عطو و هابرماس و نهاية مدرسة فرانكفورت / 9-15


حسين علوان حسين
2015 / 3 / 21 - 23:25     

مشروع هابرماس للترويج لحتمية دكتاتورية إمبراطورية الشر الإمبريالية / 2-5
نقد المفهوم الهابرماسي لـ "المقام المثالي للكلام"
عرضت في الحلقة السابقة لأهم خصائص المفهوم الهابرماسي للمقام المثالي للكلام كآلية مقترح اعتمادها في اتخاذ القرارات عبر الإجماع . و يتضح من مندرجاته أنه يتطلب من المشاركين التمتع بنفس المقدرة على الخطاب ، و بالمساواة الاجتماعية ، و بغياب أي توجه آيديولوجي لديهم ، بغية التوصل إلى ما يسميه هابرماس بـ "نظرية الإجماع للحقيقة" .
طيب ، أين يمكن - في الحياة العملية - إيجاد مثل هذا الموقف المثالي بمثل المواصفات الهابرماسية المطلوبة للمشاركين فيه ؟ الجواب العملي الأكيد هو أنه لا يمكن إيجاده في أي زمكان . هذا المفهوم غير موجود إلا في خيال هابرماس ، على الأقل لكونه يلغي تحكمياً التباينات القائمة في الوعي الطبقي و التأثير الطاغي لوسائل الاتصال الجماهيري في صنع الوعي الزائف و المواقف غير الموضوعية و المتحيزة لدى المتلقي . مع ذلك ، لنفترض جدلاً وجوده ، فما الذي يضمن التوصل فيه إلى الإجماع المطلوب في ضوء الإمكانية القائمة بأن ينتهي كل المقام الكلامي إلى لا شيء أو حتى إلى طريق مسدود ؟ و لكن لنفرض أن الإجماع قد حصل ، فما الذي يمنع المشاركين فيه عن التراجع عنه لاحقاً في ضوء ظهور القناعات أو المعطيات أو المؤثرات الجديدة ؟ فلنقل أن كل شيء سار حسب ما يريد هابرماس ، و تم التوصل للإجماع النهائي . السؤال هو : أين هي العقلانية التي يدعيها هابرماس و شركاه و التي يمكن أن تغرينا بقبول كون الحقيقة إنما تساوي الإجماع ؟ حتى الأطفال يعون أن الحقائق ليست هي الإجماع ، و أن لا علاقة للإجماع بالحقائق ، البتة . فإذا ما قبلنا بأن الحقيقة تساوي الإجماع مثلما يزعم هابرماس ، إذن يمكن للإجماع أن يلغي الحقائق المكتشفة تجريبياً و علمياً ، أليس كذلك ؟ إذن هذا المفهوم الهابرماسي المثالي و الغَرّ لا يشتغل أبداً على أرض الواقع ، و هو غير علمي ، و قائم على الفهم الخاطئ ليس فقط للحقائق التواصلية في المجتمع ، بل و كذلك لمفهوم المجتمع نفسه . كما يبين كل هذا مدى جهل هابرماس بأبجديات الدرس الديالكتي في ربطة التحكمي الميتافيزيقي بين الحقيقة و الإجماع ، و مدى لا ماركسيته في جعله وعيه الاجتماعي هو الذي يحدد الوجود الاجتماعي . و هذا ما يثبت مرة أخرى كيف أن تجاهل القوانين الموضوعية للماركسية لا بد أن يؤدي بصاحبه إلى السقوط في مستنقع المثالية الميتافيزيقية .
موجز بأهم مميزات علم الاجتماع الماركسي
كان ماركس أول عالم اجتماع يميط اللثام عن ماهية المجتمع بعيداً عن الأفراد عندما بيَّن في الغروندريسة (1858) بأن : " المجتمع لا يتألف من الأشخاص ، بل يعبر عن مجموع العلاقات البينية ، العلاقات التي فيها يقف بداخلها هؤلاء الأشخاص " . و منذ ذلك الحين ، فقد أثبت تاريخ تطور علم الاجتماع أن كل دراسة اجتماعية تنطلق من أفراد المجتمع هي دراسة غير علمية و قاصرة و لا تفسر أي شيء لكونها ترى المجتمع كأشخاص رغم أن من المستحيل على المرء تمييز "وجود" أي "مجتمع" داخل الأفراد . المجتمع في كل الأزمان تحدده الشروط المادية القائمة فيه ، أي العلاقات التي يدخل فيها البشر مع بعضهم لإنتاج حاجاتهم الأساسية : المأكل ، الملبس ، المسكن ، الخ . ربط ماركس مفهوم القوة بالطبقات الاجتماعية و بالأنظمة الاجتماعية ، و ليس بالأشخاص أنفسهم ، موضحاً بأن القوة إنما ترتبط بموقع الطبقة الاجتماعية في علاقات الإنتاج . و القوة لا تكمن في العلاقات بين الأشخاص ، و أنما في الطبقات الاجتماعية حسب موقعها الذي تشترطه علاقات الإنتاج السائدة في كل مجتمع .
كما ربط ماركس تحليل الأسباب الكامنة للتطور و التغيير الاجتماعي بالطرق الجماعية التي يتحصل بموجبها البشر على معيشتهم . كل مكونان المجتمع (الطبقات ، الهرم السياسي ، الآيديولوجيات) تنشأ من قاعدته المتمثلة بالنشاط الاقتصادي . القاعدة و البناء الفوقي يمثلان مجموع العلاقات الاجتماعية التي ينتج البشر فيها و بها وجودهم الاجتماعي و يعيدون إنتاجه ، أي أشكال القاعدة الاقتصادية . و من هذه القاعدة يرتفع البناء العلوي للمؤسسات السياسية و القانونية : أي الطبقة الحاكمة . القاعدة تتطابق مع الوعي الاجتماعي (السياسة ، الدين ، الفلسفة ، إلخ) و تشترط البناء الفوقي و الآديولوجيا المهيمنة . التضاد بين تطور القوى المنتجة و علاقات الإنتاج تفجر التغيرات الاجتماعية ، و تؤدي التغيرات في القاعدة الاقتصادية إلى التحول في البناء العلوي . هذه العلاقة ليست انعكاسية : في البدء القاعدة تولد البناء الفوقي و تبقى هي الأساس لنمط من أنماط التنظيم الاجتماعي . لذا ، فإن ذلك التنظيم الاجتماعي المتكون يستطيع أن يفعل ثانية في كل من القاعدة و البناء الفوقي المرتبطين ليست بعلاقات أحادية الخطوط ، و إنما بعلاقات جدلية تحركها الصراعات و التناقضات .
هذا الكشف الماركسي للهيمنة و الإخضاع المستندين على علاقات الإنتاج للطبقات الاجتماعية هي التي حولت علم الاجتماع إلى علم حقيقي يشتغل على القوانين الموضوعية الفاعلة في تطور نظام العلاقات الاجتماعية و نقلت نقطة التركيز من الأفراد إلى الطبقات .
أهمية مفهوم "القوة" (Power) في علم الاجتماع
يعتبر مفهوم القوة (و هو أشمل من مفهوم "السلطة" (authority) التي هي أحد أجزئها المهمة) أحد المفاهيم الأساسية في علم الاجتماع لما للقوة من تأثير كبير في الأنظمة الاجتماعية ، سواء كان ذلك التأثير مقصوداً أم غير مقصود ، أو كان لغايات المنع أم الترويج . و من طرائق فرض القوة الاجتماعية : رأس المال ، الإكراه ، الهيمنة ، السلطة ، الآيديولوجيا ، العقاب و الثواب ؛ أو كلها مجتمعة ، أو بعضها معاً .
منذ أفلاطون ، ساد في مناقشات الفلاسفة لموضوع الممارسة الاجتماعية للقوة التوجه العام للربط بين القوة من جهة و الدولة - بأجهزتها و مؤسساتها مثل الجيش و الشرطة - من جهة أخرى باعتبار أن الدولة هي المركز الرئيسي للقوة في المجتمع . و بموجب هذا التصور ، فإن القوة هي ممارسة سياسية منشؤها شكل الدولة .
إستمر هذا التوجه حتى ماركس (1818-1883) الذي كسر هذا التقليد الموروث عندما أوضح بأن القوة منشؤها الأصلي إنما هو الإنتاج الاقتصادي ، و ان ممارسات القوة تتغلغل و تؤثر في كل أوجه المجتمع من خلال الطبقات الاجتماعية باعتبارها الذراع الرئيس للقوة الاجتماعية ، و أن الحكومة هي - إلى حد كبير - الخادم للطبقة الاجتماعية السائدة . هذا المفهوم الماركسي للقوة نقلها - أولاً - من فهمها كظاهرة سياسية إلى فهمها كسيرورة اجتماعية كلية الوجود ؛ كما زودنا - ثانياً - بنظرية للتطور الاجتماعي القائم على ممارسة القوة . و لهذه النظرية مكونات ثلاث : المفهوم الاجتماعي القائم على أولوية القوة الاجتماعية التي يولدها الاقتصاد من خلال شكل علاقات الإنتاج السائدة فيه ؛ المفهوم التاريخي الذي يصف السيرورة التاريخية للتغيير الاجتماعي ؛ و حلقة الوصل الرابطة بينهما القائمة على مفهوم صراع الطبقات بين الطبقة التي تستحوذ على وسائل الإنتاج و الطبقة المحرومة منها .
إذن ، القوة تستند على قاعدة الاقتصاد . حاجات الإنسان اليومية و المتجددة للمأكل و الملبس و المسكن و الطاقة و غيرها تضطر البشر للعمل وسط المجتمع بغية إنتاجها لمواصلة الحياة ، فيدخلون بذلك في علاقات الإنتاج البينية مع بعضهم البعض . و لذا ، فإن كل الحياة الاجتماعية للبشر إنما تستند على إنتاج الحاجات المادية للحياة هذه ضمن النمط السائد اجتماعياً للإنتاج . القاعدة الاقتصادية و نمط الإنتاج السائد يشكلان و يؤثران في كل الخصائص الأخرى للمجتمع و المعروفة بالبناء الفوقي : الدولة ، النظام القانوني و التربوي ، الثقافة ، الأفكار ، المعتقدات ، القيم الخلقية ؛ كما أن البناء الفوقي يوثر بهذه الدرجة أو تلك على القاعدة الاقتصادية نفسها .
أما نمط الإنتاج فيتألف من مكونين إثنين : القوى المنتجة و وسائل الإنتاج . و تتضمن القوى المنتجة كل العوامل التي تقرر كيف أن ذلك النمط الاجتماعي المحدد للإنتاج هو النمط المفضل : موارده الضرورية ، التكنولوجيا ، تقنيات الإنتاج ، قوة العمل ، البنى التنظيمية ، تقسيم العمل ، إلخ . كل هذه القوى مهمة جداً داخل نطاق الاقتصاد ، و لكن تأثيراتها محددة بالميدان الاقتصادي الذي تشتغل فيه . أما علاقات الإنتاج ، فتتمثل بالترتيبات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و التشريعية التي تحدد من الذي يمتلك و يسيطر على وسائل الإنتاج في المجتمع . إذن ، علاقات الإنتاج هذه - علاوة على تكفلها بربط نمط الإنتاج بالمجتمع - تمثل المصدر الأول للقوة في المجتمع لكون من يمتلك و يسيطر على نمط الإنتاج الاقتصادي السائد فيه هو الذي يقرر كيفية الاستفادة من التكنولوجيا و كيفية توزيع خيرات الإنتاج ؛ و بالتالي ، فإن الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج تمارس قوتها على المجتمع بأسره ، و هذا هو الأساس لصراع الطبقات في المجتمعات و الذي لن ينتهي إلا بتشريك وسائل الإنتاج و إلغاء كل الطبقات الاجتماعية ، و بذا تضمحل قوتها الاجتماعية تدريجياً ، فينتهي دور الدولة في معالجة البشر ليتحول إلى معالجة الأشياء و سيرورات الإنتاج و التوزيع الاجتماعية و ضرورات النمو .
مفهوم الآيديولوجيا شكلاً للقوة
و مثلما كشف ماركس للإنسانية جمعاء عن القاعدة الاقتصادية للقوة في المجتمع ، كذلك فقد كان هو أول من إكتشف مفهوم الآيديولوجيا كشكل لممارسة القوة من طرف البرجوازية بغية إدامة سيطرتها الإقتصاجتماسية . شرح ماركس طريقة توظيف البرجوازية للآيديولوجيا كغطاء تجسيدي من شأنه إضفاء الغموض على علاقة القوة القائمة بين البرجوازيين و البروليتاريين بغية التعمية على واقع استغلال الطبقة الأولى للثانية ؛ حيث يتم تزييف الحقائق آيديولوجياً عبر سيرورة تشتمل على ثلاث مراحل : العزل ، التعمية ، الشخصنة . في الخدعة الأولى ، يتم عزل ما يقول البشر أنهم يفكرون به عن ظروفه الحقيقية ، أي عزله عن الشروط المجربة لحياتهم ، و عن الأشخاص الفعليين الذين يقولون به . في المرحلة الثانية ، و بعد عزل الأفكار ، يتم تزييفها و إعادة ترتيبها بحيث يتبين للناس وجود نظام ما بينها و الذي يفسر ما هو ملاحظ (إقامة الروابط الباطنية الوهمية بينها) . بعدها يتم تحويلها عبر الشخصنة إلى شخص معين بالذات عبر تصييرها ككيانات متميزة (مثلاً : كمنظومة للقيم ، كطبيعة ، كنظام للإيمان) تُسنَد لها الأسباب ، و من ثم إعادة توزيعها بإحالتها على الواقع بإسنادها إلى أشخاص فاعلين يمكن إعتبارهم الآن الممثلين لتلك الأفكار .
مثلاً : الممارسة اليومية للبروليتاريا في كل أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية تقيم الأدلة يومياً على كون الرأسمالي المتعطل يصبح فاحش الثراء من استغلال كدهم بفضل احتكاره لوسائل الإنتاج . كيف يتم تزييف هذه الحقيقة المعاشة آيديولوجياً ؟ إحدى الطرق هي :
أول خدعة هي الفصل التام بين "الرأسمالي" و "الاستغلال" و "العامل" في أمريكا كلها عبر المساوات بين الرأسمالي المستغِل و العامل المستغَل ، و تسمية فعل الاستغلال بفعل الجد و الاجتهاد و الذكاء و الحظ المؤاتي في استغلال الفرص لتحقيق ما يسمى بـ "الحلم الأمريكي" . في المرحلة الثانية ، يتم فبركة خرافة أن أمريكا هي البلد الذي يستطيع فيه كل إنسان (البروليتاري و الرأسمالي على حد سواء) بفعل استثماره للقدرات و الإمكانات الشخصية الكامنة فيه (جده و اجتهاده و عبقريته و فهلوته ..) أن يحقق بنفسه الحلم الأمريكي لنفسه بالثراء الفاحش الذي هو ليس إلا النتاج الطبيعي للاستثمار الناجح و المحظوظ للقدرات الشخصية في استغلال الفرص اليومية المتاحة للجميع في كل بقعة من بقاع أمريكا . و أخيراً ، يتم تسويق هذه الخرافة اجتماعياً عبر كل وسائل التواصل الاجتماعي بربطه بالبليونيرية من أمثال مصاصي الدماء : بل غيتس و موفت و سوروس ، إلخ ، و بنجوم هوليوود .. و زرع الأمل الكاذب عند المظلومين - هم و أحفادهم و أحفاد أحفادهم - بالرقي يوماً بانتظار بسمة الحظ . و المغزى النهائي لهذه الخرافة هو تثبيت الإيمان لدى المظلومين بكون السبب في الفقر ليس هو الاستغلال ، بل هو قلة الجد و الاجتهاد و العبقرية و الفهلوة و الحظ ؛ و أن الدليل على صحة هذه الخرافة هو وجود أشخاص مثل غيتس و موفت و سوروس و من لف لفهم .
علم الإجتماع البرجوازي بعد ماركس
للأسف ، فإن العيد من علماء الاجتماع بعد ماركس لم يستطيعوا البناء على النظرية الماركسية لعلم الاجتماع إما بسبب معاداتهم للفكر الماركسي عبر التزييف الإيديولوجي الذي تحدثت عنه آنفاً ، أو بسبب قصورهم الفكري الذي تهيمن عليه الأفكار القبلية الجاهزة التالية التي وقفت و تقف حجر عثرة أمام البحث العلمي للمجتمع :
1. أن المجتمع يتكون من أشخاص محددين .
2. أن المجتمع يتكامل بفعل حصول الإجماع الذي يتشارك فيه الأشخاص بصدد قيمهم و أعرافهم بعيداً عن الصراع الطبقي.
3. أن الحدود السياسية و القطرية تميز المجتمعات عن بعضها البعض ، و لذا فإن مُثُل أوربا القديمة مختلفة عن مثل أمريكا الجنوبية ، أو الصينية-الهندية مثلاً .
4. أن المجتمعات يمكن ملاحظاتها و فهمها من خارجها و بمعزل عن نمط الإنتاج السائد فيها .
محاكمات المفكرين غبر الماركسيين تقول : ما دام الإنسان يختلف بعقلانيته عن الحيوان ، فلماذا لا يصبح كل البشر في أرجاء العالم كافة أناساً عقلانيين لطفاء و متعايشين في وئام و سلام و إجماع مع بعضهم البعض ؟ إذن ، يجب عمل شيء لتحقيق هذا الهدف السامي الأعظم الذي يضمن الخلاص للبشرية . طيب : كيف يمكن جعل جميع البشر للمجتمع الكوني في كافة أرجاء العالم أناساً لطفاء و متعايشين في سلام و وئام و أجماع ؟ الجواب هو أن الحل الناجع يتطلب اختراع نظرية اجتماعية عقلانية تشرح أهمية الوئام و السلام و الإجماع للمجتمع البشري ، و من ثم نشرها بكل وسائل الاتصال السريع عن بعد للبشر جميعاً ، فيقتنع بها المجتمع البشري كله ، و يلتزم و يعمل بها لعقلانيتها ، و تصبح هي العرف السائد مجتمعياً ، و بذا تنحل كل مشاكل البشرية ، مرة و للابد ! المفكرون من أفلاطون إلى هيجل ، و من بارسنز إلى هابرماس يؤكدون لنا ضرورة القوة التكاملية لهذا الشكل أو ذاك من المنطق و العقلانية البشرية المشتركة بغض النظر عن التراتبية الطبقية ؛ لذا نجد أن الدوركهايميين يتكلمون عن الوعي الجماعي ، و الفيبريين و الهابرماسيين يؤكدون على التواصل اللغوي بين الأشخاص .
مثل هذه الأفكار لا قيمة اجتماعية لها البتة ، لأنها ليست أفكاراً علمية البتة ، بل هي مجرد وهم رغائبي لا غير ، يقوم على التصور الخاطئ بأن المجتمع كيان يتماسك عبر الإجماع بين أفراد المجتمع بصدد قيمهم الخلقية و أفكارهم . السؤال هو : كيف يمكن لمثل هذا التكامل الفكري الجماعي أن يتحقق في أي زمكان في ضوء استحالة تصور وضع نفسي يمكن أن تكون فيه كل هذه الأعداد الكبيرة من العقول في المجتمع البشري متكاملة كل هذا التكامل مع بعضها ، و في ضوء انقسام العالم إلى عالم الفقراء المحكومين المركوبين و طغمة المليارديريين الحاكمين الراكبين ؟ هل أن عقول المليارات السبعة من البشر اليوم قد تمت مصادرتها فتحولت إلى حواسيب صماء ذات برمجيات و بيانات منضبطة و متماثلة تشتغل تكاملياً داخل محطة واحدة أسمها المجتمع البشري ليستطيع هابرماس و وليد يوسف عطو و هشام عمر النور المجيء من خارجها و الدخول عليها و النقر على أزرارها ما شاءوا من النصوص بصدد ما هو مرغوب لها من التكامل و الإجماع فيما بينها ؟ ما هذا التسطيح لعقول البشر و هذه الميتافيزيقيا في التفكير ؟ المطلوب من كل هذا التسطيح هو التزييف التحكمي للصراع الطبقي عبر تعميته أيديولوجياً مثلما سبق و أن بيَّن لنا ماركس و إنجلز . لذا نجد أن المروجين للهيمنة الرأسمالية يدبجون يومياً عشرات المجلدات الضخمة التي تؤكد أن الإنسان يمتلك جوهراً أخلاقياً مشتركاً ، و أن المؤسسات الاجتماعية هي الانعكاس الطبيعي للكرامة البشرية ، على الأقل لأن العقلانية هي بالضبط ما يميز الإنسان عن الحيوان . و لكن الصحيح و الثابت تجريبياً و علمياً هو أن مؤسسات المجتمع الرأسمالي صماء حيال الأخلاقيات ، و هي تستطيع أن تشتغل بنجاح و "حسب الأصول" سواء التزمت بكرامة الإنسان و بالعقلانية و السلام و الوئام و الرفاه و غيرها من المثاليات أم اختارت الضرب بها عرض الحائط حسب ما تقتضيه مصالح الطغمة الرأسمالية السائدة .
راجت مثل هذه الأفكار العقلانية المثالية منذ أقدم الأزمان ، و لكن الظلم و الحروب و الجرائم من كل نوع استمرت بلا إنقطاع داخل شعوب العالم و فيما بينها ؛ بل و تصاعدت درجات كماً و نوعاً حتى بعد اختراع العراقيين القدماء لأقوى وازع أخلاقي و قانوني يمكن للعقل البشري تخيُّله : تهمة السخط الرباني إزاء التجاوز عليها مقابل التزكية القدسية للإيمان بها ، و من ثم قيام المحكمة الإلهية الكلية العلم و القدرة بعد موت كل إنسان ، و حكمها بالثواب الإلهي على كل من يلتزم بها بتخليده في جنات النعيم ، و العقاب على كل من يتجاوز عليها بالرمي في النار الأبدية ؛ لنصل أخيراً إلى محارق النازيين ، و إلى هيروشيما و ناغازاكي ، و الذبح الداعشي . لماذا ؟ لأن كل هذه الأفكار الغرّة غريبة عن علم الاجتماع البشري ، و لا تستند على أي أساس علمي ، و هي بالتالي لا تشتغل في هذا المجتمع . و الدليل على هذا هو أن عتاة المجرمين من طراز بوش الإبن و بلير و أوباما و ساركوزي و نتنياهو هم الآن شخصيات محترمة داخل مجتمعاتها و خارجها - إن لم نقل شخصيات بطولية - و هي الأنجم للحفلات و اللقاءات من كل نوع ، و البؤرة التي تتركز عليها أبهر الأضواء . ليس هذا فحسب ، بل أن أجهزة القمع و التجسس و القتل المجتمعية - مثل الأفبيآي و السيْآيْأي و البنتاغون و غيرها - هي أجهزة محترمة في مجتمعاتها ؛ و لذا ، فهي تجتذب آلاف المتطوعين سنوياً ، ناهيك عن تجنيد أرقى العلماء و الأساتذة الجامعيين و أوائل الخريجين في خدمتها ، و مليارات الدولارات من التخصيصات في موازناتها . كل هذا يؤهلها ، هي و غيرها من الأجهزة المجتمعية و أجهزة السلطة ، من ممارسة جرائمها دونما وازع و لا رادع ، لا من الإجماع الهابرماسي و لا من غيره . كل هذا يؤكد خطل الفكرة القديمة-الجديدة القائلة بأن البشر يتشاركون في مجتمع متجانس و منتظم طبيعياً .
يتبع ، لطفاً .