بذورالإشتراكية - البابا ينتقد الرأسمالية المتوحشة ، ويطالب بإنقاذ الأمور الجيدة في الشيو عية


صادق البلادي
2015 / 3 / 22 - 22:08     

عند أنهيار جدار برلين ارتفعت الأصوات وتصاعد الضجيج معلنة نهاية التاريخ وأن الرأسمالية انتصرت الإنتصار الحاسم ، الظافر، وأن لابديل لإقتصاد السوق، وأن مفاهيم دولة الرفاه ، واقتصاد السوق الإجتماعي ، ودولة الخدمات قد انتهى دورها وسقطت أيضا، وأن قوانين السوق وحدها ستتحكم في تسيير الأمور ، وأن الإقتصاد الجديد الذي استولى بسرعة خارقة على العالم سيجلب رفاها لا مثيل له في العالم، كما صرح كلينتون من سياتل.
ولكن حتى في تلك الفترة ، التي شهدت نكوص عديدين عن الإشتراكية والماركسية ، وباتوا يتحاشون حتى مصطلحاتها ، ويبدلونها بأخرى ، لم يعدم العالم بعض الشخصيات التي نظرت الى الأمور من وجهة إنسانية ، رغم عدائها للشيوعية، ومن بينها البابا باول السادس، والذي نشرت الثقافة الجديدة في عددها 292 ترجمة لمقابلة صحفية معه.
صادق البلادي



بـذ و ر الإشـتر ا كـيـة
البـابـا ينتقد الرأسمالية المتوحشة ، ويطالب بإنقاذ الأمـور الجيدة في الـشـيـو عـيـة
عند سقوط جدار برلين كان رئيس جمهورية ألمانيا الغربية آنذاك ، ريشارد فون فايسآكير قد صرح أن انهيار المعسكر الاشتراكي لا يعني انتصار الرأسمالية، وأشار الى أن ما تحقق في النظام الرأسمالي من مكتسبات اجتماعية وتوسع في الحقوق الديمقراطية، تحقق بفضل الحركة العمالية ووجود المعسكر الإشتراكي في مجرى الحرب الباردة ،وبنفس الاتجاه عبر كذلك ولي العهد البريطاني وكذلك كبير أساقفة أسبانيا.
و قبل عدة أشهر أعطى البابا باول السادس مقابلة صحفية مع صحيفة أسبوعية ألمانية تحدث فيها عن الحرب في البلقان وعن حرب الخليج وعن دور الكنيسة في سقوط المعسكر الاشتراكي ، وعن الوضع في وطنه بولونيا، وعن الاشتراكية والشيوعية. وفيما يلي ترجمة بعض الأسئلة.
ث.ج.


س: اسمحوا لي في البداية أن أتوجه بسؤال عن قضية دولية راهنة، عن الحرب في يوغوسلافيا السابقة.
عندما تحدثتم عن " تدخل إنساني " في البلقان تكون انطباع أنكم تحسون بتعاطف معين مع تدخل عسكري.هل كان الأمر كذلك؟

البابا: كلا.كنت أعني، أنه في عدوان ذي أهمية فائقة، ينبغي أن تؤخذ من المعتدي إمكانية إيقاع ضرر كبير.وحسب التعاليم التقليدية للكنيسة فإن الحرب عادلة فقط عندما تكون دفاعا عن النفس. يجب أن يتوفر لكل أمة حق الدفاع عن نفسها.

س : هل أعدت النظر في الفترة بين أحداث الكويت و أحداث يوغوسلافيا؟
البابا: إنني كنت دائما ضد الحرب، بالطبع ضمن الحدود التي ذكرتها. ولذلك لا يمكن الحديث عن تطور في تفكير البابا، ليس بالمعنى الذي تقصده. أتعلم أن المسألة وقت حرب الخليج كانت مغايرة بعض الشيء.وحسب رأيي صارت الحرب في مرحلتها الثانية قد تحولت من حرب دفاع عن النفس إلى
إجراءات عقابية.أما في البلقان فالوضع مختلف بعض الشيء. اننا نواجه مشكلة مأساوية إلى درجة فائقة. في يوغوسلافيا السابقة نلاحظ بعد سقوط الشيوعية صحوة جديدة للنزعات القومانية، ال تهيج الناس للقيام بأعمال العنف ، وتتسبب في بلاء كبير لأعداد كبيرة من الأبرياء.
وموقف الكرسي المقدس كان هو على الدوام، منع نشوب اقتتال الأخوة. وعندما قرر في البداية سكان
سلوفينيا والكروات وفي الأخير البوسنة أجراء استفتاء حول مسألة الاستقلال ، كانوا على حق تماما.
ولكن في ذلك الوقت توفرت دائما إمكانية إنقاذ السلام ، بواسطة محاولة التفاوض حول حل جديد-
على سبيل المثال إقامة كونفدرالية.

س: كيف تفسر النجاح الذي حققته الشيوعية في التاريخ، وكيف تفسر واقع أنها ما تزال تشكل قوة، على الغرب أن يحسب لها حسابا؟ وفي بلدان مثل ليتوانيا وبولندا عاد الشيوعيون للسلطة عن طريق الانتخابات؟

البابا: حققت الشيوعية نجاحها كردة فعل على رأسمالية معينة، متوحشة ، منفلتة. ينبغي فقط العودة لقراءة الموسوعات الاجتماعية، خاصة الموسوعة الأولى ، التي يصف فيها البابا ليو الثالث عشر
ظروف حياة العمال. ,ايضا قام ماركس بوصفها على طريقته الخاصة. وقد كان الوضع الاجتماعي فعلا و
بلا ريب كما وصف. ولقد نشأ رد فعل على ذاك الواقع، رد فعل اكتسب قوة ومساندة الناس - ليس
فقط في صفوف الطبقة العاملة . وانما في صفوف المثقفين كذلك. كثير منهم اعتقد أن الشيوعية يمكن
ان تحسن نوعية الحياة. وعلى هذا الأساس قبل كثير من المثقفين العمل مع الإدارات الشيوعية.ولكن
فيما بعد، وعند نقطة معينة، أدركوا أن الواقع كان غير ذلك، الذي تصوروه. البعض منهم، الأشد حبا للحقيقة، أخذوا بالابتعاد عن النخبة الحاكمة وانتقلوا إلى المعارضة.

س: وعودة الشيوعيين إلى السلطة في بعض البلدان الشيوعية السابقة، كيف تفسر هذا؟
البابا: من الضروري هنا التذكير ببعض الفروق. المسألة هنا هي ليست عودة الشيوعيين كشيوعيين للسلطة، إنما هي ردة فعل على عجز الحكومات الجديدة - وليس هذا بالأمر المفاجئ ، طوال خمسين عاما
كانت توجد طبقة سياسية واحدة، وهذه كانت الطبقة السياسية الشيوعية. هي التي كانت تعرف تسيير
السياسة، وكيف يعمل البرلمان. أما الآخرون ، الذين يوصفون اليوم بـ " الوسط" و " اليمين " فلم
يكونون مهيئين للسلطة ، إذ لم تتوفر لهم هذه الإمكانية من قبل. في المعارضة كانوا موحدين وأقوياء،
مثل التضامن في بولندا ، أما اليوم فهم ممزقون. إلى حد ما هذه خصلة بولندية، نوع من الشر الموروث ،
نزعة فردانية مبالغ بها، توصل إلى حد التمزق والتجزؤ والانقسام داخل اللوحة الاجتماعية- السياسية.
قوتها تكمن في المعارضة وليس في الاقتراحات البناءة ، التي تجعل الحكومة حكومة ناجحة .

س: لقد كافحت وبحماس طويلا ضد الشيوعية.لكن اليوم ينتشر انحلال خلقي في البلدان التي تحررت من الشيوعية. فتناول المخدرات منتشر انتشارا واسعا ، والبغاء آخذ في التزايد. في يوغوسلافيا السابقة
تنشب حرب تهزأ بكل قيم الحضارة. هل تساءلت ولو لحظة فيما إذا كان النضال ضد الشيوعية حقا ذا جدوى.؟

البابا: من الطبيعي أن النضال كان مشروعا، النضال ضد النظام الشمولي، الظالم ، النظام الذي وصف نفسه اشتراكيا أو شيوعيا. ولكن صحيح أيضا ما قاله البابا ليو الثالث عشر، من وجود بعض " بذور الحقيقة " في البرامج الاشتراكية. ومن الجلي أن ليس من الجائز تدمير هذه البذور، من أجل ألا تضيع. اننا اليوم بحاجة إلى مجابهات موضوعية، ترافقها عين فاحصة ،حادة. حماة الرأسمالية بأشكالها المتطرفة يميلون إلى تجاهل الأمور الجيدة التي حققتها الشيوعية : الجهود للتغلب على البطالة، المشاركة بمصائر الفقراء…نظام رعاية الدولة المبالغ به في نظام الاشتراكية القائمة قاد إلى بعض النتائج السلبية. فاختفت المبادرة الفردية، واتسع الخمول والسلبية. واليوم، في نظام متغير، تنقص الناس كل تجربة، تنقصهم القدرة على عمل شئ لأنفسهم، لم يتعودوا على المسئولية الشخصية. في نفس الوقت برز أناس أظهروا منذ البداية روح المبادرة الاقتصادية، عرفوا كيف يمكن استغلال الفوضى الأولى لصالحهم، ليغتنوا، وفعلوا ذلك بطريقة لم تكن على الدوام شريفة ومباحة. بين هؤلاء الناس كان كثير _ للأسباب التي ذكرتها آنفا_ من الكوادر القديمة. وكما ترى فإن الانتقال من نظام إلى آخر صعب جدا. وكذلك كلفته عالية جدا: تزايد البطالة، والفقر والتعاسة الإنسانية.

س: في ريغا أثناء زيارتك لبلدان البلطيق قلت أنه توجد " نواة حقيقة " في الماركسية أو الاشتراكية، أو بأي اسم يراد تسميتها. ملاحظتك هذه أثارت دهشة الكثيرين.

البابا: لكن ليس جديدا في هذا القول.هذا هو على الدوام جزء من التعاليم الاجتماعية للكنيسة. فليو
الثالث عشر قال نفس القول، ونحن نستطيع أن نؤكد هذا. إضافة لهذا فإن الناس البسطاء يفكرون نفس الشئ. ففي الشيوعية كان هناك اهتمام بالجماعة، بينما الرأسمالية فردانية. إلا أن الاهتمام بالجماعة في بلدان الاشتراكية القائمة كان باهض الثمن.

س: أيها الأب المقدس مع كل الخضوع : عندما أسمعك تتحدث هكذا ، أبدأ اتساءل فيما لو أن رفضك للرأسمالية أشد من رفضك للشيوعية.

البابا : أود أن أعيد قول ما قلته، والذي يمكن تلخيصه ببيت شعر للشاعر البولوني ميكييفتش :
" لا تعاقب السيف الأعمى، بل اليد، التي تحمله."بعبارة أخرى علينا أن نبحث عن أسباب الظواهر، التي نحن شهود عليها.وبالنسبة لي فإن أشكال مظاهر الرأسمالية المشوهة تقع في جذور الكثير من المشاكل الاجتماعية والبشرية القاسية. التي تنهك أوربا والعالم اليوم.
من الطبيعي أن رأسمالية اليوم ليست الرأسمالية زمن ليو الثالث عشر. رأسمالية اليوم تغيرت ، والفضل في هذا يعود إلى حد كبير إلى تأثير التفكير الاشتراكي. رأسمالية اليوم مختلفة، إنها أدخلت الأمان الاجتماعي، بفضل الحركات النقابية، كما طبقت سياسة اجتماعية، وتتم مراقبتها من قبل الحكومة والنقابات. غير أنها قد بقيت في عدد من البلدان في حالتها الوحشية، تقريبا مثلما كانت قبل قرن من الزمان.