المغرب: الوضع الراهن لميزان القوى الاجتماعي والسياسي

جنين داود
2015 / 3 / 14 - 01:01     

بعد ثلاث سنوات من تراجع موجة النضالات الشعبية العارمة، التي شهدتها مختلف ربوع المغرب، يبدو الوضع مستقراً، لا تنال منه ردات فعل كادحي البلد النضالية الجارية. وتسير الملكية بثبات، بتواطؤ مكشوف من أهم القوى السياسية بالبلد، موالاة و«معارضة»، و يداً في يد، مع صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوربي، في تطبيق مزيد من سياسات نيوليبرالية مدمرة لطفيف المكاسب الاجتماعية، دافعة أقساماً إضافية من الجماهير الشعبية إلى أهوال البؤس.

فعلاً، تمكنت الملكية من تفادي اتساع نطاق الاحتجاج العمالي والشعبي المتفجر، مستهل العام ٢٠١١، في سياق الهزة الثورية التي شملت بلداناً عديدة بالمنطقة. أفلحت في إنقاذ سلطتها، بفعل مرونة تعاملها مع المد الشعبي، بتفادي الإفراط في قمعه، وبمنح تنازلات اجتماعية لا يُستهان بها (فرص عمل للشباب المعطل، تساهل مع مئات آلاف باعة الرصيف، ومع حملة شعبية عريضة لبناء مساكن بلا أي تقييدات إدارية، وتنازلات للحركة النقابية غير مسبوقة...)، وبمناورات سياسية ساعد على نجاحها الطابع الابتدائي لحركة ٢٠ فبراير، وضعف تقاليد النضال السياسي بالبلد [انتخابات أفضت إلى برلمان جديد، وحكومة واجهة جديدة، استُعْمل فيها لأول مرة واحد من أقوى التيارات الإسلامية، حزب العدالة والتنمية]. ولم يكن دعم هذا التيار الإسلامي للملكية (هو يفاخر بدوره في وقايتها من تصعيد ثوري نظير لما شهدت بلدان أخرى بالمنطقة) سندها الوحيد أيام ارتعادها من مصير الرئيسين بن علي ومبارك. فقد قام اليسار التاريخي (معظمه متحدر من اليسار الوطني الشعبوي) بدور لا يقل أهمية. فقد ناهض الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وتشكيلات أخرى من الطبيعة السياسية إياها، حركة ٢٠ فبراير، وقامت بيروقراطية النقابات التابعة لهذه القوى (في الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، والفيدرالية الديمقراطية للشغل)، ومعها أخرى أشد ارتباطاً بالقصر (في الاتحاد المغربي للشغل)، بالتعاون مع الدولة، لتفادي تنامي موجة النضالات، وانتقالها إلى أماكن العمل.

دامت حركة ٢٠ فبراير، وهي هبة ميزها من باقي الدينامية النضالية لعام ٢٠١١، رفعُها مطالب سياسية مباشرة، حتى تشكيل حكومة الواجهة الجديدة، في مطلع العام ٢٠١٢. لكن أيام عزها لم تتجاوز أربعة أشهر، من انطلاقها في 20 شباط/ فبراير 2011، حتى فرض الملكية الصيغة الجديدة من دستورها، في ١ تموز/ يوليو ٢٠١١.

مثلت مسيرات حركة ٢٠ فبراير أول تحرك سياسي جماهيري منذ عقود. فبعد هزم الحسن الثاني يسار الحركة الوطنية، منتصف سنوات ١٩٦٠، انتفى أي نضال سياسي جماهيري، وأفلح النظام في احتواء قسم من المعارضة، واستخدمها في آلية سياسية سيَّر بها البلد ولا يزال (مؤسسات محلية وبرلمان منذ ١٩٧٦-١٩٧٧). فمع القمع الفتاك باليسار الثوري، أتاح النظام ليسار إصلاحي برجوازي ممارسة هيمنة سياسية طيلة عقود (إمكان عمل سياسي وصحافة شرعيين، وذراع نقابي...)، ما أسهم في تأخير وعي الكادحين السياسي، واقتصار ردهم على الاستبداد والاضطهاد على تفجرات دورية للغضب عديمة الأفق السياسي (حزيران/ يونيو ١٩٨١، كانون الثاني/ يناير ١٩٨٤، كانون الاول/ ديسمبر ١٩٩٠...). ولما بدأ النضال الشعبي يبرز بمناطق قروية ومدن صغيرة، منذ النصف الثاني من سنوات ١٩٩٠، اكتسى مضموناً اجتماعياً محضاً، من دون تبلور تنظيمي، ولا استراتيجية.

وظلت الحركة العمالية، سياسياً، في ذيل المعارضة البرجوازية (الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال)، أو تحت سطوة بيروقراطية بالغة الفساد والارتباط بالقصر (الاتحاد المغربي للشغل). وتمتد جذور تخلف العمال السياسي إلى انتزاع قيادة الحركة النقابية من يد الشيوعيين، بتأسيس الاتحاد المغربي (عام ١٩٥٥) للشغل، تحت رعاية حزب البرجوازية الناشئة- حزب الاستقلال- والانحطاط الإصلاحي العميق للحزب الشيوعي (حزب التقدم والاشتراكية حالياً)، ثم إلى الهيمنة التي بسطها الاتحاد الاشتراكي على قسم من الطبقة العاملة، ببنائه نقابة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، في نهاية سنوات ١٩٧٠، وإبادة اليسار الثوري، وتعثر عمله داخل الطبقة العاملة.

هذه الخاصية الهيكلية (السطوة السياسية لقوى غير عمالية على طبقة الأجراء طيلة عقود)، جعلت الحراك الشعبي لعام ٢٠١١ بلا عمود فقري. فتدفقت طاقة نضال الشباب، طلباً للعمل بأشكال جذرية، مثل وقف قطار نقل الفوسفات، واندفعت جماهير عريضة تطالب بتحسين أوضاعها الاجتماعية، وبرزت بشائر حركة فلاحين صغار بمناطق مسقية، واستجابات قطاعات متنامية من كادحي المدن لنداءات حركة ٢٠ فبراير إلى التظاهر، ضد الاستبداد، ومن أجل العدالة الاجتماعية، وعاش البلد مناخاً نضالياً غير مسبوق. لكن تضافر مكونات الحراك الشعبي لم يتحقق، ولم يكن لدى اليسار الجذري قوى كافية للاضطلاع بالمفترض فيه من مهام ظرف من ذلك القبيل. فبقي الوضع في حدود دينامية نضالية مفككة الأوصال، لم تَرْقَ إلى سيرورة ثورية، حيث لم ينتقل نشاط الجماهير الذاتي إلى مستوى تنظيم ذاتي، ولم تتم منازعة الملكية سلطتها، ولم تدم موجة النضال ما يكفي لإحداث طفرة نوعية في وعي الكادحين. فكان أن تبددت طاقة الكفاح الشعبي المتبقية، في اندفاعات محلية معزولة (تازة في كانون الثاني/ يناير ٢٠١٢، بني بوعياش في آذار/ مارس- أيار/ مايو ٢٠١٢، دمنات في أيار/ مايو ٢٠١٣...)، وجرى احتواء التململ العمالي بتنازلات القيادات وتواطُئها.

آلية سياسة لا تزال تؤتي أُكلها

هذا التحكم بالوضع دفع النظام الى مواصلة السياسة النيوليبرالية، التي أوعز بها الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، سياسة قوامها تكييف اقتصاد البلد لمتطلبات سداد الدين، والمزيد من إتاحة سبل التراكم للرأسمال المحلي والامبريالي، مع ما يستتبع ذلك من هجوم على ما تبقى من مكاسب اجتماعية، وتشديد للاستغلال، ومفاقمة للبطالة، وأشكال العمل غير القار... وقد تجرأ الفريق الحكومي القائم منذ مطلع العام ٢٠١٢، برئاسة حزب العدالة والتنمية الاسلامي، على مباشرة تعديات طالما أوقفها التردد بوجه احتمالات التفجر الاجتماعي. ومن أبرزها سعي حثيث إلى تفكيك ما تبقى من نظام دعم مواد الاستهلاك الأساسية (صندوق المقاصة)، وضرب مكاسب أنظمة التقاعد، واقتطاع أجور الشغيلة المضربين في قطاعات الدولة (إلغاء مكسب دام منذ زهاء ٦٠ سنة)، فضلاً عن مواصلة التقشف في الميزانيات الاجتماعية، وتحميل أعباء الضائقة الاقتصادية لقاعدة المجتمع العريضة.

تُطبق بواسطة هذه الحكومة السياسةُ ذاتها التي طُبقت باستعمال حزب الاتحاد الاشتراكي، في نهاية سنوات ١٩٩٠، لمَّا استشعر الحسنُ الثاني خطورة الوضع وقرب وفاته. إنها تقوم بدور واجهة تحمي الملكية من سخط ضحايا السياسة النيوليبرالية، بعد أن أفادت النظام في اجتياز محنة عام الثورة في المنطقة. إن آلية «المسلسل الديمقراطي» التي دبر بها النظام الوضع السياسي، منذ زهاء أربعين سنة، قد تعززت بنشوء حزب من الموجة الإسلامية، له قاعدة اجتماعية عريضة، مساند للملكية، قابل لأدوار العجلة الخامسة في آليتها السياسية، وقد ُيلحق قسمٌ مما يسمى «الحركة السلفية» بهذه الآلية، مستقبلاً، بحسب حاجات النظام.

قوتهم في ضعفنا

وجلي أن هذا النجاح في التحكم بالوضع، على الرغم من الاحتقان الاجتماعي، ناتجٌ من ضعف قوى النضال. فعلى غرار اليسار بعموم المنطقة، تردى وضع اليسار الإصلاحي على نحو غير مسبوق، وبات معظمه سنداً للنظام، سواء داخل مؤسسات الديمقراطية الزائفة (برلمان ومجالس محلية...)، أو في الساحة العمالية، حيث يسيطر هذا اليسار، في قيادات النقابات، مسايراً سياسة البرجوازية ودولتها، ومسانداً تمرير التعديات على حقوق الشغيلة ومكاسبهم، وساهراً على ضبط الفعل العمالي، ومنع ارتقائه إلى حد تهديد «الاستقرار الاجتماعي». فمن جهة، تستنكف القيادات النقابية عن واجب التضامن العمالي، متفرجة على اختناق كفاحات عمالية كبيرة، كما جرى لمعركة أجراء الطريق السيار- أُوتُوسْتراد- (مطلع ٢٠١٢)، ضد تشغيلهم عبر شركات وساطة، ولعمال مناجم بوازار، ولمعركة قسم من شغيلة التعليم (الأساتذة المجازين) سنة ٢٠١٣، ومؤخراً إضراب عمال مناجم جبل عوام، شهراً كاملاً (آب/ أغسطس ٢٠١٤). ومن جهة أخرى، تتدخل البيروقراطية لوقف كفاحات جارية، كما جرى في إقليم ورزازات، وما ترتب عنه من تفكيك للتنظيم النقابي المحلي (مستهل العام ٢٠١٣). وتجنباً لانبثاق كفاحات غير متحكم بها، وحفاظاً على موقعها كمحاور باسْم الشغيلة، إزاء أرباب العمل والدولة، تبادر البيروقراطيات النقابية، بين فينة وأخرى، إلى خطوات محسوبة، مثل الدعوة إلى مسيرة عمالية وطنية بالعاصمة (٣١ آذار/ مارس ٢٠١٣) أو بالدار البيضاء (٦ نيسان/أبريل ٢٠١٤)، وحتى إلى إضراب عام وطني (يوم ٢٩ تشرين الاول/ أكتوبر ٢٠١٤). ويبلغ الحرص على التحكم في تحركات العمال مستوى تقييد الإضراب بتوجيهات تفرغه من محتواه (دعوة الشغيلة إلى تعويض يوم الإضراب بعمل مجاني بعده)، ناهيك عن تفادي أشكال الديمقراطية العمالية، في تسيير الإضراب.

وطبعاً، يستتبع هذا التسلط والعسف البيروقراطيان قمعَ النقابيين المعارضين، الذائدين عن علة وجود منظمات العمال، من قبيل طرد مناضلين من تيار المناضل-ة من الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، ونقابة بحارة الصيد الساحلي من الاتحاد المغربي للشغل، ومؤخراً (منذ آذار/ مارس ٢٠١٢) حملة الاجتثاث التي يتعرض لها ما بات يعرف بـ«التوجه الديمقراطي»، داخل الاتحاد المغربي للشغل. كما أبانت مجريات مؤتمر الكونفدرالية الديمقراطية للشغل الخامس (تشرين الثاني/ نوفمبر ٢٠١٣) درجة التسلط البيروقراطي، والاصطفاف إلى جانب النظام في تدبير المسألة الاجتماعية. هذا وتتمثل أكبر مكامن ضعف اليسار الجذري بالمغرب في إخفاقه في تجميع القوى المستاءة من سياسة البيروقراطيات النقابية، وحتى في عدم وعي معظمه الحاجةَ إلى ذلك التجميع. فطيلة العقد الأخير، أبدت قطاعات أجراء عديدة رفضها لخيانات البيروقراطية، ومنها قطاع أجراء البلديات عام ٢٠٠٧، في الكونفدرالية الديمقراطية للشغل (ما عُرف بالحركة الرافضة)، وقد انتهت تجربة هؤلاء الأُجَراء إلى تفكك فروع عديدة، وقبلها تجربة قسم من أجراء التعليم، المفضية إلى تأسيس «النقابة المستقلة» و«الهيئة»، هذا فضلاً عن ظاهرة الانطواء الفئوي المفككة لأساس النقابة: التضامن.

ورغم ما يبشر «التوجه الديمقراطي»، المفصول من الاتحاد المغربي للشغل بقوى واعدة، يظل ضعفه السياسي، ونقص تقاليده الديمقراطية، خطرين يهددان بتبديد تلك القوى. كما أن السير، بعد رفض القيادة البيروقراطية أي مساومة تفتح باب التراجع عن قرارات الطرد، نحو تأسيس اتحاد نقابي جديد، من دون جرد حصيلة زهاء ربع قرن من العمل النقابي، وبدون التسلح بمنظور ثوري للعمل النقابي، ينذر بإعادة إنتاج ممارسة نقابية لا تسهم في بناء قطب عمالي راديكالي معارض لسياسة البيروقراطية النقابية، سياسة الحرص على «الاستقرار الاجتماعي». ويمثل تعزز القاعدة النقابية وتجددها بقوى فتية مقدامة، مثل عمال الزراعة بسهل سوس، في العقد الأخير، وبعض فئات الوظيفة العمومية، كمستخدمي وزارة العدل، عاملاً مساعداً على بناء خط نضال عمالي راديكالي كفاحي، داخل الحركة النقابية، بوجه تَوَحُّل البيروقراطيات المتسارع، في مستنقع «نقابة الشراكة الاجتماعية».

ثمة أمارات عديدة مُنذرة بسلوك البيروقراطيات المرتقب، فموقفها المساند عملياً لاقتطاع أجور أيام الإضراب، في الوظيفة العمومية، ومسايرتها الفعلية لهجوم الدولة على أنظمة التقاعد، وما أبدت من قبول مبدئي لمشروعي قانوني حق الإضراب والتنظيم النقابي، وتلكؤها الجلي، بعد زهاء شهر ونصف الشهر من «إضراب عام» اعتـُبر إنذاراً، كل ذلك يدل على مواصلة سياسة مرافقة الهجوم على مصالح الأجراء ومكاسبهم.

تحديات بوجه اليسار الثوري

المغرب مقبل على تصعيد حرب الطبقة السائدة على الطبقات الشعبية، وقد استكملت حكومة واجهة، مستندة إلى تحالف بـ«أغلبية» إسلامية، سنتها الثالثة، وعلى انتخابات جماعات محلية (مجالس بلدية وقروية) منتصف العام ٢٠١٥، في سياق تراجع النضالات.

وستستند موجة الكفاحات القادمة على رصيد تجربة نضال خطا فيها سنة ٢٠١١ مئات آلاف الكادحين أولى خطواتهم، على درب النضال السياسي الفعلي، في الشارع، وآخرون شباب خاضوا نضالات ضارية، ومنها اعتصامات مسيرات شعبية، من اجل العمل، وموجة غضب التلاميذ في المدارس سنة ٢٠١٤، والاحتجاج الشعبي العفوي الجاري ضد غلاء استهلاك الماء والكهرباء، وما تحبل به حركة الشباب المعطل خريج الجامعة. وستنطرح على مناضلي اليسار الثوري مهام الانغراس في النضالات، والإستفادة من دروس المعارك الماضية، لا سيما واجب رفع درجة الوعي والتنظيم لتحقيق تراكمات ووثبة نوعية، بعد سنوات من نضالات مشتتة وجزئية ومحلية، وذلك بالتقدم في تحقيق تضافر مختلف مكونات الحركة الجماهيرية، والسير بمطالبها ونضالها نحو نضال سياسي يطرح على جدول الأعمال مسألة السلطة.

بهذا الصدد الأخير، أبانت المصاعب التي واجهتها حركة ٢٠ فبراير، في تطوير الوعي السياسي، فداحة الأضرار الناتجة من عقود من «المسلسل الديمقراطي». لقد فقد اليسار التاريخي الصدقية، بعد تآكُّلٍ مديد في مؤسسات الديمقراطية الزائفة، ثم عرَّت، نهائياً، ديناميةُ ٢٠١١ النضالية، حقيقته وطبيعته المضادة لتطلعات الكادحين، فلم تعد له تلك الهيمنة السياسية على قسم من الجماهير الشعبية. وباتت الملكية مستندة إلى قسم من الحركة الإسلامية معترف بشرعيتها، وإلى شبكةٍ هائلة من الجمعيات (في المغرب مائة ألف جمعية)، نافذةٍ في أعماق المجتمع (ما يسمى جمعيات التنمية وصنوف أخرى)، يضطلع معظمها بحرف توق الكادحين إلى تحسين أوضاعهم نحو حلول ترقيع، في ظل النظام القائم، ولها فعالية شديدة في هذا المضمار بعد انتفاء أي مشروع مجتمعي بديل بفعل أزمة اليسار.

هذا ما يوجب القيامَ بتنوير سياسي ثوري كثيف وعميق، وبذلَ جهدٍ دعاويٍّ يشيع معالم المشروع اليساري البديل. بيد أنها مهام تفوق ما بوسع قوى اليسار الجذري، بحالته الراهنة، ما يفرض توحيد جهود مكوناته، وتقريب الرؤى بشأن قضايا النضال وتكتيكاته، وفي مقدمتها المسألة النقابية.

لقد استفاد النظام من ارتداد المد النضالي الجماهيري، في المنطقة، وكما كان صعود الموجة الثورية حفازاً لحركة ٢٠ فبراير، ومجمل حراك العام ٢٠١١، مثلت جرائم نظام الأسد بوجه الانتفاضة السورية، ومجريات الحرب الأهلية بليبيا، وضعف ما حققته السيرورة الثورية في اليمن ومصر وتونس، عاملاً محبطاً.

غير أن تطور السيرورة الثورية، في المنطقة، على نحو ايجابي، حين يستأنف انخراط الجماهير في معارك كبيرة تغير من جديد الواقع السياسي، في بلد أو جملة بلدان، سيبطل المفعول المحبط للردة الرجعية، في المنطقة. ويتوقف عمق هذا التأثير الايجابي المحتمل، في مدى زمني يستحيل التنبؤ به، على عمل الثوريين التحضيري، في الفترة الراهنة، لا سيما في اتجاه الطبقة العاملة، القوة المحركة الرئيسة لكل تغيير جوهري لنظام الاستبداد والاستغلال. وإن كان الواقع الراهن للسيرورة هو هجوم الثورة المضادة، مجسداً بأنظمة متحالفة مع الامبريالية، وحركات مغرقة في الرجعية، بحيث بات ربيع ٢٠١١ أشبه بحلم، فلا شك أننا نجتاز إحدى تلك الفترات حيث تبدو فكرة الثورة ذاتها غير واقعية. ما قال بشأنه تروتسكي: «تندلع الثورة في مجتمع ما، ليس تبعاً لسيرورة مستمرة ثابتة، بل عبر جملة اضطرابات، تفصل بينها مدد متباينة وعريضة، وممتدة أحياناً، تبدو خلالها حتى فكرة الثورة فاقدة أي علاقة بالواقع».