ليس للماركسية ما قبلها أو ما بعدها (5)


فؤاد النمري
2015 / 3 / 19 - 21:53     

ليس للماركسية ما قبلها أو ما بعدها (5)

يبدو أننا بحاجة لأن نشكر البروفيسور جوناثان ري (Jonathan Ray) على تقديمه لنا الوصف الكامل والحقيقي له ولزملائه في ندوة " ما بعد الماركسية " حيث كانوا في السبعينيات شباياً أغراراً يركبون عربة الرأسمالية فغُرر بهم وفهموا أن عربة الرأسمالية ستتعطل في منتصف الطريق ولن توصلهم إلى أهدافهم فكان أن مرت بهم عربة الماركسية الاشتراكية فقفزوا إليها مسرعين على اعتبار أنها العربة المضمونة للوصول إلى الحرية والديموقراطية والعدالة الإجتاعية، فتبيّن لهم بعد عشرين عاماً أنهم كانوا قد انخذوا القرار الخاطئ وارتكبوا غلطة العمر فعربة الماركسية الإشتراكية هي العربة الخربة التي تعطلت في منتصف الطريق بينما عربة الرأسمالية ما زالت تسير بثبات على الطريق . ترجلوا من عربة الماركسية الاشتراكية في انتظار عربة أخرى عربة " ما بعد الماركسية " توصلهم إلى أهدافهم ؛ ولن يترددوا في ركوب عربة الليبرالية الحديثة إذا ما مرت بهم .
البروفيسور جوناثان قدم هذا الوصف الدقيق لزمرة "ما بعد الماركسية" دون أن يخشى وصفه ورفاقه بالإنتهازيين أو بالجهالة حتى أنهم لم يلاحظوا الإنقلاب الذي قامت به البورجوازية الوضيعة السوفياتية ضد الإشتراكية ونجحت فيه أيما نجاح؛ ولذلك ترتب علينا أن نشكر صدقيته .

أنا أوافق جوناثان وزملاءه، هاليداي والآخرين على أنه كان قد غُرر بهم كطلاب في الجامعات البريطانية يتعلمون الماركسية على أيدي التروتسكيين وغيرهم من الجماعات المعادية للينينية بالقراءة الستالينية . أولئك الطلاب تعلموا فعلاً أشياء أخرى غير الماركسية . وها هو الاستاذ جوناثان يبتذل الماركسية على اعتبار أنها حركة سياسية غايتها المساواة والديموقراطية والعدالة الإجتماعية دون أن يعلم أن الماركسية علم ليس له أية غايات فالشرط الأول لكل علم هو ألا يكون غائياً وإلا فسد وفقد صفته العلمية .
وصدق جوناثان أبضاً في أنه لا يستطيع معالجة "الماركسية" حيث لا علاج لها والتخلي عنها هو الحل النهائي . هذا صحيح تماماً حيث أن "ماركسية" جوناثان نسيج وحدها وهي مجرد فنتازيا لا علاقة لها بماركسية ماركس التي لا تتأزم على الإطلاق وهي اليوم وكما كانت من قبل أقوى أدوات البحث العلمي في استخدام الباحث المؤهل الذي يعرف ماهية الماركسية كنظرية علمية تبحث في مسرى القانون العام للحركة في الطبيعة (المادية الديالكتيكية) وكيف يقضي هذا القانون بتمرحل البشرية في أنظمة إجتماعية متعاقبة متباينة .
ما الذي سيصلحه أو يغيره جوناثان والزمرة المتواطئة معه على رفض الاشتراكية، الاشتراكية العلمية وليس الإشتراكية الفنتازيا الموهومة ؟ هل سيعطلون القانون العام للحركة في الطبيعة عن العمل!؟ أم سيوقفون التطور وهو سنة الطبيعة في الخلق!؟ أم سيلغون الصراع الطبقي تقليداً لرائدهم خروشتشوف الذي ما لبث أن ألغاه الصراع الطبقي بانقلاب عسكري في أكتوبر 1964 ؟
ما يتضح تماماً من قراءة أوراق هذه الزمرة أنها لم تكن يوماً ماركسية ولم تتعرف على السمات الأساسية للإشتراكية كمرحلة عبور إلى الشيوعية وها هو البروفيسور جوناثان ري يعترف بلسانه أنه لا يميز بين الاشتراكية والشيوعية !! الخطاب الماركسي في الاشتراكية لا يستغني عن مفردات بعينها من مثل "دكتاتورية البروليتاريا" و "الصراع الطبقي" و "محو الطبقات" هذه المفردات بدت غريبة تماماً على زمرة البروفيسورات التي تبحث في معالجة ما وصفوه بأزمة الماركسية . هؤلاء القوم لا يعرفون الاشتراكية العلمية، إشتراكية ماركس، ومن لا يعرف الإشتراكية لا يعرف الماركسية . هم ظنوا خطأً أن الماركسية هي إيديولوجيا ترسم خارطة طريق تنقل البشرية بأسهل الطرق إلى مجتمع الحرية والديموقراطية والعدالة الإجتماعية وإذ بهم يكتشفون متأخرين أن الإشتراكية التي تعلموها في الصغر ليست من جنس الإشتراكية المرسومة في مخيلاتهم وأنها لا توفر الحرية والديموقراطية والعدالة الإجتماعية التي تعرفوا عليها في مجتمعاتهم البورجوازية كما ثبت ذلك في التجربة السوفياتية، فهمّوا لاكتشاف طريق أخرى غير طريق الماركسية، طريق لا بد أن تكون في "ما بعد الماركسية" .
الإشتراكية العلمية التي استشرفها ماركس لا توفر لا الحرية ولا الديموقراطية ولا العدالة الاجتماعية بمفاهيمها البورجوازية، وهي المفاهيم التي يأخذ بها المشاركون في ندوة "ما بعد الماركسية" . وليس الإشتراكية مجتمع الإستقرار كما يحتسبها البروفيسور جوناثان . الإشتراكية العلمية وهي ليست إلا محو الطبقات الذي لا يتم بالطبع في مجتمع مستقر بل في مجتمع يبلغ الصراع الطبقي فيه العنف الأشد والأقصى .
من لا يعرف الإشتراكية لا يعرف الماركسية بالطبع، ثم كيف لقوم لا يعرفون الاشتراكية العلمية أن يتطوّعوا لنقد الماركسية . البروفيسور جوناثان لا يعرف الماركسية فكيف عرف " أن دماء كثيرة تلطخ يدي الماركسية " !! الإنسان السويّ يميز اليدين بعد أن يكون قد ميّز الشخص فقط وجوناثان لم يميّز الماركسية فكيف ميّز يديها !!؟

من الموضوعات السخيفة التي نقلها جوناثان عن بوبر هو أن الماركسية إنما هي ليست أكثر من دعوى سياسية تدعو للحرية والديوقراطية والعدالة الإجتماعية . مثل هذه الأقوال السخيفة لا يقولها إلا مجندو البورجوازية في حملة لتقزيم الماركسية وتسخيفها . ليس أسخف من بوبر إلا جوناثان، فالماركسية إنما هي التفسير الدقيق والأمين لفعل قانون الحركة في الطبيعة في المجتمعات البشرية . والوعي البشري الذي يعزى إليه التغيير الإجتماعي ليس هو بالتالي إلا من مخلوقات الطبيعة وقانونها العام (المادية الديالكتيكية) التي لا يمكن أن تخلق كائناً يعطل نفاذ قانونها . السياسة التي يؤطرها الوعي إنما هي إنعكاس لعملية الإنتاج وعيوبها المعيقة لها والتي هي وحدها فعل الأنسنة . السياسة إنما هي أدب الصراع الطبقي والتناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج وهي بالتالي البناء الفوقي للبناء التحتي وليست منفصلة عنه كما يحاول جوناثان ومعلمه بوبر أن يقولا . وللمرء أن يتساءل هنا .. هل جوناثان ورفاقة في زمرة "ما بعد الماركسية" كانوا قد ضيعوا أعمارهم في دعوى سياسية لا أساس لها في واقع الحياة !؟ مجرد بحثهم عن طريق أخرى توصلهم إلى الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية فذلك يعني دون شك أن وعيهم إنما هو إنعكاس لواقع الحياة وليس مستورداً من خارجها .
ولنا هنا أن نفاجئ جوناثان ومعلمه بوبر مفاجأة صاعقة وهي أن نؤكد لهما ولأترابهما على أن الشيوعيين ليسوا سياسيين أصلاً حيث ستنعدم السياسة تماماً في الحياة الشيوعية حين تنعدم الطبقات ويكون كل الناس شيوعيين . الماركسية ليست دعوى سياسية بل هي القانون العام في النظام الإجتماعي، مهما كان ذلك النظام الإجتماعي .

لئن كان المنتدون في ندوة "ما بعد الماركسية" قد غرر بهم شباباً في السبعينيات فهم يجتمعون كهولاً في التسعينيات وقد غرر بهم مرة أخرى . فالخيبة التي عبّر عنها سائر المشاركين في الندوة إنما هي خيبة موهومة استولت عليهم بسبب جهلهم بالماركسية التي لو عرفوها على حقيقتها لشعروا بالنصر والاعتزاز بالماركسية ولتأكدوا أن ليس للماركسية ما بعدها أو ما قبلها، ولتأكدوا أن الماركسية هي العلم الكامل للتطور الإجتماعي .
استولت عليهم الخيبة لأنهم لم يروا لقصر نظرهم انتصار الاشتراكية على الرأسمالية الإمبريالية على عكس ما يروّج مجندو البورجوازية الوضيعة . خلافاً لما تدعيه البورجوازية الوضيعة فالنظام الرأسمالي انهار في السبعينيات بينما المعسكر الإشتراكي انهار بعد ذلك بعشرين عاماً . ليس هذا فقط بل انهار النظام الرأسمالي بفعل قوة المعسكر الاشتراكي التي تُرجمت بقوة ثورة التحرر الوطني العالمية، بينما انهار المعسكر الاشتراكي ذاتياً بفعل الصراع الطبقي داخله، بل أعاق انهياره الطبيعة العدائية للنظام الرأسالي . هناك دلائل كثيرة لا تقبل النقاش تدل دلالة قاطعة على انهيار النظام الرأسمالي في العالم .
في النصف الأول من السبعينيات انهار الدولار الأميركي انهياراً هائلاً والدولار هو الغطاء الشامل لنظام الانتاج الرأسمالي في أميركا التي برزت بعد الحرب العالمية الثانية كحصن حصين للرأسمالية الإمبريالية . تهالك الدولار في السبعينيات يعني مباشرة تهالك نظام الإنتاج الرأسمالي في حصن الرأسمالية ؛ وما أكد ذلك أن أميركا لم تستطع إنقاذ دولارها من الهلاك بغير الاستنجاد بالرأسماليين الآخرين في العالم الذين كانت أميركا نفسها في مطالع الخمسينيات قد أنقذت أنظمتهم الرأسمالية وهم بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان . إجتمع قادة هذه الدول في رامبوييه في باريس في نوفمبر 1975 للتداول في إنقاذ النظام الرأسمالي من الهلاك التام . ولما تعذرت عليهم أي حيلة ناجعة لإنقاذ النظام الرأسمالي لم يجدوا من سبيل للنجاة بأنفسهم سوى التحول من رأسماليين إلى لصوص فأعلنوا في البند 11 من الإعلان أن الدول الغنية الخمسة قررت الحفاظ على أسعار عملاتها في أسواق الصرف ثابتة لا تتغير إلا بمقدار محدد . ماذا يعني هذا ؟ هذا يعني أول ما يعني أن القيمة الرأسمالية لم تعد في البضاعة بل في النقود وأن الولايات المتحدة تستطيع أن تصدر نقوداً قدر ما تحتاج دون أن تنتج بضاعة تغطي قيمة النقود الصادرة . الرأسمالية كما يعرفها علماء الإقتصاد، بل والعامة كذلك، هي إنتاج البضائع وليس أي شيء آخر غير البضائع حيث فيها فقط تتجسد قوى العمل البشري وهي أصل القيمة . الدول الرأسمالية الكلاسيكية الكبرى لم تعد تنتج البضائع ولم تعد رأسمالية ؛ تحولت لإنتاج الخدمات والخدمات ليست من الثروة بشيء، ولذلك تجدها اليوم مدينة بأكثر من 60 ترليون دولاراّ وقريباً جداً لن يعود العالم قادراً على تحمل الإنفاق المستهتر الذي تنفقه هذه الدول على حساب العالم .
نصف موازنة الإدارة الأميركية لهذا العام هي سندات على الخزينة الأميركية للصين الشيوعية . بإضافة 800 مليار دولار للصين موظفة في أسواق الولايات المتحدة يمكن القول بالتالي بأن الولايات المتحدة الحصن الأخير للنظام الرأسمالي الإمبريالي قد غدت مستعمرة للصين "الشيوعية" .
البورجوازية الوضيعة وهي العدو التاريخي للنظام الرأسمالي تؤكد أن النظام الرأسمالي قد انتصر على النظام الاشتراكي مع أن النظام الرأسمالي كان قد قضى على يديها وهي تلغو بمثل هذا اللغو الفارغ دفاعاً عن نظامها لأنها تعرف تماماً أن الخطر الوحيد الذي يتهددها يتمثل بالثورة الإشتراكية .
لدى زمرة البروفيسورات المنتدين في ندوة "أزمة الماركسية" فقر مدقع في الماركسية حتى أنهم لم يميزوا النظام الرأسمالي بكل سماته البارزة والحادة فظنوا أنه ما زال قائماً مع أنه انهار وتم دفنه في العام 1975 فكيف بهم يميزون النظام الإشتراكي وينقذونه من أزمة الماركسية !؟ وكيف بعم يتعرفون على اللانظام القائ اليوم في العالم وهو نظام " علي بابا والأربعين حراي

بالرغم من أن المشاركين في ندوة "أزمة الإشتراكية" أو "ما بعد الماركسية" كانوا قد تعلموا الماركسية لعشرين عاماً لكنهم وكما يتضح من تفوهاتهم أنهم لم يتمكنوا من الخروج من دائرة المثالية . فهم ما زالوا يعتقدون أن الاشتراكية لا تستدعي النشاط السياسي اللازم لتحقيقها بسبب أنها نهاية التاريخ والوصول إليها لا يحتاج لنضال صعب وكثيف . وعليه إدعى جوناثان أن الماركسية لم تستدع فعلاً سياسياً كافياً وكأن هذا الرجل لم يقرأ التاريخ وعلم أن الثوار الإشتراكيين كانوا في الخمسينيات يدقون أبواب مراكز الرأسمالية بعد أن كانوا هم الوحيدون الذين حفظوا الحرية لكافة شعوب العالم من غول النازية في الأربعينيات ومع ذلك لا تعدم البورجوازية الوضيعة مجنداً مغلق العقل يقول أن الماركسية لم تستدع فعلاً سياسياً .
ليس أكثر مثالية من مثل هذا النمط من التفكير الذي يتفكره منتدو ندوة أزمة الإشتراكية فيتناسون التناقض الرئيس في النظام الرأسمالي، التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج وهو السبب الأول والرئيس في تقويضه . العمال يشكلون حزبهم الشيوعي ليس لأن الاشتراكية تجتذبهم كنظام حر وديموقراطي وعادل كما يسيء الإعتقاد بروفيسورات "ما بعد الماركسية" بل ليتخلصوا من الاستغلال الذي يمارسه عليهم الرأسماليون . يناضل العمال ويدفعون دماءهم وأرواحهم ليس لأن الإشتراكية تجتذبهم بعدالتها وديموقراطيتها بل لأن هدفهم الواحد الوحيد هو التخلص من الاستغلال الواقع عليهم من قبل الرأسماليين . العمال يشكلون حزبهم الشيوعي ليس بفعل القوى الجاذبة للإشتراكية بل بفعل القوى الطاردة للرأسمالية .

خمسة عشر أستاذا جامعياً يجتمعون في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية [SOAS] في جامعة لندن ليتداولوا فيما أسموه "أزمة الماركسية" وتشت مداولاتهم إلى ما ليس له علاقة بالماركسية، أفلا يستوجب هذا من الماركسيين ومن ذوي العقول الراجحة من غير الماركسيين البحث في أسباب ذلك !؟ هل سبب ذلك هو صعوبة العلوم الماركسية حتى على أرفع الناس علماً !؟ أم هو من أنشطة البورجوازية الوضيعة غير المسبوقة في الخبث والتلفيق !؟
(يتبع)