ورقات في نقد الاقتصاد (ورقة في نقد اللغة)


محمد المثلوثي
2015 / 2 / 26 - 21:20     

عكس الاعتقاد السائد فإن اللغة لا تمثل مجرد "أداة تواصل" بل هي بالأحرى، بالمعنى الواسع للكلمة، وسيلة إنتاج. وهي ، إذا نظرنا للإنتاج الاجتماعي بصفته إعادة إنتاج متوسعة، تمثل أهم وسيلة إنتاجية. ذلك أنها، إضافة لكونها تمثل خزان المعارف المتراكمة، فإنها الوسيلة التي من خلالها يأخذ الإنتاج شكله الاجتماعي، أي شكله الطبيعي بصفته نشاطا بشريا، بغض النظر عن أسلوبه التاريخي. فمن البسيط ملاحظة كون اللغة هي إطار ووسيلة التبادل، بمثل ما هي إطار ووسيلة تقسيم العمل، وهي نفسها يمكن أن تتخذ شكل البضاعة، بل شكل الرأسمال ذاته، لا بالمعنى الرمزي فحسب بل بالمعنى المادي المباشر.
وككل وسيلة إنتاج، فإن اللغة، في المجتمعات الطبقية، ليست أداة "محايدة"، بل وسيلة السيطرة الطبقية. ذلك أن وسائل الإنتاج، وفي مقدمتها اللغة، تتخذ، في ظل شروط استغلال طبقة لأخرى، ومهما بلغ الطابع الاجتماعي للإنتاج من تطور، تتخذ شكل القوة المادية المنفصلة عن المنتجين، شكل قوة غريبة وغاشمة تكبل إليها المنتجين بسلاسلها، وتتعاظم هذه السلاسل مع كل تطور في القوى الإنتاجية للمجتمع.
واللغة هنا إذ تظهر بصفتها لغة المجتمع، فإنها في الواقع تموه عن طابعها الطبقي. فلغة الطبقة السائدة لا تظهر إلا بصفتها لغة المجتمع ككل، بمثل ما أن المصالح الخاصة للطبقة السائدة لا تظهر إلا في شكل مصلحة عامة. فما تقره اللغة كحقيقة عمومية إنما هو في الواقع الحقيقة منظور لها من زاوية طبقية أحادية. وما يتحول بفضل اللغة كشيء طبيعي، هو في الواقع حالة تاريخية متحولة. وما تثبته اللغة كحالة ستاتيكية، ليس عجزا بنيويا في اللغة على استيعاب الحركة، بل قدرة اللغة السائدة على تثبيت كل ديناميكية اجتماعية. وما نجده كمجرد صعوبة لغوية في عرض الظواهر الاجتماعية بصفتها دينامية تاريخية متغيرة، هو تعبير عن قدرة اللغة السائدة على ضبط الوعي العام في إطار ستاتيكية النظام الاجتماعي السائد.
وباللغة يتحول الإنتاج الى إعادة إنتاج، وتتحول إعادة الإنتاج المادي المباشر الى إعادة إنتاج اجتماعية، أي إعادة إنتاج، لا الوسائل المادية فحسب، بل النظام الاجتماعي نفسه ككلية. فاللغة هي الوسيلة التي من خلالها تتم، لا عملية إعادة إنتاج أسلوب الإنتاج السائد فقط، بل إعادة إنتاج الأفكار السائدة وضمان تشابكها مع ذلك الأسلوب الإنتاجي. وهكذا فالبشر وهو ينتجون حياتهم المادية، وفق أسلوب إنتاجي تاريخي محدد، إنما هم ينتجون في نفس الوقت، من خلال اللغة، وعيهم ومجمل أفكارهم عن أنفسهم وعن العالم والمجتمع الذي يعيشون ضمنه.
لكن ما يميز أسلوب الإنتاج الرأسمالي هو أنه أسلوب قائم على تثوير قوى الإنتاج، تثوير دائم ومتعاظم بحيث تصبح فيه هذه القوى الإنتاجية الى قوى مدمرة وهدامة. ذلك أن الميزة التاريخية للرأسمال كونه يتطور أكثر من إمكانيات تحققه، وهذا ما يقود الى الأزمات والاختلالات، بحيث يتحول الرأسمال نفسه الى عائق أمام تطوره الخاص، وتتحول حدوده الى إطار يضيق باستمرار في وجه القوى الاجتماعية التي يفجرها الرأسمال نفسه. وإذ تتمرد القوى الإنتاجية للمجتمع على عقالها المتمثل في الرأسمال ذاته، فإنها تدفع المجتمع الى كسر القشرة التي تأسره ضمن النظام الاجتماعي السائد وأسلوبه الإنتاجي المتناقض. وهذا بالضبط ما يجعل اللغة، كقوة إنتاج وإعادة إنتاج إجتماعي، تندفع بشكل متسارع للتملص من الاطار الضيق الذي يكبلها. وهنا يبرز الاطار اللغوي السائد عجزه عن التعبير عن الظواهر الاجتماعية الناشئة، وشيئا فشيئا تضيق اللغة السائدة بالأفكار الثورية المنبثقة باطراد، وتبرز محدودية هذه اللغة في التعبير عن القوى الاجتماعية الهائجة والمنفلتة العقال، فتتجه سياط النقد الى تلك اللغة ذاتها لتفضح طابعها الايديولوجي والمخزون الطبقي الذي تستبطنه. وهكذا، وفيما يتجه البشر لتغيير شروط وجودهم المادية، فإنهم بالتوازي يواجهون أفكارهم ووعيهم القديم، وبالتالي لغتهم القديمة.
لكن الثورة، وحالما تكشف عن نواياها الحقيقية، فإنها تستثير الثورة المضادة. هذه الأخيرة تأخذ شكل المواجهة المباشرة في أغلب الأحيان، لكنها تتخذ في كل حين شكل إعادة الاستيعاب. فإعادة ترويض القوة الثورية، وإعادة إدماجها ضمن النظام السائد، ولو عبر اصلاحات راديكالية لهذا النظام، مثلت السلاح الدائم للبورجوازية في مواجهة عبيدها. وتتخذ اللغة هنا شكل السلاح الاستراتيجي الذي من خلاله يعمل النظام على استيعاب الهبة الثورية. فتلبس الثورة المضادة لباس الثورة، وتستعير لغتها لتفقدها أي مضمون ثوري. وتستثمر كل الغموض والالتباس الطبيعي في الثورة لتعوم مفردات الثورة وتعيد جرها الى مستنقع النظام السائد نفسه، أي الى لغته، لغة الطبقة السائدة.
أما اللغة القومية فإنها ليست سوى لغة الطبقة السائدة بصفتها الطبقة الاجتماعية التي تمثل تلك القومية بالذات. وهكذا فإن الدفاع عن اللغة القومية والتعصب الشوفيني لها يرتد الى الدفاع عن لغة الطبقة السائدة والتعصب الطبقي لها. بمثل ما أن الدفاع عن المصالح القومية والتعصب القومي عموما يرتد بالضرورة الى دفاع عن المصلحة الخاصة للطبقة التي تسود تلك القومية. والثورة الاجتماعية، كما كشفته محاولاتها السابقة وهزائمها العظيمة، لا يمكن لميدانها أن يكون إلا أمميا. وهو ما يعني بالضرورة كسر الحدود القومية، أي كسر المصالح الطبقية للبورجوازيات القومية المتخذة شكل "مصلحة قومية". وهذا نفسه يعني بالضرورة كسر الاطار اللغوي القومي، والذي لا يمثل، مثلما أسلفنا، سوى الاطار اللغوي للنظام الاجتماعي السائد وللطبقة التي تقوده وتديره.
ومن الطبيعي أن كل عناصر الثورة لا تنبثق من العدم، بل هي تتطور ضمن النظام السائد وفي اطاره وكحصيلة لآلياته الداخلية بالذات، وكوجهه المتناقض. كذلك الأمر بالنسبة للغة، حيث أن كسر اللغة القومية يقع بصفته آلية من آليات النظام الرأسمالي العالمي، لكنه، كما في كل عناصر الثورة الأخرى، يقع بشكل متناقض وأحادي، أي أنه يصب في المصلحة الخاصة للطبقة السائدة وليس للمجتمع. وهكذا فالبورجوازية وأقطابها العالمية إذ تدفع لكسر الحواجز القومية، ومن ضمنها اللغة القومية، فإنها تقوم بذلك كاستحقاق للرأسمال ولفتح وتوسيع امكانيات تراكمه. وما النزاع بين سعي الأقطاب الرأسمالية العالمية الكبرى لتوحيد العالم ضمن لغتها القومية الخاصة، وبين دفاع الأقطاب البورجوازية الصغيرة الأخرى عن لغتها القومية، سوى تعبير عن النزاع بين سعي سادة العالم الرأسمالي الى بسط سيطرتهم الطبقية على مستوى ما فوق قومي، وبين دفاع السادة القوميين الصغار عن موقع ضمن السوق العالمية، سوق تقاسم فائض القيمة الاجتماعي. والثورة الاجتماعية الأممية ليست انتصارا لتوحيد العالم ضمن لغة قومية واحدة (النزعة البورجوازية الكوسموبولتية)، ولا الدفاع عن اللغات القومية، بل النضال ضد اللغة السائدة بصفتها لغة طبقية، بصفتها وسيلة انتاج بورجوازية، بصفتها أداة من أدوات الاغتراب الاجتماعي المعمم، بصفتها حاضنة الايديولوجية السائدة، وبصفتها وسيلة تدجين وقمع اجتماعي في مواجهة كل تمرد على نظام الاستعباد.