ماركس الآخر


عقيل صالح
2015 / 3 / 7 - 18:01     

هل بإمكانكم تخيل ماركس ضاحكاً؟، او راقصاً؟، او هائمآً في الشوارع ثملاً؟. هل بإمكانكم تخيل هذا العبقري نائماً على الاريكة حتى وقت متأخر من النهار؟ هل يمكنكم تخيله ممتطياً حماراً ويجلده بشكل جنوني؟ هل يمكننا تخيله، بطريقة تناقض ثوريته، وصرامته، وجديته طول الوقت؟ لا اعتقد ذلك..

لن نبالغ، اذا قلنا ان ماركس هو الاكثر تعرضاً، في فضاء الفكر، الى التقديس والتصنيم. فهو اول من حول الاشتراكية المثالية الى العلمية، هو من اطاح بالفلسفة الالمانية الكلاسيكية (كانط الى فيورباخ) من عرشها، هو اكتشف علم التاريخ، العوامل الرئيسية التي تجعل اي مجتمع يتقدم نحو الامام.

قدم ماركس، للبشرية، الكثير. وارثه الفكري غير وجه القرن العشرين بأكمله. فهو، وفقاً لهذا كله، الاكثر تعرضاً للتقديس، من قبل أناس يحترمون هذا التاريخ وهذا الانجاز. لكن احترام ماركس شيء، كإنسان، وتبني علمه شيء آخر. ويا لها من مفارقة! كل من يقدس ماركس، لا يفهم علمه في المقابل. بالإضافة الى ذلك، تم تقديس ماركس، في الدول الاشتراكية، وفي الاتحاد السوفيتي مثلاً، تم تصوير ماركس وأنجلز، على انهما قديسان نزلا من السماء، لإنقاذ البشرية، من خلال دين جديد يدعى ((الشيوعية)).

الطريقة الصحيحة لإزالة هالة التقديس هذه، هي قراءة سيرة ماركس، التي لن تضيف اي شيء في المعرفة العلمية الماركسية، ولكنها، ستلعب دوراً بارزاً، في عدم تقديسه. سيرة ماركس، تنفي تماماً، الصورة النمطية عنه، حيث افنى حياته بالكتابة، والدراسة، والقراءة، وتعرض الى النفي، والجوع، والتشرد. هذه الامور حدثت، اعنى، الجوع، والتشرد، والكتابة، والعبقرية إلخ.. ولكنها لا تعبر عن حياة ماركس بشكل كامل.

ماركس الآخر، الحقيقي، هو المولود في الساعة الثانية صباح اليوم الخامس من شهر مايو 1818. ماركس في الحقيقة عاطفي جداً، متعلق جداً بحبيبته، جيني، لدرجة اذا تأخرت في الرد على رسائله، يشك في حبها، حيث تضطر، في رسالة له، في ان تشرح ولاءها المطلق له، وان تطمئن قلبه الغيور، بأنه لها الى الابد.

ماركس الاخر، هو الذي عوقب في الجامعة، بحجزه ليوم كامل، حيث قام بإزعاج الطلبة ليلاً، سكراناً، بصخب شديد. انه الطالب الذي تم اتهامه بحيازة اسلحة غير مشروعة. ماركس الاخر هو خجول جداً، وحسب الفوضوي باكونين، قلق ومتوتر الى حد الذعر، يلبس ثياباً غير مرتبة ووسخة.

بكونه الابن الاكبر، كما تقول السايكولوجيا، فمن الطبيعي ان يكون شخصاً مهملاً جداً. فهو لا يستحم على الاطلاق، لدرجة، ان والدته كانت تحرص على تذكيره، في رسائلها، ان يقوم بفرك جسمه بالماء والصابون، وترتيب غرفته، بشكل دائم. كان يكره الاستحمام، لدرجة انه قام بكتابة البيان الشيوعي، وهو اهم بيان في العصر الحديث، وهو واقف، بسبب الدمامل الناتجة عن اصابته بالبواسير، حيث كان الجلوس، عملية مؤلمة جداً. لا يعرف من الترتيب شيئاً، بيته يمتلئ بالورق، والكتب، والدخان، والغبار السميك. اهماله واضح جداً في طريقة انفاقه للمال، فعندما كان في الجامعة، كان يصرف المال بشكل جنوني، ويتأخر في الرد على والديه، اللذين يقلقان كثيراً عليه، وفي ردوده لا يسأل عن اخوانه واخواته، وكأنهم غير موجودين مثلما يقول والده في احدى الرسالات.

يعشق المزاح والضحك، ففي احدى القصص التي يرويها صديقه الثوري فيلهيلم ليبنكخت، يذهب مع عائلة ماركس في نزهة. مصارعة، وسباق، ورمي الحجارة، جميع تلك الاشياء حدثت في النزهة. وفي احدى المرات الجنونية، قررت المجموعة، ان تشعل منافسة حول من يستطيع ان يسقط اكبر عدد من الجوز من على شجرة الكستناء، يقال ان ماركس، او(مور) - كما يطلق عليه الاصدقاء- كان الاسوأ من بين الجميع، ولكنه لم يقتنع بذلك ابداً، حيث واصل رمي الحجارة في اتجاهات مختلفة، بسرعة جنونية، الى الحد الذي لم يستطع ان تحريك يده اليمنى لثمانية ايام. وفي قصة اخرى، يمتطي ماركس ظهر حمار، ويقوم بجلده بشكل جنوني، وضحكاته، حسب ليبنكخت، كانت تعلو المكان. والمضحك، وفقاً لليبنكخت، ان ماركس كان لا يجيد امتطاء الحمير، حيث لم يتجاوز ثلاثة دروس، ورغم ذلك، بقي، بشكل متعصب للغاية، فوق ظهر الحمار مدعياً انه متمكن من هذه المهارة.

يكره الخسارة، فعندما يخسر في لعبة الشطرنج، يستشيط غضباً، ولا يتقبل فكرة الخسارة، بل انه يدعو الى اعادة المباراة. ففي احدى القصص التي يرويها فيلهيلم لبينكخت عن خسارة ماركس في الشطرنج، فبعد الخسارة، والغضب، والاهتياج، اتى يوماً، معلناً، انه اكتشف طريقة ان للفوز في اللعبة، وبالفعل نجحت هذه الطريقة، في ان تحقق له الفوز ضد كل المتنافسين باستثناء ليبنكخت، مما جعل ماركس يطالب بإعادة المباراة، في منزله، في وقت مبكر من اليوم التالي، حيث بدءا باللعب فور التقائهما، ليفوز ماركس، ويضحك ساخراً منه، ولكن، في المبارتين التاليتين، خسر ماركس مجدداً، وجلسا يلعبان الى منتصف الليل، وكان بود ماركس ان يستمرا في اللعب اكثر، الا ان خادمته لينسين، التي لها قوة هائلة مخولة من جيني نفسها، امرت بوقف اللعب فوراً. لعبة الشطرنج تجاوزت حدها، وعناد ماركس تجاوز حده، لدرجة ان جيني ارسلت لينسين الى ليبنخكت لتقول له ان الانسة جيني تطلب منه ان يتوقف عن اللعب فوراً، لأن عندما يخسر ماركس يصبح عصبياً ومزاجياً للغاية.

يمكنه ان يكون متهوراً جداً، ففي رحلة «شراب» قام بها، إدغار باور، وماركس، ولبينكخت، في المنفى، دخل الثلاثة الى احدى الحانات الانجليزية، ليتم التعرف عليهم ((كالغرباء))، فأنهم ألمان في حانة انجليزية. الاوضاع كانت هادئة، الى ان بدأوا في الحديث عن السياسة، فسخر الانجليز من الامراء الالمان والروس (كانوا يقصدون بروسيا - لكن كان هناك خلطاً شائعآً ما بين روسيا وبروسيا)، ماركس لم يحتمل السخرية، وبشكل قومي غريب، دافع عن الثقافة الالمانية، معلناً ان المانيا هي دار الفنون والعلوم، هي التي انجبت بيتهوفن، وموزارت، وهانديل، بينما لم تنجب بريطانا مثل هؤلاء. يقول ليبنكخت انه لم يسمع ماركس يتحدث الانجليزية بهذه الطلاقة من قبل، وفي فورة عاطفية، بدأت علامات المشاجرة تظهر اكثر فأكثر، الى ان انسحب الثلاثة واستمروا في رحلتهم، فقاموا، تحت تأثير الكحول، باستعراض مارش عسكري في الشوارع، وقام باور، بشكل طفولي، برمي الحجارة على عواميد الانارة في الطريق، ليقوم كلا من ماركس وليبنكخت مثل الشيء، وفي تهور زاد عن حده، تدخلت الشرطة، نتيجة الازعاج الذي تسببه الثلاثة في الثانية صباحاً، وتحولت الرحلة الى ملاحقة، تمكن فيها الثلاثة من الفرار بنجاح.

يكره ان يكون على خطأ، ويكره الانتقاد، فمثلاً، ألف كتاباً، لم ينشره، يسخر فيه، بشكل شخصي، من منتقديه (كينكل، وفيلتش، وروغه)، تحت عنوان ((ابطال المنفى)). وفي قصة ظريفة، احضر زائر الماني معه مجموعة من السيجار، التي يعشقها ماركس، كونه مدخناً شرهاً. ادعى هذا الزائر، الذي يرفض لبينخكت الافصاح عن اسمه، أن هذه المجموعة التي يمتلكها هي من النوع الهافاني الممتاز، فأخذ ماركس يتفحص هذه المجموعة متفقاً على جودتها العالية، بينما كان يعلم ليبنكخت والاخرون بأنها ليست كذلك. وعندما اتضحت الامور على حقيقتها، حاولوا اخبار ماركس الحقيقة، ولكنه ظل على رأيه القديم، واتهمهم بمحاولة خداعه فقط.

ماركس يحتضن كل هذه الخصائص، سواء اتفق معها المرء او لا. انه ماركس، هو كذلك، بكل شفافية، شخص مرح، وفكاهي، الى ابعد درجة. شخص استحواذي، وغيور، ولا يقبل النقد، ولكنه العبقري هو كل ذلك! ولا يمكن النظر دون ذلك! ولماذا نغير كل هذه الصفات؟ لإظهاره كالقديس الذي لا يخطأ؟ ام لنرتبط بشخصه وننسى علمه، وفي محاولة التغطية على هذا العار، عار قلة العلم، نلجأ بالدفاع المشخصن عن ماركس؟. اذا كان هذا هو الحال، فأنا اقف مدافعاً عن (مور) ضد ماركس، واغني معه، ساخراً منكم، عبدة الكتاب الصنميين، قصيدة عدمية كتبها في شبابه:

((بقوة هائجة، اقبضُ واسحقُ البشرية
في الغسق تتثاءب امامنا الهاوية،
ستغرقين وسأتبعك مقهقهاً.))