ليس للماركسية ما قبلها أو ما بعدها (6)


فؤاد النمري
2015 / 3 / 23 - 20:59     

ما الذي أتى بإرنستو لكلاو (Ernesto Laclau) إلى ندوة "ما بعد الماركسية" وهو لم يكن يوماً ماركسياً، لماذا أوتيَ بلكلاو ولم يؤتَ بفوكوياما (Francis Fukuyama) والرجل يتحدث حديث فوكوياما عما يسمى ب "الهيمنة" وهي المحور الذي تدور حولة العملية السياسية كما يقول .. " أقدم أدناه طائفة من التأملات تدور حول مقولة الهيمنة فهذا المفهوم، في نظري، هو المقولة المركزية في فهم السياسة " .
لكلاو، التلميذ الأمين لفوكوياما ينكر كل علاقة للسياسة بالصراع الطبقي وبعلاقات الإنتاج ولكأن الناس لا تتنازع لقمة العيش بل السطوة والهيمنة . لكلاو يقول لنا أن دالة النظام الاجتماعي التي تدل على طبيعة الدولة دالة فارغة ! السياسة شيء والنظام الإجتماعي شيء آخر . فيلسوف القرن الحادي والعشرين، لكلاو، يستقي أفكارة من فلسفة هوبز التي تعود للقرن السادس عشر حين كانت الرأسمالية الميركانتالية ما زالت يافعة وكذلك المدن البورجواوية، واتحادات المهنيين [Guilds] لم تكن قد ظهرت بقوة بعد لتعكس الصراع الطبقي بجلاء تام . لكلاو ينقل عن هوبز أن الدولة (Leviathan) تتشكل بفعل غريزة الهيمنة لدى الأفراد والتي بدورها تفرض النظام الاجتماعي المناسب لها .
يزعم السيد لكلاو أن الإشتراكية لن يحققها العمال بل أناس حالمون بحسنات الإشتراكية ؛ تلك هي التاريخانية المنفصلة كلياً عن المادية الديالكتيكية التي يباهي بها الماركسيون . واعتبر جان بول سارتر (Jean-Paul Sartre) رؤية إنجلز بأن العمليات التاريخية محكومة بقوانين التاريخ مثلما أن الجسيمات محكومة بقوانين الطبيعة إنما هي تحريف وتسفيه للسياسة . ماركس فسر التاريخ على أنه ملحمة الصراع الطبقي ؛ فكيف يفسره سارتر ؟ ـ الذين يقولون أن التاريخ تكتبه رغبات الناس ضمن الظروف القائمة، على هؤلاء القوم أن يبينوا الصفة العامة لتلك الرغبات وبواعثها، لماذا ترغب الأمة في حرف مسار تاريخها إلى الشمال أو إلى الجنوب عدداً معلوماً من الدرجات ؟ وكيف تتفق الأمة أم غالبية الأمة على المسار المحدد الجديد ؟ ليس من إجابة على هذه الأسئلة إلا وتدحض مثل هذه الإفتراضات السقيمة . ليس هناك فرد واحد في الأمة لديه رغبة معينة لا تتصل بتطوير وسائل الإنتاج والنجاح في أعمال الإنتاج . ولما كان العمل مقسم في المجتمعات الطبقية فذلك يعني أن تطوير وسائل الإنتاج لا يتم إلا من خلال الصراع الطبقي . عجلة الإنتاج يديرها الصراع الطبقي في مسار محدد تحدده شروط الإنتاج التي لا خيار للإنسان في توجيهها أو تحديدها . العلاقة الديالكتيكية بين أدوات الإنتاج من جهة والإنسان من جهة أخرى هي التي تحدد مستوى التطور في الإتسان وفي الآلة كليهما . من هنا ينحصر نشاط الإنسان بمختلف أشكاله في الآلة أداة إنتاجه . لئن كان لدى الإنسان أي نزوع للسيطرة والهيمنه كما يتحدث فوكوياما ولكلاو فهو نزوع للسيطرة على الآلة التي تؤمن له الحياة وبقاء النوع .
السياسة وحالما يتبناها سارتر ولكلاو، وكما يعرضانها، تغدو فوق الطبيعة ولا تؤثر فيها قوانين الطبيعة فلا يذكران أية أسباب لذلك أكثر من تبنيهما للسياسة وممارستها . هذان الفيلسوفان السياسيان يريان أن الوعي البشري المتمثل بالسياسة ولدته الطبيعة نفسها أصلاً لتعطيل أفعالها وقوانينها، وكما لو أن الطبيعة تنتحر (!!) وهو أمر غير محتمل على الإطلاق إلا إذا كان لدى الطبيعة وعي كيما يكون لديها القدرة لتعمل ضد نفسها وتعطل عن قصد فعلها وقوانينها .
هؤلاء القوم الذين يصرون على أن الإيديولوجيا تتدخل في تقرير مستقبل الإنسانية ليسوا بلا مقاصد وهو ما يفسد دعواهم . مقاصدهم تتركز في دحض المادية الديالكتيكية وهي الأساس الذي تقوم عليه كامل عمارة الماركسية والماركسية كما هو معروف تحتم الانتقال للإشتراكية والعبور إلى الشيوعية وهو ما يفقد البورجوازية الوضيعة صوابها حين ترى أنها بذلك سوف تنحدر لمستوى البروليتاريا دون أن تعلم أن البروليتاريا في الإشتراكية لم تعد بروليتاريا بالمعنى الدقيق للكلمة فإنتاجها لم يعد غريباً عليها ولم تعد طبقة مأجورة بل غدت طبقة سيدة حاكمة أرقى نوعاً من طبقة البورجوازية الوضيعة ؛ كما أنها لا تعلم أن دولة دكتاتورية البروليناريا لا تمحو البورجوازية الوضيعة إلا لترقيتها وتطهيرها من طبيعتها الطفيلية .
يصدمنا لكلاو بمفاخرته بالإستدلال على أنه ليس هناك من رابط بين السياسة وطبيعة السلطة ؛ وكي يثبت ذلك يعود بنا إلى إيطاليا في بداية عشرينات القرن الماضي ليدعي أن .. " فكرة الإصلاح الجذري، الراديكالية، القطيعة مع الماضي كانت جزءاً لا يتجزأ من الخيال الجماعي " لشعب إيطاليا . في ليلة صيف قائض حلم الإيطاليون حلما سياسياً يدور حول "الإصلاح السياسي والدستوري" فكان أن حقق الحلم الفاشيون وليس الشيوعيين والأمر كان سيّان لدى الإيطاليين . بمثل هذا الطراز الطفولي الوضيع تكتب البورجوازية الوضيعة التاريخ !! الأزمة في الخيال وليست في الواقع !! والأزمة تتعلق فقط بالإصلاح السياسي والدستوري !! الفاشيون كانوا السباقين لخدمة الأمة وتقديراً لذلك إنضوى أغلب الإيطاليين للمنظمات الفاشية !! ـ الحق أن لكلاو لو لم يتطرق بطفولية فريدة إلى أهم مفصل في تاريخ إيطاليا لصدقنا أن مستقبلاً في عالم الفلسفة الميتافيزيقية ينتظره .
حقيقة الوضع في إيطاليا لم يكن قريباً من الصورة الفنتازية في مخيلة لكلاو . كان كارل ماركس قد توقع في العا 1882 أن تقدح شرارة الثورة الاشتراكية في روسيا فتشتعل الثورة في مراكز الرأسمالية في أوروبا الغربية . البلاشفة إنتفضوا في أكتوبر 1917 لاستكمال الثورة البورجوازية في فبراير من نفس السنة بعد أن تنكرت الحكومة البورجوازية المؤقتة لمطالب الثورة وأصبحت الجيوش الألمانية على أبواب موسكو وبطرسبورغ لكنهم واجهوا حرب إبادة من قبل البورجوازية الروسية فكان نتيجة الحرب المصيرية أن قدحت شرارة الثورة الإشتراكية في روسيا وتوقع لينين أن تشتعل الثورة في غرب أوروبا الرأسمالي المتطور كما كانت إحدى فرضيات ماركس وإنجلز، إفترضاها في العام 1882 في مقدمة البيان الشيوعي باللغة الروسية . وفعلا اشتعلت الثورة في ألمانيا وفي هنغاريا وفي لتوانيا من دول البلطيق إلا أن الفقر في الوعي لقادة تلك الثورات من جهة وقوى الرجعية الكبيرة المقابلة من جهة أخرى أخمِدت تلك الثورات الثلاث وحل محلها سلطات رجعية قمعية شارك فيها موئل خيانة الطبقة العاملة التاريخي الحزب الاشتراكي الديموقراطي في ألمانيا، حزب كاوتسكي وبيرنشتاين . الطبقة العاملة في إيطاليا لم تحذُ حذو العمال في ألمانيا وهنغاريا فهناك أخذ العمال ينضوون إلى مجالس سوفياتية تشرف على مراكز الإتتاج حتى كان في العام 1921 معظم إنتاج إيطاليا يعود إلى مراكز الإنتاج تحت إشراف السوفيتات، حتى أن فترة السنتين 1919 – 1921 أخذت إسماً خاصاً في تاريخ إيطاليا وهو [Biennio Rosso] أي (السنتان الحمراوان) حيث سيطر الشيوعيون على معظم المدن الصناعية بل وامتد نفوذهم بين الفلاحين في سهول البو الزراعية في الشمال .
خلال الحرب العالمية الأولى عمل بنيتو مسوليني (Benito Mussoini) عميلاً للمخابرات البريطانية المعروفة بأعمالها القذرة وكانت تدفع له مائة جنيهاً إسترلينياً أسبوعياً كما كشفت الدراسات في جامعة كمبرج . بعد نهاية الحرب في العام 1919 طلبت المخابرات البريطانية من عميلها مسوليني أن يشكل الحزب الفاشي لمقاومة الشيوعية . ولما باتت الثورة الإشتراكية حقيقة واقعة في إيطاليا وأثارت الرعب في الطبقة البورجوازية الوضيعة طلبت المخابرات البريطانية باتفاق مع ملك إيطاليا من عميلها مسوليني أن ينظم في أكتوبر 1922 مسيرة فاشية مسلحة لاحتلال روما . ولما وصلت عصابات القمصان السود الفاشية أطراف روما طلب رئيس الوزراء من الجيش حماية روما من الفاشيين إلا أن الملك المتواطئ مع المخابرات البريطانية لم يوافق على الطلب كما يقضي الدستور فقط بل استدعى بنيتو مسوليني إلى قصره وكلفه بتشكيل الوزارة قبل أن تدخل عصابات الفاشيين روما رغم أن الفاشيين كانوا أقلية في البرلمان . بعدئذٍ دخل الفاشيون روما وأشاعوا الذعر فيها وفي سائر المدن الإيطالية وكان ما كان .
المؤامرة التي قامت بها المخابرات البريطانية بالتعاون مع الفاشيين الإيطاليين ضد شعب إيطاليا وقواه التقدمية، هذه المؤامرة التاريخية الدنيئة هي التي حكمت موقف لكلاو السياسي من الماركسية ظناً منه أن كل ما جرى في إيطاليا آتذاك اقتصر على تشوّق الشعب في إيطاليا إلى "إصلاح" سياسي ودستوري، بل راح يفاخر بظنونه الآثمة تلك باعتبار أن المخابرات البريطانية لم تتدخل في إيطاليا وأن الفاشيين فعلوا ما فعلوا من أجل "الهيمنة" زتحقيقاً لأخلام الشعب وليس تنفيذاً لمخططات المخابرات البريطانية . هذا أقوى ما حاجج به البروفيسور آرنستو لكلاو وفند به الماركسية !!

الفيلسوف لكلاو لا يفهم معنى الحرية . هو يقول وجود السلطة هو شرط لوجود الحرية . هذا صحيح وفقاً لقانون وحدة الأضداد في المادية الديالكتيكية، لكن لكلاو لا يوافق على قانون "نفي النفي" الذي بدونه لا يستقيم قانون وحدة الأضداد ، السلطة والحرية . قانون نفي النفي يقول غياب أحد النقيضين يعني غياب النقيض الآخر، وهو ما يعني غياب السلطة يتحقق فقط بفعل غياب الحرية والعكس هو الصحيح أيضاً . لكلاو يرفض هذا القانون لأنه لا يدرك معنى الحرية !! هو يعرف أن الحرية تتمثل في المعارضة، معارضة منطق الأشياء ؛ فالموافقة على منطق الأشياء لا تعني للكلاو ممارسة الحرية . بهذا الفهم لمعنى الحرية سيجد لكلاو نفسه ينادي بالحرية لأعداء الحرية، أعداء من يعون الضرورة، وليس بلا معنى أن يعبر لكلاو عن كراهيته وبغضه لحرية وعي الضرورة، وهو وعي القوى التقدمية .
ما يحسن بلكلاو أن يعيه هو أن السلطة تضمحل نهائياً في المجتمع الشيوعي وعندئذٍ لا يشعر المرء بأي حاجة للحرية حتى ولا حرية وعي الضرورة التي يبغضها لكلاو . ومن المفيد دائماً أن تُعرّف الحرية التي يجهلها الخاصة أكثر من العامة . فطالما أن أنسنة الإنسان تتحقق فقط من خلال العلاقة الديالكتيكية المطردة بين الإنسان وأدوات الإنتاج فالحرية تعني تحديدا التحرير التام لعلاقة الإنسان بأدوات الإنتاج، تحريرها من كل العقبات والمعوقات وهو ما سيتم في المجتمع الشيوعي فقط وحينذاك لن يجد الإنسان كلمة الحرية في قاموس اللغة .

يعود ارنستو لكلاو ليتحدث عن "دالته الفارغة" أي فراغ كل ارتباط بين الدولة وعلاقات الإنتاج ويمثل على ذلك إستيلاء البلاشفة على السلطة بحجة استكمال الثورة البورجوازية الأمر الذي يستهجنه لكلاو بحجة "الدالة الفارغة" . ما الذي حدا بلكلاو إلى الإستهجان ؟ ما حدا به هو جهله بالتاريخ السوفياتي . لم يخلّ البلاشفة بتعهدهم استكمال الثورة البورجوازية، من أخلّ هو البورجوازية نفسها . في صبيحة الإنتفاضة 7 نوفمبر 1917 دعا لينين كافة الأحزاب البورجوازية للإشتراك في حكومته لكنها رفضت الدعوة لأسبابها الخاصة وربما لتحسبها من "الدالة الفارغة" باستثناء الحزب الاشتراكي اليساري . وكانت المراسيم الأولى التي أصدرتها حكومة البلاشفة مرسوم الأرض ومرسوم السلام تحقيقاً لبرنامج الثورة البورجوازية مع أن توزيع الأراضي على فقراء الفلاحين هو إجراء يتعارض مع روح الإشتراكية كما أكّد لينين . في مارس 1918 وبحجة معارضتها لمعاهدة السلام مع ألمانيا (Brest-Litovsk) أعلنت البورجوازية حرب إبادة على البلاشفة ـ وقد وفّر للبورجوازية تلك الحجة معارضة تروتسكي للمعاهدة ومحاولته الإنقلاب على لينين . لعام كامل طافح بالدماء سحق البلاشفة كل قائمة للبورجوازية وكان ذلك نهاية فترة الديوقراطية البورجوازية وإعلان الثورة الإشتراكية العالمية . البورجوازية الروسية اعتمدت مقولة "الدالة الفارغة" فكانت نهايتها التاريخية .

بالرغم من أن أساتذة الجامعات الخمسة عشر المجتمعين في جامعة لندن للبحث في "أزمة الماركسية" يفرضون علينا كل الإحترام إلا أننا لا نسنطيع مع ذلك إلا أن نذلق الماء البارد على وجوههم . فالأساتذة العلماء اجتمعوا لينظروا فيما احتسبوه أزمة في الماركسية بينما الحقيقة التي يعمى أو يتعامى عنها هؤلاء الأساتذة هو أن انهيار الاتحاد السوفياتي كان برهانا قاطعاً على صدقية وصحة الماركسية المطلقة وليس على أزمتها . ما انهار في النصف الثاني من القرن المنصرم هو السياسات المعارضة للنهج الماركسي اللينيني . في الحرب وحماية العالم من غول النازية ثبت أن الإتحاد السوفياتي هو المارد بعين نشيرتشل نفسه والدول الرأسمالية الكبرى مجرد أقزام . وفيما بعد الحرب نجح الاتحاد السوفياتي في إعادة إعمار ما دمرته الحرب وكان أضعاف ما لحق بأوروبا الغربية من دمار خلال خمس سنوات فقط في حين لم تنجح بريطانيا وفرنسا وألمانيا في ذلك خلال عشر سنوات رغم المساعدات الأميركية الهائلة . تبعاً لجبروت الاتحاد السوفياتي انطلقت ثورة التحرر الوطني في العالم كله وهو ما انتهى إلى انهيار النظام الرأسمالي الإمبريالي في السبعينيات. في العام 1950 أخذت القيادة السوفياتية تبحث في الإجراءات الثورية الكفيلة بتطوير الاشتراكية وفي العام 1952 أقر الحزب الشيوعي السوفياتي الخطة الخماسية الخامسة الكفيلة بنقل الاتحاد السوفياتي لعالم آخر، عالم الوفرة ورغد العيش .
رحيل ستالين (أو ترحيله) في مارس 1953 سمح للعسكرتاريا السوفياتية أن تنقلب على الإشتراكية وعلى الحزب فكان أكثر من انقلاب عسكري وانحراف بالقوة من مثل إلغاء عضوية 12 عضواً جديداً في المكتب السياسي في 6 مارس 53، وإلغاء الخطة الخمسية الخامسة في سبتمبر 53 ، وطرد جميع البلاشفة (7 أعضاء من مجموع 11 عضواً) من قيادة الحزب بانقلاب عسكري في يونيو 57 ، وقف سياسة الصراع الطبقي 59، إلغاء دكتاتورية البروليتاريا 61، وأخيراً إنقلاب عسكري وطرد خروشتشوف في أكتوبر 64 . جميع هذه الأعمال كانت خلافاً للنظام وللقانون وللدستور .
كيف لنا أن نصدق تخرصات المنتدين في ندوة "أزمة الماركسية" وهم لم يروا الانقلابات الكبيرة ضد الماركسية والحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي !!؟ لم يبقَ حرف واحد من الماركسية في الإتحاد السوفياتي بعد الخمسينيات لتتأزم، فما الذي دها فلاسفة تلك الندوة الجهولة !؟

(يتبع)