عن اليسار الجذري و الاشتراكية والديمقراطية


هيفاء أحمد الجندي
2015 / 3 / 7 - 19:04     

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، أوما عرف بتجربة الإشتراكية المتحققة، التي لم تكن في واقع الأمرالا رأسمالية دولة وإدارة دولتية للمجتمع، وبعد تدهوردولة الرفاه في الغرب المستمدة من السياسات الكينزية وتآكل الأنظمة الوطنية الشعبوية في الجنوب الناتجة عن انتصار حركات التحرر الوطني، أعلن عن انتصار الرأسمالية وصعود خطاب الليبرالية الجديدة، التي اختزلت بمقولتَي الأسواق والديمقراطية، وحلّ لاهوت السوق، محل التنمية والحداثة والتقدم وعادت الرأسمالية الى أكثر أشكالها فظاظة وبدائية وسعت الى تصفية كل أثر للتنازلات التي قدمتها للطبقات الشعبية، ونما الاستقطاب، أفقيا بين شمال وجنوب وعموديا بين الطبقات وجرى الانتكاس من الانتاج الى الريع وتم استبدال سوق المنتجين بسوق المضاربات المالية، وبطبيعة الحال، سوف يفضي هذا التحول الى الاستغناء عن انتاج السلع، كوسيط في عملية توليد المال ويصبح المال يولد المال عن طريق الأسهم والسندات والمضاربات في البورصات ويصبح الاقتصاد المالي الاستثماري هو الشغل الشاغل للطبقة المترفة، التي تنظر الى عالم الاقتصاد على انه صالة قمار وتلعب فيه لعبة بنك الحظ.
وعندما ينمو رأس المال في البورصات، وهو أمر ضروري لإرضاء المستثمرين، ينخفض سوق العمل وتتراكم الرساميل وعندها لن تجد سوقا محليا للتصريف، فيجري تصديرها الى بيئات خارجية، ويقع على عاتق البنك الدولي الذي يمثل مصالح الأغنياء ورأس المال الكبير، عملية التصدير ويجري الهجوم على اقتصادات البلدان الفقيرة من أجل جني المزيد من الارباح، والمستفيد الوحيد من هذه العملية، هي الطغم المالية الحاكمة التي سوف تسارع وتبدأ بتنفيذ شروط البنك الدولي، كرفع الدعم والخصخصة وانتهاج سياسات اللبرلة الاقتصادية. وبذلك يكون أصحاب الرساميل، قد حمّلوا أعباء ازمتهم للشركاء الاضعف في العالم، عملا بمقولة "خصخصة الارباح وتأميم الخسائر".
وسوف تنعكس هذه السياسات سلبا على الشرائح الدنيا، أي الفقراء والمهمشين ولن يطول بها المطاف، حتى تعلن ثورتها وتجد نفسها في الساحات، تثور وتنتفض ضد أنظمة النهب والقمع وتطالب بالشغل والعدالة والديمقراطية، لتثبت للقاصي والداني بأن الاخيرة، أي الديمقراطية، هي ثورة تتكامل مع مطلبي العدالة والحرية، وبذلك تكون قد سقطت المقولة التي كانت رائجة قبل الثورات أن الاسواق تولّد الديمقراطية فيما الواقع الجديد، برهن من جديد أن أكبر خطر على الديمقراطية هي الليبرالية الجديدة.
وفي هذه الظروف، يمكن أن يخلق التوسع الرأسمالي المحكوم بقانون التراكم والذي يريد أسياده غزو العالم ونهب ثرواته، أوضاعا اجتماعية، هي بدورها انجاز لثورة اشتراكية على صعيد عالمي ولا يمكن أن يكون البديل الا عالميا بسبب عولمة الفقر الناتجة عن التوسع الرأسمالي.
وانهيار تجربة الاشتراكية المتحققة، لا يعني أبدا انتفاء الحاجة اليها، كما روج بعض التائبين من اليساريين. والحاجة الى الاشتراكية مستمرة طالما يوجد في العالم تفاوت في النمو وفي توزيع الثروة، وصراع بين الطبقات.
الانتقال الى الاشتراكية هو عملية تاريخية تراكمية لا يزال يشوبها شيء من الضبابية وعدم الوضوح النظري، بيد أنه لا يمكن أن يختلف عاقلان على بديهيات متفق عليها كالتوازن بين انتاج الثروة وعدالة التوزيع وتغليب الحيّز العام على الربح الفردي. ويمكن بهذا الخصوص أن نذكّر بالاستراتيجيات الثلاثة التي طرحها المفكر المصري سمير أمين في سياق تنظيره لمرحلة الانتقال الى الاشتراكية:
أولى هذه الاستراتيجيات: تحدي السوق ويعني تأطيره ووضعه في خدمة إعادة انتاج اجتماعية تؤمن التقدم الاجتماعي.
ثانيا: تحدي الاقتصاد المعولم بمعنى إرغام النظام العالمي على التكيف مع متطلبات التنمية الخاصة
ثالثا: تحدي الديمقراطية وتعزيز الديمقراطية السياسية والاجتماعية والحريات والعمل على بناء دولة القانون.
بالمحصلة، يجب أن تستند الاشتراكية، الى ثقافة متحررة من الإستلاب الاقتصادي ومن استلاب العمل، ومطورة للديمقراطية ومعولمة ضمن إطار لا يعيد إنتاج الاستقطاب وإنما يضع حدا له.
بالمقابل، تبقى هذه الطروحات معلقة بالهواء ولا يمكن أن تؤخذ على محمل الجد من دون تحديد القوى الاجتماعية، التي يقع على عاتقها خوض معركة النضال الطويل والشاق من اجل الاشتراكية. وهذا كله يتوقف، على مدى تبلور أشكال تنظيمية ديمقراطية، لها مصلحة مشتركة بإنجاز هذا المشروع والتفكير بأهداف مرحلية والمعني بخوض هذه المعركة، هو اليسار الجذري لأنه الممثل الوحيد للجماهير والفئات المفقرة وفضلا عن أنه لم يكف عن نقد الرأسمالية. ومن جانب أخر، يمكن أن تساهم أزمة الرأسمالية وواقع الانتفاضات الشعبية بفتح أفق لمرحلة مد جديدة لقوى اليسار العربي والعالمي. و قد بدأنا نتلمس بداية نهوض في بعض البلدان التي تضررت من سياسات النيوليبرالية .
و لن يتحول اليسار العربي الى قوة حقيقية اذا لم يُجر نقدا ذاتيا يطال مواقفه السابقة و يقطع مع الرؤية السوفيتية حول بناء الاشتراكية التي لم ير البعض حقيقتها على انها مشروع بناء رأسمالية.
نحن أمام تحدّ تاريخي يتطلب تجديد اليسار عالميا وعربيا. وهذه العملية تقتضي:
اولا- تحديد الأسس الفكرية وسِمات المشروع المجتمعي المطروح كهدف تاريخي، وتحديد المراحل الاستراتيجية للتقدم نحو الاتجاه المطلوب. وافتقاد المشروع دفعَ البعض الى تلقف الدارج من المقولات الفكرية كالمجتمع المدني وسواه، والبعض آثر السلامة وبقي قريبا من انظمة الاستبداد أو تواطأ مع الاسلاميين.
في النهاية، نوجز لنقول بانه لا يمكن لليسار الجذري الا ان يكون معاديا للنيوليبرالية وديمقراطيا بحق، لأنه لا يزال يوجد من يحن للشعبوية السوفيتية وينتقد النيوليبرالية ولكنه غير متحمس لفكرة الديمقراطية .
المطلوب هو التطابق بين الفكر والبرامج والسلوك والنضال من أجل الاشتراكية والمجتمع العالمي اللاطبقي ليس طوباويا، فلماذا نتخلى عنه؟!!