عطو و هابرماس و نهاية مدرسة فرانكفورت / 3-13


حسين علوان حسين
2015 / 2 / 21 - 17:15     

في أول فقرة له ، يقول الأستاذ وليد يوسف عطو المحترم : "سقوط الحتمية التاريخية . تقوم نظرية المعرفة الماركسية ,بحسب د . هشام عمر النور في كتابه : ( تجاوز الماركسية الى النظرية النقدية ) – ط 1 – 2012 – رؤية للنشر والتوزيع ,على فلسفة الهوية والتطابق Theory of truth correspondence , فالحقيقة تصور مطابق للواقع ,لذا فانها تستند على التقابل بين الذات والموضوع, فالتصور ينشا في الذات لكنه يجب ان يكون مطابقا للواقع , اي لموضوع ما . لذلك فان نظرية المعرفة الماركسية تقوم على منطق ثنائي يجعلها تتسم بالدوغمائية ,فالمعرفة اما ان تكون صائبة او خاطئة , ذاتية او موضوعية . وقد اختارت الماركسية لنفسها ان تكون دائما صائبة وموضوعية وكلانية مطلقة ."
إنتهى .
نجد في النص الموجز أعلاه ست لكمات خرافية مسددة بكرم من جانب واحد : الحتمية ، التقابل بين الذات و الموضوع ، الدوغماتية ، المعرفة إما صائبة أو خاطئة ، الكلانية ، المطلقية . و الله كريم يحب الكرماء . تقول العرب : إن ضربتَ ، فأوجِعْ ؛ و إن أولمت ، فأشبِعْ . و لكن المشكلة تكمن في أن الخرافات ترتد على مطلقيها ، و لا تغني و لا تسمن من جوع . و قبل الخوض فيها بالتفصيل واحدة فواحدة لإثبات عدم وجود حرف صحيح واحد فيها البتة ، لا بد من التطرق إلى زيف المنهج و الموضوع المفروض علينا فرضاً هنا .
عندما يطلع القارئ غير الدارس للماركسية على الخرافات الست أعلاه لا بد له أن يستنتج حالاً بأن مؤلفات ماركس و إنجلز كافة إنما انصبت على البحث في الحتمية و التقابل بين الذات و الموضوع و الدوغماتية و صواب و عدم صواب المعرفة و الكلانية و المطلقية . هل هذه فعلاً هي موضوعات الماركسية ؟ الجواب الذي يعرفه كل مطلع على الماركسية هو : قطعاً ، لا . كل أعمال ماركس و إنجلز تنصب على تحليل و نقد النظام الرأسمالي و إقتراح بديل متاح من داخل ذلك النظام من شأنه تحرير البشر من على الأقل من الشرور الستة (و ليست خرافات الست أعلاه للأستاذ وليد يوسف عطو المحترم ) لهذا النظام بفعل القوانين التي اكتشف ماركس و إنجلز عملها فيه و التي تتسبب دوماً في نشوب كوارث : 1. الأزمات الاقتصادية الدورية ، 2. التغريب ، 3. البطالة ، 4. غياب العدالة الاجتماعية و الاقتصادية ، 5. الهيمنة الإمبريالية و 6. الحروب المهلكة جراء التنافس على السيطرة على العالم . و عليه فإن الباحث الذي يجد في نفسه الكفاءة و المقدرة على التحدث عن "سقوط (كذا)" الماركسية (و أولهم الأستاذ وليد يوسف عطو المحترم و أستاذه) أن يثبت لقراء الحوار المتمدن و للبشرية جمعاء أن تحليل ماركس و إنجلز للمجتمع الرأسمالي و توجهاته المدمرة للبشرية جمعاء غير صحيح بالدليل القاطع و المتمثل في إثباته بأن التاريخ لم يسجل منذ وفاة ماركس عام 1883 و لحد عام 2015 (أي : طوال القرن و ربع القرن الماضي) حصول أي أزمة اقتصادية في العالم الرأسمالي البتة ، و أن التغريب بين نتاج العمل و ملكيته قد زال و أنتهى لأن أرباب العمل من أساطين الشركات المتعدية الجنسية باتوا يحرصون يومياً على توزيع منتجات العمل بأنفسهم على العمال المنتجين أنفسهم بالقسطاس و لا يسرقونها لأنفسهم مثلما كان الأمر في عهد ماركس ، و أنهم قد أقلعوا تماماً عن تسليع البشر (و خصوصاً النساء و الأطفال) ، كما انتفت البطالة بعد أن تم تشغيل كل البشر القادرين على العمل في كافة أرجاء العالم بلا استثناء و على طول الخط ، و أن العدالة الاقتصادية و الاجتماعية هي التي أصبحت السائدة منذ وفاة ماركس للآن بدليل عدم هيمنة طغمة 20000 من أباطرة رأس المال حالياً على مصائر سبعة مليارات من البشر ، و أن تاريخ الرأسمالية لم يشهد أبداً اندلاع أي حروب استعمارية و لا كونية و لا محلية منذ عام 1883 و لحد الآن للحفاظ على المصالح الإمبريالية ! هل يستطيع الأستاذ وليد يوسف عطو و أستاذه و هابرماس أو كائناً من كان الإثبات أو حتى مجرد الزعم بأن البشرية طوال القرن و ربع القرن الماضي لم تشهد ويلات البربرية الإمبريالية جراء الشرور الستة الملازمة لها أعلاه التي حذرنا منها ماركس و أنجلز منذ أكثر من قرن و نصف ، و التي أبادت و شردت شعوباً بكاملها و طحنت البشرية في دوامة لا نهاية لها من الحروب و الكوارث و الأزمات من كل صنف و نوع ، و التي لم يسبق أن شهد لها التاريخ مثيلاً ، و التي تتفاقم باستمرار حتى باتت تهدد مستقبل وجود الجنس البشري برمته على سطح هذا الكوكب المخرب بيئياً جراء نهم النهب الإمبريالي الذي لا حدود له ؟ بالطبع لا . لماذا ؟ لأن التاريخ أثبت و سيبقى يثبت صحة التوصيف الماركسي للنظام الرأسمالي القائم .
ما ذا يعني إذن تجاهل كل هذه الكوارث من طرف من يدعي أنه من أساطين الإلتزام بالنظرية النقدية ؟ ألا يعني هذا بالضبط التزييف للنقد الاجتماعي عبر نسفه من أساسه العقلاني و المادي الملموس يومياً عبر كل قارات العالم ، بلا استثناء ؟ هل أن مشكلة الوضع البشري الكارثي القائم في العالم الآن هو جرائم إمبراطورية الشر الإمبريالي ، أم الفكر الماركسي الذي أثبت التاريخ صحته مراراً و تكراراً ؟ فإذا كان مكمن الشر كائن بالضبط و بالتحديد في شمولية هيمنة هذه الإمبراطورية ، المستهترة بكل القوانين و القيم ، على كل شيء في هذا العالم ، فما بالنا - ما دمنا ندعي الإلتزام بنقد الوضع البشري لتحسينه - ننصب نفسنا مدافعين عن اقتصاد السوق (مثلما يفعل هابرماس و شركاه) و ننبري للدفاع عن جرائم حلف الناتو (مثلما فعل هابرماس و شركاه) ، و عندما يثور الطلاب ضد الظلم نسمي ثورتهم بـ "الثورة الفاقدة للشرعية" مثلما فعل هابرماس عام 1968 ، و ننقد بالأكاذيب المفضوحة الفكر الماركسي الصحيح ؟ أي نقد إجتماعي هذا ؟
النظرية النقدية لهابرماس و شركاه و العقلانية و الوضع البشري الحالي
عندما نتحدث عن النظرية النقدية الاجتماعية ، فمن نافلة القول أن تكون هذه النظرية معنية بالنقد الاجتماعي . و لكي يستطيع المرء أن ينجح في النقد الاجتماعي يجب أن يكون قادراً على التمييز و الحكم على الأفعال و المواقف . و القدرة على التمييز و الحكم تتطلب أولاً استخدام العقل لكي يكون نقدنا عقلانياً . و عندما نصف أي فعل بالعقلانية فلابد أن المقصود من هذا الوصف هو اكتشافنا بأن معتقدات و أفعال هذا الفرد أو الجماعات أو المؤسسات أو الدول مبنية على الحقائق و المنطق . و لكي نستطيع أن نحكم على المعتقدات و المواقف و الأفعال بالعقلانية ، يجب أن نعرف "الأسباب" و "الدوافع" الكامنة وراء أي ظاهرة عقلانية . و هذا يعني شيئين : أ) أنه بدون معرفة الأسباب لا يمكن إطلاق وصف العقلانية على المواقف و الأفعال ؛ ب) أن عقلانية المواقف و الأفعال مرتبطة جدلياً بعقلانية مسبباتها . هنا تتجلى العقلانية كـ "علاقة" بين المواقف و الأفعال و التصرفات و المعتقدات و التصورات للأفراد الحقيقيين و الأفراد الاعتباريين من جهة و أسبابها الموجبة من جهة أخرى . و لضمان أن تكون الأسباب المقضية لتجلياتها عقلانية ، ينبغي أن يكون الوضع الاجتماعي الزمكاني للذوات العقلانية عقلانياً ؛ أي أن المسببات الوجودية لتصرفاتها و أفعالها و معتقداتها عقلانية . و لكن التاريخ و الواقع يثبت لنا يومياً لاعقلانية الوضع البشري القائم وفق حتى أدنى مقياس معقول للعقلانية .
أين العقلانية في تحول تراكم قوة العمل - التي لا يتحقق الإنسان كمخلوق نوعي متميز قادر على الخلق و الإبداع في حياته بدونها - المسروقة من طرف الطغمة السياسية-الاقتصادية إلى ورم سرطاني عالمي متنامي أبداً هو الأداة للنظام الرأسمالي العالمي في الهيمنة على المجتمع البشري المعاصر برمته ؟ كيف تبلور تراكمها (الذي شرحه ماركس و إنجلز لنا بكل جلاء و بنكران ذات متفرد) عبر ثلاثة قرون في إمبراطورية شاملة تامة رهيبة هي الإمبراطورية الأمريكية التي تستعبد شعوب العالم الضعيفة كلها ، بضمنها شعبها نفسه ، و تمسخ عقلانية الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية و القانون الدولي ووو بتحويلها إلى مجرد لعب إلهاء مفذلكة مصممة بالضبط للضحك على الذقون و عقلنة ديمومة الهيمنة و القوة الغاشمة ؟ أين العقلانية في نظام فرض الحروب الأمريكية و الأطلسية على كل العالم الذي تستخدمه الإمبريالية الأمريكية لإدامة نظامها العالمي الجديد في البلقان و أفغانستان و العراق و سوريا و فلسطين و اليمن و ليبيا و الصومال و السودان و أوكرايينيا ، و حروب الحصار الاقتصادي على كوبا و كوريا و إيران و روسيا و فنزويلا ؟ بأي حق عقلاني تحتكر الولايات المتحدة الأمريكية لنفسها حق خلق الأعداء الوهميين بنفسها و من ثم إصدار الحكم بتجريم الآخرين و قتلهم - هم و كل من يتواجد بقربهم - بفرق الإعدام على الهوية المدربة خصيصاً لهذا الغرض أو بالصواريخ الفتاكة الموجهة عن بعد على أرقام هواتفهم الخلوية مثلما تفعل المافيات الإجرامية ؟ انثروبولوجيا اللغة ؟ عن أي لغة يتحدثون ؟ لغة الصواريخ و أسلحة الدمار الشامل التي تفرض الأمر الواقع رغماً عن الشعوب المستضعفة ، أم لغة الكلام بعد أن أصبحت حتى دلالات اللغة تعني بالضبط ما تقوله هذه الإمبراطورية الإرهابية ، و كل كلام يقوله غيرها مجرد هراء ؟ ما معنى مصطلح : الإرهاب ؟ الجواب هو أن المعنى النافذ للإرهاب هو من تقرر الإمبريالية الأمريكية أن تلصق به هذه التهمة بغية شن الحروب عليه أو تصفيته على النية أو الهوى ممن يصور لها عقل قادتها المجانين - من أمثال ترومن (بطل هيروشيما و ناكازاكي) و آيزنهاور (بطل حرب كوريا) و كندي (بطل خليج الخنازير و أزمة الصواريخ الذرية ) و جونسن (بطل حرب الفيتنام ) و ريغن (بطل احتلال غرينادا) و قلنطون (بطل حرب البلقان و حصار الإبادة على العراق) و البوشين (بطلي حرب الخليج و احتلال أفغانستان و العراق) و أوباما (بطل تدمير سوريا و ليبيا) - أنهم من معارضي هيمنتها البربرية . أي عقلانية يمكن تصورها عندما تنقلب معاني الكلمات و المفاهيم بفعل احتكار هذه الإمبراطورية لنفسها حتى حق تقرير معاني المفاهيم اللغوية للبشرية أجمع ، و كل ذلك بمساعدة الثمانية الكبار و الناتو و صندوق النقد الدولي و منظمة التجارة العالمية و طغمة الشركات المتعدية الجنسية و الكونغرس الأمريكي و حتى الأمم المتحدة نفسها ؟ أي عقلانية في هيمنة امبراطورية الشر الكونية الشاملة هذه التي تحتكر بعملتها الورقية ملكية كل ثروات الطبيعة أرضاً و سماءً و بشراً ، و التي تلغي كل الهويات ، عدا إدامتها لهوية طغمة حفنة الأباطرة إزاء سبعة مليارات من الفقراء المنهوبين المركوبين ؟ حتى ظلم شريعة الغاب أعدل و أقل شمولية بما لا يقاس من ظلم إمبراطورية الشر هذه ؛ إذ لم تعرف الغابات أسوداً ذات أنياب نيوترونية ، و لا فرق إعدام قذرة ، و لا أسلحة الدمار الشامل ، و لا حكم إمبراطورية الناهبين الحرامية ، و لا تنفيذ الإعدامات بالجملة بالطائرات و الصواريخ الموجهة . هذا هو جنون البربرية بعينه الذي تحدث عنه ماركس يتحقق ماثلاً أمام أعيننا . و لكن إمبراطورية الشر هذه تنجح بيسر في عقلنة حتى البربرية .
السؤال الآن : كيف يحصل كل هذا و تسكت النظرية النقدية لهابرماس عنه ، ثم تدعي لنفسها العقلانية ؟ و لماذا ، بدلاً من دراسة هذا الوضع و تعرية لاعقلانيته بلا هوادة مثلما كان يفعل ماركس و إنجلز و غيرهما من آلاف الكتاب التقدميين المنصفين عبر التاريخ ، يتحدث لنا هابرماس عن الخرافات المثالية من قبيل : العقلانية التواصلية و المجال العام و الأخلاق العالمية و التواصل الكوني و ضرورة الأخلاق اليهودية-المسيحية و غيرها من الخرافات ؟ أي نمط من العقلانية تستخدم هذه النظرية إذن في النقد ؟ ألم يشاهد هابرماس و شركاه بوش الإبن يشن حسب الهوى حرباً رهيبة مجنونة على العراق أبادت خمسة ملايين إنسان و هجرت عشرة ملايين إنسان ، و يبرر نزوته هذه بالأكاذيب اللغوية الفاضحة و أهمها تصريحه الموثق لجاك شيراك بأن احتلاله للعراق ضروري لصد خطر ياجوج و ماجوج عن إسرائيل ؟ إذن ، عن أي أخلاق يهودية-مسيحية يتحدث هابرماس و شركاه ؟ و السؤال الأهم الأخير هو : ما دوافع هذه المواقف غير العقلانية لهابرماس و شركاه ، و لمصلحة من تصب ؟
يتبع ، لطفاً .