مدوّنات آرا خاجادور الشيوعية- الحلقة الثانية


عبد الحسين شعبان
2015 / 2 / 23 - 16:51     

الحلقة الثانية
مدوّنات آرا خاجادور الشيوعية
إن شخصية مثل آرا خاجادور بحاجة إلى تدوين تجربته، لأنها لا تخصّه وحده، بل إن جمهوراً واسعاً معنيٌ بها، من الشيوعيين والوطنيين والقراء بشكل عام، فهو رئيس الفرع الأرمني للحزب الشيوعي منذ كان فتى في العشرين من عمره، ودخل السجن لعشر سنوات قضاها في سجون نقرة السلمان وبعقوبة وبغداد والكوت من العام 1948 ولغاية ثورة 14 تموز (يوليو ) العام 1958، ثم اعتقل في أواخر الستينيات أيضاً، وكان ممثلاً للحزب في منظمة الأنصار الشيوعية العربية التي كان من المؤمل قيامها بدور مسلح من جانب أربعة أحزاب شيوعية عربية، هي العراقي والسوري واللبناني والأردني، وفي الثمانينات قضى بضع سنين من حياته في حركة الأنصار الشيوعية العراقية في الجبال الوعرة، يضاف إلى ذلك أنه شغل عضويات قيادية في الحزب، من اللجنة المركزية إلى المكتب السياسي، وعاصر في عمره المديد شخصيات وطنية عراقية متنوّعة، وكذلك شخصيات عربية وعالمية، لكنه أصبح هكذا مرّة واحدة وبجرّة قلم "خارج الحزب" حسب الوصفات السائدة.
قيادات فائضة عن الحاجة
أقول أن شخصية مثل آرا خاجادور ليست فائضة عن الحاجة أو منتهية الصلاحية بحيث يتم التعامل معها على هذه الدرجة من الازدراء والإساءة والخِفّة، حتى وإن كان قد تقدّم في السن، لكنه جزء من تاريخ الحزب ينبغي التعامل معه على أساس الاحترام والتقدير، بل وتكريمه، وذلك بغضّ النظر عن الملاحظات والأخطاء والتعارضات التي تتولّد خلال العمل، وتلك سمة إنسانية لا محيد عنها.
عندما وصلني كتاب آرا خاجادور بدأت بقراءته واستوقفني بعض المواضيع التي سبق وأن عالجناها في حركة المنبر التي اتخذت موقفاً من القيادة الرسمية وتوجهاتها، وهي التي كان آرا خاجادور حينها أحد أركانها، وحصل الأمر لعدد آخر من القياديين الذين اختاروا النهج ذاته، أي إعلان الاحتجاج، خصوصاً عندما أصبح الصمت يعني تواطؤاً، حين يتم المساس بهوّية الحزب ووطنيته، وهو الموقف الذي حاول المنبر اتخاذه في الحرب العراقية – الإيرانية، خصوصاً برفض المشروع الحربي والسياسي الإيراني، لاسيّما البديل الإسلامي المفروض من الخارج، وكذلك فيما يتعلّق لاحقاً بالموقف من الحصار والمخطط الأمريكي، وأخيراً الموقف من الاحتلال والتعاطي مع المحتل وتقسيماته الطائفية – الإثنية ، ليس هذا فحسب، بل الموقف من التصرّف بالحزب كإقطاعية، سواءً بتاريخه وتنظيماته وأمواله أو بسمعته ودوره الوطني المنشود.
وكما هو أسلوب التعامل في الماضي، فقد استمرّ في الحاضر، فرأي المخالف أمّا أن يتمّ تشويهه وتلصق به أبشع التهم والإدانات ويتم التحريض ضدّه، أو يغيّب وكأنه غير موجود أو هو أقرب إلى كائن من عالم آخر، وهذا ما حصل بالنسبة لآرا خاجادور .أتوقف عند هذه الظاهرة لأنها استمرت على الرغم من تغيّر الظروف والأحوال، حتى أصبح من وظيفة البعض أو من المهمات التي منحها لنفسه بعد خلعه، التصدّي لأي نقد ولأية وجهة نظر خارج نطاق الطاقم المعروف بشكل رسمي أو بشكل شبه رسمي، على نحو لا يخلو من الكراهية والحقد، ناهيكم عن المراهقة السياسية دون أي اعتبار للعمر والتجربة، اللتان لهما استحقاقاتهما، وخصوصاً لمن بلغ من العمر عتيّاً.
معارضو إدارة الحزب
إن المرض المزمن ظلّ متأصلاً، فكل من يرفع عقيرته بالنقد، بل يشرع بالتعبير عن ذلك علناً، يلقى ما يلقاه من إساءات وشتائم، وطالت قائمة المشتومين من مجموعة المنبر التي ضمّت نوري عبد الرزاق ود. مهدي الحافظ ود. ماجد عبد الرضا وأحمد كريم ود. خالد السلام وكاتب السطور إلى بهاء الدين نوري ومجموعته وزكي خيري وسعاد خيري، ثم مجموعة باقر ابراهيم التي ضمّت عدنان عباس وحسين سلطان وآخرين وكذلك تواصلت الحملة ضد عامر عبدالله، وبعدها وصلت الحملة إلى آرا خاجادور وبعض الرفاق الذين معه، خصوصاً عندما بدأ بالتعبير عن رأيه، بنشر أول رسالة مفتوحة له بتاريخ أيلول /سبتمبر 1991، أي بعد غزو القوات العراقية للكويت 2 آب (أغسطس) 1990، وحرب قوات التحالف لتحريرها في 17/1/1991، ومن ثم بداية تدمير العراق وفرض شروط مهينة عليه في إطار عقوبات دولية جائرة.
وعندما أذكر ذلك فلا يعني إن المشتومين هم بلا أخطاء أو نواقص، بل إن بعضهم بقدر ما يوجّه لإدارة الحزب من انتقادات يوجّه إليه أيضاً، ولكن الفارق كبيراً بين النقد والنقاش الفكري والاختلاف حول الممارسات التنظيمية، وبين الشتم والإساءة والتشهير.
إن تاريخ الرسالة له أكثر من دلالة، وحتى لو جاءت متأخرة، فإن انكشاف عيوب الأنظمة الاشتراكية، قد يكون وراء إفصاح خاجادور عن آرائه علناً، خصوصاً وأنها جاءت بعد عاصفة من التغييرات التي شملت بلدان أوروبا الشرقية وانهيار أنظمتها الشمولية، حيث أطيح بجدار برلين بتاريخ 9 تشرين الثاني (نوفمبر) العام 1989 وقبل هذا التاريخ حصل التغيير في بولونيا وهنغاريا اللتان أطاحتا بالنظام الشمولي والاشتراكية البيروقراطية التي سقطت مضرجةً بأخطائها وخطاياها، ثم انهار النظام الاشتراكي في تشيكوسلوفاكيا، وكرّت المسبحة، وحصل كل ذلك بفعل حراك شعبي وصلت أمواجه إلى الاتحاد السوفييتي الذي انهار فيه النظام الشيوعي بعد 70 عاماً من الحكم، وذلك في أواخر العام 1991.
" الرسالة المفتوحة" التي وجهها آرا خاجادور والتي تعلن الفاصل بين زمنين وتاريخين ، ينبغي أن تؤخذ بظروفها الموضوعية الدولية والإقليمية والعراقية، لاسيّما ظروف الحزب الخاصة، حيث تكرّست السياسات الخاطئة للإدارة الحزبية، واستمرت سياسة التفريط وخروج أعداد من الإدارات عليها حسبما يوضح مضمونها.
جدير بالذكر إن رسالة سبقت هذه الرسالة وهي منشورة في الكتاب ومذيّلة بشهر آذار/مارس 1990، لكن تلك الرسالة كانت موجهة إلى اللجنة المركزية، وقد كانت الخطوة الأولى التي بدأ فيها آرا خاجادور " أبو طارق" باختيار الطريق شبه العلني لخوض الصراع، بعد أن وصلت قناعاته إن إمكانية الإصلاح أصبحت مستحيلة (تصوروا إن شيوعياً يصل إلى مثل هذه القناعة بعد نصف قرن قضاها في الحزب، فما الذي يدفعه لاتخاذ هذا الموقف إن لم يكن ثمة فداحة هائلة، وهو الذي تحمّل الكثير من العذابات والآلام).
وهو ما حاول د. رحيم عجينة التعبير عن ذلك، لاسيّما بتسليط الضوء على الأجواء المحمومة السائدة داخل اللجنة المركزية والأساليب الزجرية وغير الرفاقية التي اتبعت في إطار مراكز القوى، حتى وإن جاء ذلك بعد وفاته، وفي المذكرات التي تم نشرها عن دار الكنوز الأدبية في بيروت بتاريخ 1/1/1998، وكان قبله زكي خيري قد تعرّض لكثير من الضغوط والتجأ حينها إلى السويد وهو يحمل مرارات لا حدود لها، سواءً خلال وجوده في دمشق (أواسط الثمانينات) أو عندما انتقل بعدها إلى براغ في ظرف بالغ القسوة والجحود وهو ما يأتي على بعضه في مذكراته " صدى السنين "، وذلك بغض النظر عن المواقف السلبية والخاطئة لهذا الرفيق أو ذاك. وهناك قائمة أخرى ضمّت مذكرات باقرا ابراهيم وعدنان عباس وبعض كتابات حسين سلطان، وهي كلّها تنضح بالمرارة، وبالطبع قبلها مذكرات بهاء الدين نوري وآخرين.
إن كتاب آرا خاجادور الصادر العام 2014 عن دار الفارابي في بيروت ضم بين دفتيه 60 مقالاً تدور حول السياسة الراهنة وتداعياتها وبعض خلفياتها، وإن كانت تتعرّض إلى بعض الجوانب من السياسات السابقة، لكن ما هو راهن منها، بما فيها مناكفات وإساءات جاءت على لسان بعضهم، وحملت أسماء مستعارة مثل " دحّام التكريتي" والذي هدّد خاجادور بكشفه ووجّه كلاماً مباشراً له إذا لم يرعوي ويكفّ عن المهاترات، كما عكست المقالات إضافة إلى الأزمة الداخلية للحزب والموقف من الحصار والاحتلال، مواضيع أخرى.
ويقول د. عبد الحميد برتو في مقدمته الرفاقية عن الكتاب وما احتواه أنه " ينتقد بانسيابية وبساطة ودون تحفظات في طرح النواقص والمعايب والأخطاء، وهو في الوقت ذاته يدافع دفاعاً مستميتاً عن الشيوعية في العراق وعلى النطاق الأممي فيما يراه صحيحاً وإيجابياً وصادقاً".
إن كتاب خاجادور يشكل إحدى الرؤى للأفكار والممارسة الشيوعية، وليست بالضرورة أن تكون صائبة أو صحيحة، لكنها تعبّر عن شيوعية خاصة بفهمه لها، وهو ما سنحاول التطرّق إليه، على الصعيدين النظري أو العملي، علماً بأن الكثير من الآراء ووجهات النظر، لاسيّما السياسية التي جرت مقاربتها تنسجم مع بعض توجّهات عدد من الشيوعيين، خصوصاً بعد الاصطفاف الجديد الذي يتعلق بالهوّية الوطنية للحزب والموقف من الاحتلال.
وبالقدر الذي حاول فيه برتو إبراز القيم المشتركة، لاسيّما الانتصار للمظلوم، سواء كان الظلم الذي جاء من خصم أو من ذوي القربى، فإنه يبرز أهمية وواجب التضامن والانحياز للعدالة وضد العدوان وهي القيم الأصيلة للشيوعيين خارج نطاق التشوّهات التي لحقت ببعضهم، والتي أشاعت نوعاً من الكراهية والثأر والانتقام، في زمن يتّجه فيه العالم أكثر فأكثر إلى التصالح والتسامح والتواصل الإنساني، وخصوصاً في المجتمعات المتحضّرة، أقول بقدر فائدة تناول مثل هذه القضايا الداخلية، فإن عرض المواقف السياسية بتفاصيلها وعموميتها أمر ضروري ومفيد أيضاً، للتمييز بين مواقف الشيوعيين المناوئة للاحتلال ورفضهم التعاطي معه، وبين من انساقوا تحت مبررات " الأمر الواقع" و"عدم الانعزال" وغير ذلك من التبريرات.
صراعات واختراقات
ويمكن تلخيص أهم ما تضمّنته الرسالتان اللتان تشكّلان أساس رؤية آرا خاجادور للتطوّرات السياسية، ولاسيّما ما يتعلق بالأزمة الداخلية هو: استمرار المكتب السياسي الجديد (المقصود بعد آذار /مارس/1989) أي بعد تنحية خاجادور، في منهجه الانتقامي والتفريط في كوادر الحزب والعزلة بين القيادة والقاعدة الحزبية لدرجة يقول " لم يشهد تاريخ حزبنا وضعاً كالذي نعيشه اليوم، حيث الصراعات الشخصية، الذاتية الواقع والمنشأ، وتفشي الخروقات والانتهاكات، وضعف اليقظة والحرص والتنكيل بأصحاب الرأي المختلف أو المعارض، وبروز مراكز قوى قائمة على أسس متخلّفة أبعد ما تكون حتى عن قيم المواطن العادي من أبناء شعبنا، الذي يتسامى فوق التعصّب بكل أشكاله وألوانه العرقية والإقليمية والعشائرية والدينية والطائفية وغيرها " (ص 22).
ويعرض خاجادور قضية اختراق شغلت "القيادة" من العام 1985 حتى العام 1987، وما صاحبها من ابتزاز، وفي مكان آخر يسميها " القضية العار" (ص-28) والتي كادت أن تطيح بأمين عام الحزب، حيث طرحت مسألة " سحب الثقة" عنه، من جانب جماعة دمشق، معتبراً ذلك سلوكاً تآمرياً وتكتيكاً غريباً، دون أن يعني ذلك الدفاع عن نواقصه وأخطائه حسب تعبيره. ويتناول بعض النزعات الوصولية التي أدت إلى إلحاق الضرر بسمعة الحزب وهيبته واعتباره في نظر أصدقائه وأشقائه، فضلاً عن أعضائه وكوادره، محمّلاً ذلك "للقيادة".
كما تناولت الرسالة ما أسمته الأسئلة العريضة حول مالية الحزب، وكمّياتها والجهة المسؤولة عنها، وطرائق ضبطها، وتدقيقها، وطريقة الصرف، وأوجهه، وحمايتها من التصرّف الشخصي والتسلّط الفردي عليها، تلك التي ظلّت أسئلة حائرة، ليس لكادر الحزب وقواعده، بل حتى للمكتب السياسي الذي كان خاجادور عضواً فيه، والذي أثار تقوّلات كثيرة، حتى وإن تغلّفت بالعمل السري وخصوصية وحساسية مثل هذه الأسرار.
وعلى نحو صريح يحمّل خاجادور، الأمين العام السابق المسؤولية بقوله كان عليه " ألاّ يدخل في مساومات وصراعات لا مبدأية، وأن يتحلّى بالجرأة والشجاعة في مواجهة الواقع الراهن..." ويخلص إلى استنتاج مفاده : إن ما يواجهنا الآن ليس المزيد من " الجمل الثورية"، بل من الفعل الثوري الواقعي!!!