أنا زعلان منكم و واخد بخطري ووو ، مع الإلحاف في السؤال عن الصحة و العافية و عن الأهل و شكو ماكو ، إلخ . هذه العلاقة هي علاقة تضامن و تقارب مكاني ، و هي ، بحكم العُرف السائد ، ضرورية جداً لإدامة و تطوير العلاقات الاجتماعية البينية (التذات) في المجتمعات العربية ، مع وجود اختلافات مناطقية واضحة .
أما في المجتمع الأنجلوسكسوني ، فإن التقارب المكاني بين المتحادثين ممنوع بحكم العادة التواصلية القائمة اجتماعياً . كل متحدث - بدون وعي منه - يحتفظ بمسافة (distance) معينة تبعده عن رسيله المقابل ، و لا يعانق الصديق صديقه و لا يقبّلان بعضهما و لا يمشيان متشابكي الأيدي ، و لا يلحفان في السؤال عن الصحة و الأحوال و الأهل ، و لا يبالغان في استخدام عبارات التبجيل و التهليل و الترحيب و الاشتياق . العرف الاجتماعي السائد الذي يحكم هذه العلاقة هو الاحتفاظ بمسافة فاصلة محددة بين المتحادثين و التي يعتبر تجاوز أحدهما لها هو الخط الأحمر للتجاوز المنبوذ اجتماعياً على خصوصية الآخر ، مع وجوب تجنب ما يعتبر أنه كلام زائد و لا محل له في الحوار . و لذلك فإن العربي يعتبر الأنجلوسكسوني شخصاً بارداً و غير متعاطف ، بل و حتى "شايل خشمه دوم" ؛ في حين يعتبر الأخير المحادث العربي شخصاً متجاوزاً و مبالغاً في فرض نفسه على الآخرين و مفرطاً في تكرار الكلام و الخوض في الخصوصيات التي لا تعنيه . و هذا يعني أن ما يديم الأواصر الاجتماعية لغوياً عند العرب ، يدمِّرها عند الأنجلوسكسون .
المثال الواضح الآخر للتباين في الأعراف الاجتماعية يتمثل بإمكانية قيام المحادِثَين العربيين الندين بإصدار الأوامر و النواهي لبعضيهما بلغة مباشرة (كُلْ ، قُمْ ، نَمْ ، أعطني كذا ، قل لي ، أذهب ، تعال .. لا تقل ، لا تأت .. ) ، بلا "لطفاً" و لا تخفيف استفهامي أو رجاء ؛ و كذلك استخدام التوكيد المباشر لأفعال الإبلاغ للشخص الثاني : "أقول لك كذا ، قلت لك هذا" . و لكن مثل هذا التصرفات التداولية يعتبر فظة لدى الأنجلوسكسون . و هذا يعني أن نفس الستراتيجية التداولية التي تيسر تنفيذ الطلب أو الإبلاغ العربي إنما تعمل على تعسيره أو حتى إلغائه أو إثارة حفيظة المقابل لدى الأنجلوسكسون ، و بالتالي فشل عملية التواصل التداولي في تحقيق مبتغياتها المرجوة .
3. يتضح مما سبق أن كل لغة هي بمثابة النظام المشتمل على خمسة أنظمة داخلية . نصل الآن إلى السؤال عن أهم حقيقة لغوية يحتاج أن يدركها كل دارس للغة : ما مدى دقة هذا النظام ؟ هل هو ، مثلاً ، بدقة أنظمة القوانين للعلوم الطبيعية ؟ الجواب الواضح هو أن النظام لكل لغة هو نظام ليس قاطع التحديد (ill-defined system) ، لكون اللغة ، ببساطة ، هي ليست أبداُ أحد العلوم الصرفة ، و يستحيل لها أن تكون كذلك . يمكن لعالم اللغة أن يُقعِّد بهذا القدر من الدقة أو ذاك الوصف العلمي للنظام الصوتي و الصرفي و المعجمي و النحوي للغة ؛ أما أبعد من هذا فيتعثر الوصف الدقيق . و لما كان الجميع يعلمون بأن اللغة هي ليست صوت و صرف و معجم و نحو ، و إنما هي الأداة للتواصل الاجتماعي ؛ إذن فمن المتعذر الضبط و التقييس للنظام الدلالي و التواصلي للغة لكونه غير محدد ، و ما هو غير محدد يستحيل عليه إنتاج ما يراد له أن يكون محدداً ، و لهذا تضطر الرياضيات لاستخدام لغة الأرقام و الرموز و ليس الكلمات و الجمل للتثبت من الدقة . و هذا يعني أن كل مزاعم هابرماس حول وجود تداوليات كونية هو كلام غير صحيح تنفيه مئات الدراسات في أنثروبولوجيا اللغة نفسها التي تقر بالاختلافات بين اللغات في حقل التداول و بالتالي انتفاء إمكانية التحدث عن كونيات تداولية .
4. و علاوة على كل هذا ، فإن الوقائع التاريخية تقطع بأن كل لغة هي ليست نظاماً سكونياً ثابتاً (ستاتياً) ، بل هي نظام متحرك و دائم التغير مع حركة النظام الاجتماعي للناطقين بها . ما ذا يعني هذا ؟ هذا يعني أن كل لغة هي نظام دينامي مغلق اجتماعياً لا يتغير من "خارج" العادات اللغوية للمجموعة البشرية الناطقة به . لذا ، فأن تغير العادات اللغوية لدى الناطقين بالماندرينية لا يستتبع حصول تغير مماثل في العادات اللغوية للناطقين بالفرنسية ، مثلاً ، لكون كل لغة لها نظامها الخاص الذي تستقل به . طبعاً هذا لا يعني أن اللغات لا تتلاقح بينياً ، و لكنه يعني أن كل لغة تحتفظ بمميزاتها الخاصة بها ، و لا تتحول إلى "لغة أخرى" ، فالفرنسية تبقى فرنسية و لا تصبح عربية ، و العكس صحيح ، و هذا ينطبق على كل اللغات . قد يمكن أن يؤدي الأثر و التأثير الجيوسياسي بين العربية و الفرنسية إلى ظهور مجموعة ناطقة بلغة "فرنسوعربية" ، مثلاً ، فتصبح بذا لغة مستقلة بحد ذاتها عن الفرنسية و العربية ، كلتيهما ، مثلما هو حاصل في اللغة السواحيلية الأفريقية (مزيج من العربية و البانتو) و توك بيسين (مزيج من الإنجليزية و الكوانا و الملاوية ) لغة بابوا غينيا الجديدة .
هذه الحقائق العلمية توضح أن النظام التداولي في اللغة مطبوع بطابع المجتمع المتحدث بها ، و هو متباين بين مجتمع و آخر كتباين اللغات بين المجتمعات ، و أن كل لغة لديها نظامها التداولي الخاص الموروث و المميز لمجتمع المتحدثين بها . و كل هذا يعني أن الثرثرة الهابرماسية بصدد "التداوليات الكونية" لا محل لها على أرض الواقع : لا في اللغات ، و لا في المجتمعات .
و يلاحظ أن هابرماس يتحدث عن الكونيات التداولية على نحو ممطلَق خارج إطار الزمكان ، و هو -على حد معرفتي المتواضعة - أحد المفكرين القلائل الذين يضفون على أفكارهم - مثل الكتب المقدسة - شرعية أبدية صالحة للبشرية أجمع في كل زمان و مكان دون أن يكلف نفسه قيد شعرة تطبيق منهجه على نظرياته نفسها بصدد تحقق الإجماع بصددها و التوصل إلى تفاهم مشترك عالمياً بخصوصها و الشروط الحتمية الأربعة المطلوبة قسراً و إكراهاً من كل المتحاورين اجتماعياً . من هو الحتمي و الدوغماتي و الذي ينسب لنفسه كلية الصحة : هابرماس و هشام عمر النور و وليد يوسف عطو أم ماركس و أنجلز ؟ رمتني بدائها و أنسلت .
مصدر مفهوم "المقام المثالي للكلام" و "التواصلية الكونية"
سبق و أن أوضحت بأن علم اللغة المعاصر (اللسانيات : linguistics) بدأ أولى خطواته في العقد الثاني من القرن العشرين ، ليحقق طوال القرن الماضي قفزات كمية ونوعية غير مسبوقة ، فتأسست له عدة مدارس متميزة مثل مدرسة براغ و كوبنهاغن ولندن و شيكاغو و ييل و نيوجرزي ، إلخ ، و تفرعت له عشرات التخصصات البينية الدقيقة مثل علم اللغة الاجتماعي و النفسي و المعرفي و الوظيفي و العدلي و التحويلي و الفلسفي . و ما يهمنا في سياق الكلام عن هابرماس هو نقله الفاشل للمفاهيم من المدرستين الأخيرتين : النحو التحويلي التوليدي (TGG) و فلاسفة اللغة الاعتيادية (ordinary language philosophers) .

بما أن هابرماس غير متخصص في علم اللغة ، لذا فقد استعار من مدرسة النحو التوليدي التحويلي لنعوم تشومسكي مفهومي : "المتكلم- السامع المثالي" (ideal speaker-hearer) و النحو الكوني (Universal Grammar) بترحيلهما من علم اللغة و لصقهما بميدان التداول الاجتماعي اعتباطا ، ليسميهما بالمقام المثالي للكلام (Ideal Speech Situation) و التداول الكوني (Universal Pragmatics) ، على التوالي . و في الوقت الذي نجد فيه أن هذين المفهومين يرسوان على أرضية تجريبية و واقعية صلدة و قابلة لإعادة التحقق فيكتسبان منها وظيفة بنيوية ملاصقة لمبادئ المدرسة التشومسكية ، إلا أنهما نجدهما ينقلبان إلى مفهومين مثاليين معلقين في الهواء في الدرس الهابرماسي .
مفهوم النحو الكوني
يعود هذا المفهوم اصلاً إلى مدرسة النحو الفرنسية "بورت رويال" التي أصدرت عام 1660 كتاب (Port-Royal Grammar) من تأليف "أنطوان آرنو" و "كلود لانسلو" المستند على المنطق الديكارتي و القائل بأن اللغة هي سيرورات عقلية ، و لما كان لكل البشر عقول ، إذن فإن اللغة كونية بالنسبة للبشر جميعاً ، و أن العقل البشري حائز على النحو العالمي .
استعار عالم اللغة الكبير نعوم تشومسكي هذا المفهوم و طبقه تجريبياً على منهجه العلمي في دراسة اللغة لما سيعرف بعدئذ بالثورة التشومسكية في علم اللغة (1957-1968) . و على العكس من هابرماس (الذي يحتقر العلم و البحث التجريبي و يستبدله بالتزوير الآيديولوجي الذاتي بعيداً عن التذات و الإجماع و التفاهم الذي يتبجح به ، و لهذا نجد أن الأستاذ وليد يوسف عطو و أستاذه السوداني المحترمين لا يستحيان من تعيير الماركسية بسبب علميتها لكون البحث العلمي عندهما ينقلب إلى سُبّة و ليس مأثرة و مفخرة) فإن النظرية التشومسكية تستند على أرض تجريبية صلبة و على الوقائع الملموسة . لاحظ تشومسكي حقيقة أن كل البشر الأصحاء يكتسبون لغاتهم الأم بيسر فائق في مرحلة الطفولة ، و هو ما يعني وجود "جهاز اكتساب اللغة" (language acquisition device) لديهم جميعاً . كما لاحظ أن كل طفل ناطق باللغة قادر على استخراج جمل جديدة مبتكرة لم يسبق له أن سمعها قط . السؤال هو : كيف يتسنى للطفل إخراج مثل هذه الجمل المبتكرة و التي لم يسمعها أبداً من قبل في ضوء أن المتوقع هو أن تكون المخرجات الصادرة من جهاز اكتساب اللغة البشري مطابقة للمدخلات الواردة إليه ما دام فاقد الشيء لا يعطيه ؟ في علم اللغة ، هذه المشكلة تسمى بمشكلة العجز في المدخلات (input deficit) للمعرفة اللغوية ، و هي تنطبق على كل طفل ناطق في العالم . لتفسير هذا الواقع الملموس ، افترض تشومسكي أن كل إنسان يولد و عقله مجهز مسبقاً ببرنامج لغوي معرفي موروث هو "النحو الكوني" الذي يفسر لنا واقع المقدرة اللغوية المدهشة عند الأطفال في استخراج الجمل المبتكرة و التي لم يسبق لهم سماعها من قبل . و بالتالي فإن من واجب العالم اللغوي اكتشاف المكونات الأساسية لهذا النحو الكوني الذي يمكن تطبيقه في تحليل و توليد الجمل في كل لغات العالم طراً . و قد قطعت المدرسة التشومسكية أشواطاً شاسعة و حققت منجزات كبيرة في هذا المضمار . و لما كان هذا النحو صاف من الأخطاء و من التردد و من عثرات اللسان التي يمكن حصولها في الكلام ، لذا فإنه يفترض وجود المتكلم-السامع المثالي للغة ، و يتطلب إكساب البيانات اللغوية (أي الجُمَل للغة ما ) الطابع المثالي في الدقة النحوية .
يتبع ، لطفاً .

مصادر مختارة
Habermas, Jürgen (1976)."What is universal pragmatics?" p. 21
Cooke, M (1994). Language and Reason: A Study in Habermas s Pragmatics. Cambridge, MA: MIT Press.
Habermas, Jürgen (1979). Communication and the Evolution of Society. Toronto: Beacon Press.
Habermas, Jürgen (1987). The Theory of Communicative Action, Vol 2: Lifeworld and System: A Critique of --function--alist Reason. T. McCarthy. Boston: Beacon Press.
Habermas, Jürgen--;-- C. Lenhardt--;-- S. Nicholsen (1990). Moral Consciousness and Communicative Action. Cambridge, MA: MIT Press.
Habermas, Jürgen--;-- C. Lenhardt--;-- S. Nicholsen (1990a). "Philosophy as Stand-in Interpreter". Moral Consciousness and Communicative Action. Cambridge, MA: MIT Press. pp. 1–21.
Habermas, Jürgen--;-- C. Lenhardt--;-- S. Nicholsen (1990b). "Reconstruction and Interpretation in the Social Sciences". Moral Consciousness and Communicative Action. Cambridge, MA: MIT Press. pp. 21–43.
Habermas, Jürgen (1992). Themes in Post-Metaphysical Thinking: Philosophical Essays. W. Hohengarten. Cambridge, MA: MIT Press. pp. 28–57.