البداية من (G 5) في رامبوييه بباريس 1975


فؤاد النمري
2015 / 1 / 30 - 15:46     

البداية من (G 5) في رامبوييه بباريس 1975

يعاني العالم اليوم ما يعاني من مختلف أشكال العيوب والمثالب بسبب وقوعه بمختلف دوله وأقطاره وخلافاً للقانون الأساسي للتاريخ تحت حكم طبقة لا تمتلك أدوات الإنتاج وهي طبقة البورجوازية الوضيعة التي لا يتقدمها إلا الحمقى . والحمقى لا يدركون أن التاريخ لا يعود إلى الخلف كما حذّر منهم كارل ماركس وفردريك إنجلز في الفصل الأول من البيان الشيوعي (المانيفيستو) 1848 . وللحقيقة فالحمقى لا يتواجدون فقط في طبقة البورجوازية الوضيعة بل يتواجدون أيضاً بين مجندي الرأسماليين كما بين القوميين الوطنيين، وبين مجندي العمال الشيوعيين . نعى الخمسة الكبار (G 5) النظام الرأسمالي في العالم بإعلان رامبوييه 16 نوفمبر 1975 لكننا لم نعدم في الثمانينيات أحمقين، مارغريت ثاتشر في بريطانيا ورونالد ريغان في الولايات التحدة، يعلنان أنهما سيعيدان النظام الرأسمالي إلى الحياة من خلال انتهاج ما سموه "الليبرالية الجديدة" (New Liberalism) وهو ما يعني الحرية المطلقة للعمل للرأسمالي بدون أدنى شروط (Laisser Faire) بعيداً عن أي تدخل للدولة وأي أثر لاتحادات العمال، غير أن هذين الأحمقين لم يجنيا سوى الخيبة والفشل الذريع بجانب الصيت السيء . وفي العمل القومي والوطني ما زال الحمقى ينادون بالتحرر الوطني مع أن ثورة التحرر الوطني وصلت إلى نهايتها في العام 1972 وتحررت كافة بلدان العالم كما أعلنت الأمم المتحدة ـ أما لماذا لم يقم في البلدان المتحررة إقتصاد مستقل فهو عيب ذاتي لا شأن له بمقاومة الإمبريالية والصهيونية كما يختبئ هؤلاء الحمقى الوطنيون وراء أصابعهم . وما أكثر الحمقى اليوم بين مجندي العمال الشيوعيين الذين ما زالوا يصرون على تنفيذ خارطة الطريق التي كان قد رسمها كارل ماركس وفردريك إنجلز في البيان الشيوعي قبل أكثر من قرن ونصف القرن جرى خلالها انهيار النظام الرأسمالي العالمي 1975 الذي كان البيان الشيوعي خارطة له قصراً . مشروع لينين في الثورة الاشتراكية العالمية 1917 كان قد أنجز تفكيك النظام الرأسمالي العالمي لكنه كان قد بدأ بالتفكك في العام 1953 بسبب الحمقى في قيادة الحزب الشيوعي وخلفها قوى البورجوازية الوضيعة السوفياتية وأبرزها القوات المسلحة . انهار النظام الرأسمالي وانتقل العالم الرأسمالي بقضه وقضيضه من الاقتصاد الرأسمالي (Capitalism) إلى الاقتصاد المعاكس وهو الاقتصاد الاستهلاكي (Consumerism) بل وامتد عمر الاقتصاد الاستهلاكي لأطول مما ينبغي، إمتد لأربعة عقود 1975 ـ 2015 استطاعت البورجوازية الوضيعة خلالها أن تستهلك وتدمر كل ما أنجزته البروليتاريا خلال القرن العشرين وتطيح بها من على المسرح الدولي بعد أن كانت صاحبة الدور الرئيسي عليه .

قال الحكماء أن الحماقة تورث التهلكة، وها نحن نرى اليوم العالم يتسارع بقيادة حمقى البورجوازية الوضيعة إلى التهلكة، إلى الكارثة الكونية، تبدأ الكارثة بانهيار الدولار ونظام النقد الدولي وفي الحال تتوقف عجلة الإنتاج حيثما كانت في العالم . ذلك حقاً هو كارثة كونية !! البشرية اليوم أمام مهمات لن يساعد فيها حمقى الرأسماليين والوطنيين . الماركسيون الشيوعيون حقاً هم وحدهم المدعوون اليوم، بعد التطهر من كل حمق، إلى ابتداع ما يمكن أن يخفف من وقوع الكارثة الكونية لئن استحال تحاشيها . ويقول الحكماء أيضاً أن الحماقة أعيت من يداويها، غير أن الشيوعيين الحقيقيين وديدنهم النضال المرير دون مكافأة كما علماهم لينين وستالين لن يعييهم مداواة شتى الحماقات كلما تيسّر ذلك .
الحماقة الأم التي في رحمها تتخلق شتى أنواع الحماقات تأتت من الإنعطافة الكبرى في تاريخ العالم والتي تمثلت بانهيار النظام الرأسمالي مما اسنوجب نعيه بإعلان رامبوييه والانعطاف إلى مسار لصوصي أبلغ لصوصية من مسار الإمبريالية، مسار تقوده البورجوازية الوضيعة الطفيلية التي تعتاش على حساب الطبقات المنتجة في مجتمعها حيث تزامن ذلك مع قيادة عصابة خروشتشوف المرتدة على الاشتراكية لبروليتاريا العالم . المحرك الوحيد على مسار الرأسمالية الإمبريالية هو قوة العمل (Labour Power) التي تحوّل مواد الطبيعة الخام إلى بضاعة قابلة لمبادلتها بالنقود في السوق، سواء تم ذلك في المركز الرأسمالي أم في محيطه . مع بداية السبعينيات تعطل هذا المحرك ولم يعد يعمل بفعل أربعة عوامل رئيسية ..
1 . المشروع اللينيني الكبير المتمثل بالثورة الاشتراكية العالمية التي تقتضي أول ما تقتضيه تقويض النظام الرأسمالي في العالم وهو ما أنجزته حتى قبل السبعينيات . وفي هذا السياق نذكر قرار المؤتمر العام التاسع عشر للحزب الشيوعي السوفياتي 1952 وينص على انهيار النظام الامبريالي في وقت قريب .
2 . المشروع النازي في ألمانيا بعد أن ضيّقت الامبراطوريتان الاستعماريتان بريطانيا وفرنسا الخناق على الرأسمالية الجرمانية وحرمتاها من أية محيطات تمتص فائض الإنتاج فيها بموجب معاهدة فرساي مما حدا بالحزب النازي إلى تحويل ألمانيا إلى قلعة عسكرية تهدف إلى استعباد العالم لألف عام، فكان أن قوضت ألمانيا الهتلرية أكبر امبراطوريتين استعماريتين في التاريخ، بريطانيا وفرنسا في العام 1940 .
3 . ثورة التحرر الوطني 1946 ـ 1972 حيث استطاعت سائر الدول المستعمرة والتابعة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية أن تعلن استقلالها وتفك روابطها مع مراكز الرأسمالية العالمية فلا تعود تمتص فوائض الانتاج في تلك المراكز وهو ما سبب خنق النظام الرأسمالي في أرضه .
4 . ورثت الولايات المتحدة بعد الحرب كل التركة الإمبريالية وغدت فيما بعد الحرب، وبعد فرانكلن روزفلت، الحارس الأول للرأسمالية الإمبريالية . لم تحسن أميركا التصرف والقيام بوظيفتها كحارس وحيد للإمبريالية فكان أن استنفذت نفسها سريعاً في مقاومة الشيوعية وأنفقت على الحرب في فيتنام آخر دولار حقيقي في جعبتها فكان الصيحة الأعلى في واشنطن في عامي 72 و 73 هي انهيار النظام الرأسمالي في أميركا وفي العالم وهو ما استدعى أول قمة للخمسة الأغنياء (G 5) وهي اليوم (G 7) .

من المعروف في علم الإقتصاد أن الحرب هي الحل السهل لأزمة النظام الرأسمالي الدورية حيث تستهلك الحرب كل فائض الإنتاج المتراكم في السوق المحلية للمركز الرأسمالي . لكن الإدارة الأميركية الحمقى ظلت تحارب الشيوعية حتى استهلاك الأصول وليس فائض الإنتاج فقط وهو ما من شأنه أن يطرد الرأسماليين من دائرة العمل الرأسمالي . يضاف إلى ذلك قيام الإدارة الأميركية ببناء صناعات طارئة في كوريدورات الثورة الشيوعية مثل النمور الستة في شرق وجنوب شرق آسيا وأخيراً في الصين الشيوعية نفسها ـ حتى انتهى الأمر لأن تكون الولايات المتحدة نفسها مستعمرة للصين الشيوعية .
نحن لا نسخر من حماقة الإدارة الأميركية حين نؤكد أن حرب أميركا على الشيوعية أطال من عمر الشيوعية التي كانت قد بدأت بالانهيار حين قامت البورجوازية الوضيعة السوفياتية بالاستيلاء على السلطة السوفياتية في العام 1953 لكن الحرب الأميركية ضيقت حرية الحركة على البورجوازية السوفياتية في مقاومة الشيوعية فطال عمر الاتحاد السوفياتي حتى التسعينات وإلا كان قد انتهى قبلئذٍ .

ما لا يناقش فيه حتى حمقى مختلف الطبقات هو الأزمة الحادة للنظام الرأسمالي العالمي مع بداية السبعينيات حيث اضطرت الولايات المتحدة في العام 1971 إلى الخروج من معاهدة بريتون وودز (Britton Woods) التي تنظم أسعار تحويل العملات وتشترط الغطاء الذهبي ل 20% من الكتلة النقدية للدولة، وهو ما أدى إلى خسارة الدولار لحوالي 25% من قيمته خلال عامي 72 و 73 . صحيح أن حرب الولايات المتحدة على الشيوعية في فيتنام كانت السبب المباشر لتلك الأزمة العميقة لكن جوهر الأزمة كان تراجع عجلة الإنتاج البضاعي الرأسمالية وإلا لما اضطرت الولايات المتحدة الخروج من معاهدة بريتون وودز .

كان علينا أن نذكّر بكل هذا توطئة للدخول في موضوعنا الرئيسي، ولنبدأه بالسؤال الفيصل القاطع التالي .. كيف عالج العالم الرأسمالي أزمته العميقة في بداية السبعينيات ؟؟
من الغريب حقاً أن عامة ممتهني العمل السياسي، بل جميعهم لم يذكروا لا من قريب أو بعيد أية معالجات لتلك الأزمة ولا أهمية أول قمة انعقدت للخمسة الأغنياء (G 5) في قلعة رامبوييه في باريس في 16 نوفمبر 1975 والتي انعقدت لمعالجة أعمق أزمة ألمت بالنظام الرأسمالي وكانت فعلاً قد انهت حياته للأبد . المعالجة سواء أحيت النظام الرأسمالي، كما يعتقد العامة، أم أنهته، كما أؤكد بقوة، فهي في الحالتين خلقت عالما جديداً له شروطه السياسية المختلفة ومع ذلك يتجاهل ممتهنو السياسة تلك الشروط الأمر الذي يدل على أن هؤلاء السياسيين إنما هم أفّاقون منافقون حتى أنهم لم يذكروا كلمة واحدة عن معالجة تلك الأزمة . يذكرنا هذا بقرار التقسيم 47 لفلسطين وقد رفضه زعماء العرب وألحقوا بالشعب الفلسطيني ظلامات لا حصر لها فكان أن طمسوا القرار نهائيا كيلا يعرف العرب أنه كان لصالحهم وأنهم خانوا الشعب الفلسطيني .
قرر الخمسة الكبار في رامبويية إنهاء مقاطعة التجارة مع المعسكر الاشتراكي لكن ذلك لن يعمل على امتصاص أي فائض للإنتاج في مراكز الرأسمالية حيث تجارة المعسكر الاشتراكي تنحصر في مبادلة السلعة بالسلعة . كما قرروا أيضاً مساعدة الدول النامية على شكل قروض سهلة ومساعدات مالية . تبعاً لهذه السياسة تستورد الدول النامية كل فائض الإنتاج في مراكز الرأسمالية لكن بفلوس المراكز التي لا يتم تسديدها وليس بفلوسها وهو ما يعني أن البضاعة الرأسمالية لا تجلب نقدا للعملية الرأسمالية مما يؤدي إلى موتها .
القرار في البند رقم 11 في إعلان رامبويية هو بالضبط إعلان نعي النظام الرأسمالي إذ يقول القرار ..
" أما بخصوص قضايا النقد فنحن نؤكد مقاصدنا في استقرار متعاظم .. ستعمل سلطاتنا النقدية على مواجهة الإضطرابات في الأسواق والتغيرات غير الطبيعية في أسعارصرف العملات... وهو ما سيعمل عليه صندوق النقد الدولي في جلسته القادمة في جمايكا "
صندوق النقد الدولي في جلسته التالية في جمايكا استجاب بالكامل للسياسات النقدية الجديدة التي قررها اجتماع الخمسة الكبار فألغى الغطاء الذهبي اللازم للعملة، واتخذ أخطر قرار عبر تاريخ البشرية الطويل والمتغير فقرر أن تحدد الدولة نفسها سعر صرف عملتها بما يتوافق مع الأهداف العامة للصندوق .
قرار الخمسة الأغنياء في البند رقم 11 من إعلان رامبوييه وإذعان صندوق النقد الدولي له وضع حداً لمرحلة تاريخية من عمر البشرية وأشّر لمرحلة جديدة مختلفة .
بالإعتماد على ذلك القرار اللصوصي أصبح في وسع الولايات المتحدة ولها كتلة نقدية تصل مثلاً إلى 600 مليار دولار قيمتها الفعلية لا تساوي أكثر من 400 مليار دولاراً من دولارات الستينيات، أصبح في وسعها أن تجعل دولاراتها بقيمة 800 مليار بقيمة دولارات الستينيات، بل وبوسعها أيضاً أن تطبع ما تشاء من النقود دون مسؤولية عن ضمان أية قيمة لها.
في عهد الإمبريالية كان يمكن وصف الدولة الإمبريالية مثل أميركا أو بريطانيا أو فرنسا باللص الشرعي حيث كانت هذه الدول تبادل فائض الانتاج البضاعي المتحقق فيها بالمواد الخام من الدول المستعمرة وهو ما يأخذ شكل التبادل التجاري الشرعي . أما اليوم فأميركا تستورد فائض الإنتاج المتحقق في الدول المستقلة مقابل دولارات مفرغة من كل قيمة . صحيح أن دولاراتها موقعة من قبل وزير الخزانة الأميركي لكن وزير الخزانة نفسه يعترف بأنه ليس على استعداد للإيفاء بأية قيمة ترمز لها أو تشير إليها دولاراته .
الخطورة العظمى لذلك القرار ليست في تحويل أميركا من دولة إمبريالبة إلى لص دولي يسرق العالم، على أهمية ذلك، بل هي إزاحة القيمة الرأسمالية (Value) من البضاعة، وهي إنتاج الرأسمالية الوحيد، إلى النقد الذي لا قيمة له بدون بضاعة . ذلك فقط ما يعنيه قرار الخمسة الكبار بتعاونها للمحافظة على أسعار صرف عملاتها في أسواق النقد . قرار يفصل قيمة النقد عن البضاعة وهو فصل تعسفي أخرق حيث أن النقد ما هو إلا معاير لقيمة البضاعة ويستمد قيمته من قيمة البضاعة . وهكذا فقد كان القرار في البند الحادي عشر من إعلان رامبوييه هو قرار نعي للنظام الرأسمالي، فالدولة التي لا تنتج بضاعة ليست بالقطع دولة رأسمالية .
كل الذين يعتقدون أن الدول الرأسمالية الكلاسيكية ما زالت دولاً رأسمالية عليهم أن يراجعوا أنفسهم ما لم يثبتوا أن هذه الدول ما زالت تنتج البضاعة وتصدرها ولا تستوردها، البضاعة وليس الخدمات . على مثل هؤلاء العقائديين أن يتخلوا عن مجمل السياسات المتحدرة إليهم من عصر الإمبريالية ليأخذوا بسياسات أخرى معاصرة .
من الحماقة بمكان أن يناضل الشيوعيون لتحويل مجتمعاتهم إلى الاشتراكية في حين أن مجتمعاتهم لم تعد رأسمالية بل يمكننا القول أن مجتعاتهم عادت إلى ما قبل الرأسمالية، إلى الإنتاج الفردي البورجوازي إعتماداً على الحكمة الماركسية التي تقول أن التاريخ يمكن أن يكرر نفسه لكن بصورة هزلية كراكوزية .
نحن ندعو الشيوعيين القدامى ألا يتخلوا عن الماركسية منارة التقدم .



.