العمل المأجور ... والعمل غير مدفوع الأجر..؟؟


علي الأسدي
2015 / 2 / 21 - 23:55     

العمل المأجور ... والعمل غير مدفوع الأجر..؟؟

علي الأسدي

دخل الاقتصاد السياسي في ستينيات القرن الماضي مصطلحا جديدا خص به رؤوس الأموال المهاجرة الى خارج بلدانها بحثا عن فرص أكثر ربحا اتخذ مسميات عدة مثل الشركات فوق القومية والشركات متعددة الجنسية ورأس المال المعولم. لكن تعدد المسميات لا يغير من واقع ان سبب هجرة رؤوس الأموال الى خارج أوطانها الأصلية هو الاستحواذ على أكبر جزء من قيمة قوة العمل المأجور بتعبير كارل ماركس " فائض القيمة "بعدما لم يعد ذلك ممكنا في الموطن الأم. وقديما تردد في الفولكلور الشعبي العراقي وربما في مجتمعات أخرى مقولة شعبية بليغة المعنى قيلت في الحث على السعي لتعظيم الثقافة والعلوم أينما كان ذلك ضروريا التي مفادها " تعلم العلم ولو في الصين " آخذين في الاعتبار موقع الصين القصي في آخر المعمورة الذي لا يجب أن يثني الساعين عن تحقيق ذلك الهدف. ودون علم مسبق ربما بتلك المقولة الحضارية ذهب أرباب رؤوس الأموال الى الصين الشعبية والى غيرها من بلدان العالم القصية مدفوعين وراء أهداف ربحية لا ثقافية ولا علمية كمن ينفذ مقولة " ابحث عن الربح ولو في الصين". أرباب رؤوس الأموال الأجانب الذين يحطون الرحال هناك يتنافسون فيما بينهم ومع الدولة المضيفة على استغلال العمل المأجور فيها الى أقصى حد ممكن.

وسعيا لجذب رؤوس الأموال الأجنبية اليها تستخدم الدول المستقبلة للاستثمارات الاجنبية سلطتها لكبح مستوى الأجور داخل حدودها الى حدود مستوى الكفاف كحافز لاقناع أرباب رؤوس الأموال من الدول الأخرى للاستثمار في اقتصادها المحلي. أرباب رأس المال الذين وجدوا ان نظام الأجور في بلادهم لا يتيح لهم استغلال قوى العمل كما يشائون وخاصة في تلك التي تأخذ بنظام الحد الأدنى للأجر. ومبدأ الحد الادنى للأجور هو واحد من المكاسب التي تحققت للعمال بنتيجة نضالاتهم وتضحياتهم الجسيمة عبر السنين ولم يكن أبدا هبة من الرأسماليين والدولة الممثلة لمصالحهم. لهذا يعارض أرباب العمل مبدأ الحد الأدنى للأجر لأنه يعيقهم عن فرض ادنى لمستوى للأجور يتيح لهم مضاعفة أرباحهم. وبالنسبة لدولة كالصين التي لها استثماراتها الخاصة في الدول الغنية وإمعانا في الاستحواذ على أعلى نسبة من فائض قيمة العمل المأجور تصطحب شركاتها الاستثمارية عمالها الصينيين معها أينما كان ذلك ممكنا. وتفعل دولا أخرى ككوريا الجنوبية الشيئ تفسه متجنبة استخدام عمال الدول المضيفة حيث مستوى الأجور فيها أعلى مما في بلدها هي.

ان ظاهرة هجرة رؤوس الأموال لم تكن واسعة الانتشار قبل حلول السبعينيات من القرن الماضي التي شهدت ظهور مدرسة شيكاغو للاقتصاد برمزها المعروف استاذ الاقتصاد الأمريكي ميلتون فريدمان التي نادت بالغاء القيود على حركة النقود محليا وعالميا. وتحت تأثيرأفكار تلك المدرسة تبنت الحكومات الرأسمالية في العالم وبخاصة الولايات المتحدة والدول الأوربية سياسات مالية ونقدية تقوم على افتراضات النظرية التي تحت تأثيرها شهدت أسواق المال تدفقا نقديا غير مسبوق مرسلة اشارات خاطئة عن رخاء اقتصادي لا رجعة عنه.

لكن الاسراف في الانفاق المالي لم يحقق التنمية الاقتصادية ولم ينعكس على الاقتصاد الحقيقي بزيادات واضحة في مستويات تشغيل الأيدي العاملة العاطلة أو في انتاج السلع المادية ، بل اقتصر بنسبة عالية منه على المضاربات في أسواق الأسهم والسندات والعقارات والاسراف في الاقراض بدون قيود. لكن ما أن حل عام 2007 حتى ظهرت عيوب المدرسة النقدية ونتائج تطبيقاتها الكارثية على الاقتصاد العالمي مع تفجر فقاعة الرهن العقاري في الولايات المتحدة التي مالبثت أن انتقلت كأمواج السونامي الى دول العالم الأخرى محدثة ركودا اقتصاديا ما زالت آثاره قائمة حتى اليوم. وما تزال أفكار تلك المدرسة مهيمنة على سياسات صندوق النقد والبنك الدوليان ومنظمة التجارة الحرة والاتحاد الأوربي.

لكن قد يطرح السؤال التالي : وماذا عن رأس المال الأمريكي الذي توطن في الصين الشعبية أو الفلبين أليس من الممكن تحقيقها أرباحا في أمريكا ذاتها صاحبة الاقتصاد الأكبر والأكثر تقدما في العالم..؟؟ الاجابة بوضوح ، ان ما يقرر هجرة أو بقاء رأس المال الأمريكي في بلاده هو هامش فائض قيمة قوة العمل المأجور وبالتالي نسبة الأرباح التي يحققها في الصين فهي الأعلى مما في أمريكا نفسها. وتبعا لذلك استحق من أرباب رؤوس الأموال الأمريكيين الانتقال والتوطن في دول كالصين والفلبين الأقل تطورا اقتصاديا. لكن الهجرة لم تبدأ عشوائيا ، بل بعد تفاهم مسبق بين ممثلي أرباب رؤوس الأموال وحكومات الدول المستقبلة لرؤوس الأموال وبعدما تكون قد أجرت تغييرا ملائما في سياساتها الاستثمارية ونظم الأجور والعمل يشبع رغبة المستثمرين ويشجعهم على الانتقال. وليس ذلك فحسب فانهم حصلوا على ضمانات بأن أي تعديلات سيتم اجراءها على السياسة الاستثمارية مستقبلا لن تتم قبل مرور فترة زمنية يتم الاتفاق حولها مع المستثمرين الاجانب.

وما نلاحظه بنفس الوقت تصاعد ظاهرة هجرة معاكسة هي هجرة رأس المال البشري من الدول النامية الفقيرة الى الدول المتطورة الغنية في أوربا وامريكا الشمالية وأوستراليا. رأس المال البشري بالنسبة لأي دولة هو ثروة لا تقدر بثمن بها تتقدم وتتطور اقتصاديا وعلميا وثقافيا ودونها تتخلف وتندثر ، ولم يخطأ كارل ماركس في تقييمه لرأس المال البشري عندما وصفه بقوله المشهور " الانسان أفضل رأسمال." وقبله بقرنين من الزمن وصف الاقتصادي وعالم الفيزيولوجي الانكليزي وليم بيتي (1623 – 1687) قيمة العمل البشري بقوله " ان العمل أبو الثروة والأرض أمها ". فعندما تفقد القوى العاملة فرصة بيع قوة عملها في وطنها الأم تجوع وتفقد قدرتها على الحياة وثقتها بحياة أفضل في وطنها ، والدولة التي تخفق في توفير العمل لابنائها يتخلى عنها أفضل مواطنوها بهجرتهم الى دول أخرى لها من السبل ما يجعلها قادرة على استيعابهم والاستفادة من قدراتهم لصالح تطورها هي. بعبارة أخرى يهاجرعمال بلد ما الى بلدان أخرى من أجل بيع قوة عملهم بسعر ليس فقط يبقيهم على قيد الحياة بل على تجديد ذاتهم وعائلاتها وتحسين مستوى معيشتهم وضمان مستقبلا واعدا لأبنائهم. ولتحقيق ذلك الأمل يخاطر العمال الشباب بحياتهم وبما يملكون فيعبرون البحار والمحيطات بحثا عن أقرب بصيص ضوء يهديهم الى شواطئ العالم الجديد مع علمهم بأنهم ربما يفقدوا حياتهم وهو آخر ما يملكون. وهذا ما يحصل بالفعل في أيامنا هذه فقلة منهم فقط من يسعفهم الحظ ويصلوا الى بر الأمان. ففي عام 2014 وحده فقد أكثر من ثلاثة آلاف من أولئك الشباب سيئي الحظ حياتهم قبل أن يصلوا محطتهم الأخيرة في الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسط ممن أبحروا من ألسواحل الأفريقية خاصة.

ورغم ما يشاع عن رفض هجرة الاجانب الى الدول الرأسمالية فان حكوماتها لا تخفي رغبتها بقبولهم والسماح لهم بالعمل برغم نسب البطالة العالية بين مواطنيهم منطلقين من واقع ان زيادة عرض القوى العاملة يؤدي الى انخفاض مستوى الأجور مما يشجع رؤوس الأموال التي هاجرت الى بلدان أخرى بالعودة ثانية الى أوطانها ومن جانب آخر تشجع رؤوس الأموال الأجنبية للقدوم والاستثمار في بلدانهم. من الجانب الاخر ان قدوم العمالة الأجنبية من الدول الفقيرة يسد النقص السائد في العمالة المحلية لاشغال مهنا يتحرج عن إشغالها موطنوا البلد المتطور. وبالاضافة الى ذلك هناك في بعض الدول المتقدمة من يسعى لتحقيق الارباح بأي وسيلة مستغلين حاجة العمال المهاجرين وبخاصة غير المؤهلين منهم حيث يجري تشغيلهم لساعات عمل طويلة بعد نهاية يوم العمل محققين بذلك ليس فقط فائض القيمة النسبية بل فائض القيمة المطلقة.

الموضوع المشترك بين هجرة قوة العمل وهجرة أرباب العمل هنا هو فائض القيمة ففي حين يسعى العامل للحصول على أعلى سعر لقوة عمله خلال وقت العمل المحدد ( العمل الضروري) ، بينما يسعى أرباب العمل على ابقاء سعر قوة العمل الضروري في أدنى مستوى ممكن له ليحصلوا على أقصى هامش لفائض قيمة قوة العمل. أما جزء يوم العمل غير المدفوع الأجر ( العمل الفائض) فيسعى أرباب العمل الى عدم التنازل عن أي جزء منه لصالح العمال مكرسين جزء منه لتركيم رأسمال جديد يضاعفون به نشاطاتهم الانتاجية ومن ثم أرباحهم في تسلسل دائم تعبر عنه معادلة ماركس ( رأسمال – بضاعة - رأسمال أكبر). بينما يغطي بالجزء المتبقي من العمل الفائض( فائض القيمة ) تكاليف الانتاج بالاضافة الى تكاليفه الاستهلاكية الذاتية.

يدرك الرأسماليون جيدا ان أي تغيير في العلاقة بين الأجور وفائض القيمة سيكون لحساب أحدهما على حساب الآخر وكلما كان عنصر العمل ضعيفا كلما كانت كفة رأس المال أقوى ومن هنا يقف الرأسماليون ضد وحدة العمال وتعزز تنظيماتهم النقابية. فيسعون لشراء قادة منهم لتسيير الحركة العمالية لصالحهم. لقد اكتشف العمال عبر تجاربهم الكفاحية ان توحدهم واصرارهم على الوقوف ضد استغلال ارباب العمل هو السبيل للاعتراف بحقوقهم وتنفيذ مطالبهم في الأجور وساعات العمل والراحة والعطلات والمكافئات والتقاعد والتعويضات وغيرها.عندما تحدث كارل ماركس في كتابه رأس المال الذي أنفق 40 عاما من عمره في كتابته عن جشع أرباب العمل لتعظيم فائض القيمة وتركيم رأس المال لم يخص به فترة زمنية معينة أو مرحلة محددة من تطورالرأسمالية. لقد ربط ذلك الجشع بالرأسمالي وبالرأسمالية ذاتها طالت مرحلتها أم قصرت ولن ينتهي الاستغلال الا باطاحة الرأسمالية واقامة الاشتراكية بديلا لها بقيادة الطبقة العاملة وما يزال تشخيصه صائبا حتى يومنا هذا.
علي الأسدي 22 - 2 - 2015