ليس للماركسية ما قبلها أو ما بعدها (3)


فؤاد النمري
2015 / 3 / 11 - 17:41     

ليس للماركسية ما قبلها أو ما بعدها (3)

كانت الورقة الثانية فيما أدرج تحت عنوان " ما بعد الماركسية " هي للسيد الأنثروبولوجي الفرنسي موريس غودلييه (Maurice Godlier) . والقراءة الدقيقة للورقة لا تفيد بشيء عما ينتقص الماركسية، كما يوحي عنوان ندوتهم، بل العكس هو ما قاله السيد غودلييه إذ قال أن ماركس برغم كل صحة نظريته إلا أنه لم يتواجد في غينيا الجديدة حيث العلاقات القبلية تنفي علاقات الإنتاج الرأسمالية وأضاف أيضا إلى العلاقات القبلية العلاقات الإيديولوجية أي أن الرابط الإيديولوجي ينفي الرابط الإقتصادي . غودلييه يقول هذا ـ وهو ما سبق أن قالته الاستاذة سوزان فوسبر ـ كي يفتح الطريق واسعة للهجوم على الاتحاد السوفياتي وينكر دور قوى الإنتاج والبروليتاريا السوفياتية في بناء الإشتراكية كما نقلوا عن غورباتشوف، الأمر المشترك بين جميع المدعوين إلى الندوة في جامعة لندن التي جمعت المرتدين على الماركسية اللينينية لأسباب تخصهم وحيث هم أصلاً كمثقفين من البورجوازية الوضيعة . ولعلنا هنا نتوسع فيما ذهب إليه غودلييه ونشير إلى أن المناخ أيضاً، بالإضافة إلى القبلية والإيديولوجيا، ينفي علاقات الانتاج الرأسمالية كما هو الحال في غرينلاند (Greenland) بل وبنفي كل علاقات من أي نوع كما هو الحال في كوكب المريخ . أما أن ينفي غودلييه ماركس أيضاً في محيطات مراكز الرأسمالية لأن تطورها محكوم بعوامل خارجية وليس بسبب قوى الإنتاج المحلية فيها، كما ادعى، فهو أمر يتعارض مع أسس الماركسية ومنطلقاتها .
وإذا ما كان النظام السوفياتي لا علاقة له بالماركسية وكذلك البلدان التي قلدته حسب غودلييه أيضاً، فذلك يعني وفق مفهومه الغريب العجيب أن ماركس الصحيح تماماً لم يتواجد سوى في مراكز الرأسمالية حتى وإن لم يتحقق فيها شيء من بشارته !! وهكذا إعتقد "الماركسي" غودلييه أن الماركسية كلية الصحة وفق ما يرى لم تفعل فعلها في العالم خلال قرن وستين عاماً !! وهنا نسأل غودلييه مباشرة، إذاً ما حاجة الناس، كل الناس من بروليتاريا وغير بروليتاريا، لماركس ونظريته إن كانت صحيحة كما يؤمن غودلييه أم غير صحيحة كما يعتقد زملاؤه في الندوة !؟
ما يتوجب علينا أن نقطع فيه ههنا هو أن ماركسية غودلييه "الصحيحة" ليست صحيحة . فأولى الحقائق التي واجهها ماركس هي أن النظام الرأسمالي هو نظام عالمي يحتضن العالم بأسره في مراكز رأسمالية ومحيطات تابعة لها، بل وحتى على بلد معزول مثل غينيا الجديدة أن يبادل منتوجاته المحلية بمنتوجات مراكز الرأسمالية وبذلك يكون قد التحق بها . بل إن تعدد مراكز الرأسمالية لا يعني استقلالها التام بمقدار ما يعني معاداتها لبعضها البعض وهو ما يعني ارتباط متبادل أو وحدة تناقض حيث تنميتها المستدامة غير المتكافئة تستدعي الحرب ليلتهم بعضها البعض الآخر . وهكذا فالوحدة العضوبة للعالم بكل أجزائه في حضن النظام الرأسمالي أمر قطعي لا يحتمل النقاش واستثناءات غودلييه بغياب الماركسية في أجزاء كثيرة منه لا تعني إلا غياب الوعي لديه بحقيقة الماركسية التي هي بعمومها نقد للنظام الرأسمالي . وبناءً عليه فورقة موريس غودلييه جاءت فائضة عن الحاجة ولا لزوم لها إذ لم تقل أن ثمة ما هو بعد الماركسية وهو عنوان الندوة، بل قالت أن ثمة ما هو قبل الماركسية . وليس صحيجاً أبضاً ما يقوله السيد غودلية حين يقول .. " ليس تطور القوى المنتجة الجديدة هو الذي يولد أشكال الإنتاج الإجتماعية الجديدة وإنما ظهور أشكال إنتاج إجتاعية جديدة وتطورها هما اللذان يحدثان تطوراً في القوى المنتجة الجديدة " . من يقول هذا ليس له أدنى علاقة بالماركسية حيث أن قوى الإنتاج المتنامية هي التي تقوم بالثورة لتقيم علاقات إنتاج جديدة ,

نحن وكما قلنا للأستاذة في علم الإقتصاد سوزان فوسبر أن ليس هناك "ما بعد الماركسية" نقول للأستاذ في علم الأنثروبولوجي موريس غودلييه أن ليس هناك "ما قبل الماركسية" حيث أن الماركسية بدأت بدراسة علاقة الإنسان بالطبيعة منذ بدأ رحلته التغريبية في إنتاج حياته، رحلة الأنسنة، سواء بدأها الإنسان في غينيا الجديدة أم في غرينلاند أم في أي مكان آخر في العالم، لا فرق .

ما يبدو جلياً بكل وضوح أن جميع المدعوين للمشاركة في الندوة "ما بعد الماركسية" هم من الأعداء الصرحاء للمشروع اللينيني والتجربة الاشتراكية السوفياتية وبأعذار مختلفة . جميعهم أكد أن الاشتراكية السوفياتية لا علاقة لها بماركس وليس هي اشتراكية من الأصل . ما يثير فينا الاستهجان بل والحنق الشديد هو أن أشخاصاً بهذه الدرجة العلمية يحملون درجة الاختصاص العليا، الدكتوراه، في علم ذي علاقة وثيقة بعلم الإجتماع، ومع ذلك يجهلون جهلاً مستهجناً حقائق الأمور والمفاصل الرئيسة في التجربة السوفياتية إلى حد لا يحول دون الشك بل الإعتقاد أن هؤلاء العلماء مأجورون من قبل الطبقة البورجوازية الوضيعة وهي الطبقة الأشرس في معاداة البروليتاريا والإنسانية جمعاء . لا يبطل مثل هذا الإتهام الفاضح سوى إثباتهم أنهم على علم تام بتاريخ التجربة السوفياتية بأدق التفاصيل بل حتى وبأعمها .

ينكر هؤلاء العلماء مسألتين مركزيتين في التجربة السوفياتية وهما الديموقراطية ودكتاتورية البروليتاريا لينتهوا إلى إنكار الاشتراكية في الإتحاد السوفياتي .
وقائع التاريخ السوفياتي تتحدى هؤلاء العلماء أن يثبتوا ولو بحالة صغيرة واحدة أن النظام السوفياتي لم يكن ديموقراطياً إلا إذا عنوا بالديموقراطية السماح لأعداء الاشتراكية الصريحين بالعمل الشرعي ضد الإشتراكية . بل حتى كان ذلك سيكون مسموحاً لو أن أعداء الاشتراكية لا يلجؤون إلى الأعمال الخسيسة في محاربة الاشتراكية كالإغتيالات والتخريب الاقتصادي ودلالة ذلك هو أن البورجوازية الوضيعة وهي الد أعداءً للبروليتاريا عملت بشرعية تامة في الاتحاد السوفياتي حتى تمكنت في العام 1953 من اغتيال الثورة والإرتداد على الاشتراكية .
الديموقراطية الإشتراكية في الإتحاد السوفياتي لم يناظرها أرقى الديموقراطيات البورجوازية في بريطانيا والولايات المتحدة حيث كان يُمنع الشيوعيون من العمل لقتلهم جوعاً هم وعائلاتهم ـ وقد تم منعي من العمل لسنوات طويلة عملاً بتلك الديموقراطية ـ بينما كانت الديموقراطية الاشتراكية ملزمة بتوفير العمل لأعدائها من البورجوازية الوضيعة بما في ذلك الخدمات الصحية والتعليم بشتى درجاته مجاناً لهم ولعائلاتهم . ويذكر في هذا السياق أن كارل ماركس كان قد هاجم الرأسماليين لأنهم مثّلوا بالبورجوازية الصغيرة تمثيلاً فجائعياً بينما البروليتاريا عندما تستلم السلطة، كما أكد ماركس، سترفق بالبورجوازية وتؤمن لها الحياة الحرة الكريمة .
كان ستالين كأمين عام للحزب يسهر بحرص شديد على تنفيذ مقررات المؤتمر العام السنوي للحزب ما بين 1922 حين شغل مركز الأمين العام وحتى العام 1928 بأدق التفاصيل وأهمها عدم السماح بتشظي الحزب إلى أجنحة وهو ما كان يمارسه تروتسكي إلى حد بعيد وبوخارين بحدود أقل رغم أن المؤتمر العاشر للحزب 1921 كان قد اتخذ قراراً ضد التشظي إلى أجنحة بطلب من لينين . في العام 1928 بدأ الاتحاد ىالسوفياتي بتخطيط اقتصاده الاشتراكي وفق خطط خماسية فكان لا حاجة لعقد الحزب مؤتمره العام كل سنة بل كل أربع سنوات ليرى ما تم تنفيذه من الخطة الخماسية المنتهية وتفاصيل الخطة اللاحقة . بين الخطة والخطة كان واجب الأمين العام للحزب ستالين أن يسهر على تنفيذ تفاصيل الخطة الماثلة ؛ وإن طرأ أمر جديد يجتمع المكتب السياسي للحزب ليتخذ بشأنه قراراً بالأغلبية في حال لم يتوفر الإجماع . لم يحدث قط أن أمر ستالين بتنفيذ أي أمر على مسؤوليته الشخصية . ولدحض مزاعم وترهات الذين يهاجمون دكتاتورية ستالين نشير إلى أن المسائل الحربية التي تخول ستالين أن يتخذ كل القرارات بمفرده كونه القائد العام للقوات المسلحة كان يحيل القرار إلى المكتب السياسي . وأنا هنا وللأمانة لا أعلم إذا ما كان قرار فتح أكبر معركة في تاريخ الحروب وقد غطت كل عرض القارة الأروروبية في 12 يناير 1945 قد أقرها المكتب السياسي أم لا بعد أن رفضها جميع أعضاء غرفة العمليات الحربية وكانت ضرورية لإنقاذ إنزال النورماندي من الإبادة التامة المحاصرة كافة جيوشه البريطانية والأميركية حصاراً شديداً في جبال الجاردنز في شمال شرق فرنسا . ولو أنني أرجح بحكم معرفتي بحرص ستالين الشديد على النظام الصارم في الحزب على أن قرار المعركة كان قد أتخذ في المكتب السياسي . كان ستالين شديد الحرص على مصالح حلفائه الرأسماليين وخاصة تشيرتشل وروزفلت . ما يتوجب تأكيده هنا قبل الإنتقال إلى سياق آخر هو أن الخطة الخماسية بمجملها التي تقدم لمؤتمر الحزب العام لإقرارها لا تقنرحها قيادة الحزب بل يقرر تفاصيلها العمال في مصانعهم وقيادة الحزب توافق عليها أو تقترح على العمال تعديل بعض الأمور فيها . خلاصة القول هي أن ستالين كان تابعاً أميناً للحزب وللعمال وهو ما يعني التجسيد التام والكامل لدكتاتورية البروليتاريا.
ينكر هؤلاء العلماء اليساريون المجتمعون في ندوة "ما بعد الماركسية" في جامعة لندن، ينكرون الإشتراكية في الاتحاد السوفياتي . لماذا !؟ هم لم يقولوا لماذا وذلك لأنهم لا يعرفون لماذا !! من حاول باستحياء الاجابة على هذا السؤال هو الأستاذة سوزان فوسبر التي عزت جبروت الاتحاد السوفياتي في الحرب إلى قوة الإيديولوجيا ولم تكن جريئة لدرجة أن تعلن أن التطور السريع للإقتصاد السوفياتي في الثلاثينيات، وهو ما مكنه من مواجهة النازية وسحقها، كان أيضاً بقوة الإيديولوجيا . الاستاذة في علم الاقتصاد تغيّب إلغاء تقسيم العمل لتحل محله فكرة الايديولوجيا وهي الفكرة التي يشاركها فيها العالم الأنثروبولوجي موريس غودلييه بادعاء أن ثمة مجتمعات تعمل بعلاقات الإيديولوجيا بدل علاقات الإنتاج الرأسمالية . البروليتاريا في النظام الرأسمالي تعمل وفق نظام يلغي تقسيم العمل وهي بذلك تشعر بوحدتها العضوية الصلبة في الواقع والتي تسيء وصفها سوزان فوسبر بالإيديولوجيا . البروليتاريا السوفياتية التي تمارس الإنتاج وهي صاحبة الأمر فيه لا تروح إلى الأدلجة طالما أن الواقع ليس بحاجة إلى أن يتلبس الأدلجة . البروليتاريا بقيادة البلاشفة مارست الإنتاج تحقيقاً لمشروع هو مشروعها في التحرر من كل أشكال اٌلإستغلال . كان ذلك هو الواقع بعيته وليس من الأدلجة بشيء .
ليس صعباً أن يتحقق المرء من الصغار الذي يرتع فيه علماء ندوة "فيا بعد الماركسية" إذ ليس بينهم من يستطيع تعريف الاشتراكية !! ليس بينهم من يقول قول لينين وهو أن الإشتراكية إنما هي "محو الطبقات"، وليس بينهم من يزعم أن النظام السوفياتي لم ينحُ إلى محو الطبقات . ليقرأوا تفاصيل الندوة التي عقدها الحزب في العام 1950 ولخصها ستالين في كتابه الهام جداً بعنوان " القضايا الاقتصادية للإشتراكية في الاتحاد السوفياتي " ليتعرفوا على صدقية الاشتراكية في النظام السوفياتي كيلا يعقدوا ندوة أخرى لا يطن فيها إلا الإفك الحرام .

ليس مصيبة الشيوعيين الكبرى هي تعقيد علم الماركسية فقط بل هناك أيضاً المثقفون الانتهازيون المتمركسون الذين لا يتورعون عن شتيمة ماركس مقابل قطعة من السكر من جراب الرأسمالية، وليس أكرم من الرأسمالية في شراء الشتائم على ماركس ورجال ماركس . نحن لا ننسى هذا وخاصة عندما نشرع في قراءة أوراق الذين اجتمعوا في جامعة لندن للبحث فيما بعد الماركسية .
المثقفون الإنتهازيون المتمركسون يعلمون غالباً أنهم لا يستطيعون شتيمة ماركس قبل الخروج من دائرة الماركسية . ولذلك يجد المرء موريس غودلييه يؤكد صحة الماركسية في ورقته لكن لأسفه العميم غير موجودة في مختلف أركان الأرض

(يتبع)