من الدعاية إلى التحريض - البلشفية طريق الثورة


آلان وودز
2015 / 1 / 24 - 12:52     

البلشفية طريق الثورة

الفصل الأول: ميلاد الحركة الماركسية الروسية

من الدعاية إلى التحريض


آلان وودز
ترجمة: هيئة تحرير موقع ماركسي

فاجأت السياسة الجديدة، التي أكدت على ضرورة التحريض الثوري الجماهيري، الكثيرين. ولم يتأخر الاقتصاديون المستقبليون، من قبيل بوريس كريشيفسكي، في انتقاد فرقة تحرير العمل بسبب "نزعتها الدستورية" المزعومة، حيث لم يفهموا ضرورة رفع الشعارات الديمقراطية جنبا إلى جنب مع المطالب الطبقية الأولية للبروليتاريا. وفي الوقت نفسه، فإن العديد من المناضلين القدامى، حتى في روسيا، كانوا مترددين في الاعتراف بتغير الوضع. العادات القديمة لحلقات الدعاية الصغيرة رفضت أن تختفي بسهولة. وفي كثير من الحالات، لم يتحقق الانتقال إلى التحريض الجماهيري إلا بعد جدالات حادة وانقسامات. في مقالته "حول: مهام الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي خلال المجاعة في روسيا" (1892)، قدم بليخانوف التعريف الماركسي الكلاسيكي للفرق بين الدعاية والتحريض: «يمكن للعصبة أن تكتفي بالدعاية بالمعنى الضيق للكلمة، لكن الحزب السياسي لا يمكنه ذلك أبدا... يقدم الداعية العديد من الأفكار إلى شخص واحد أو عدد قليل من الناس... لكن التاريخ تصنعه الجماهير... وبفضل التحريض يصقل ويتقوى الارتباط الضروري بين "الأبطال" وبين "الحشود"، بين "الجماهير" وبين "قادتها"» .






مصنع روسي في أواخر القرن 19

شدد بليخانوف على ضرورة قيام الماركسيين بالانغراس بين أوسع فئات الجماهير بواسطة شعارات التحريض، بدءا بالمطالب الاقتصادية الأكثر إلحاحا، مثل يوم العمل من ثماني ساعات: «وهكذا سوف يقتنع جميع العمال - حتى أكثرهم تخلفا- بوضوح بأن تطبيق على الأقل بعض التدابير الاشتراكية هو أمر مهم للطبقة العاملة... إن مثل هذه الإصلاحات الاقتصادية، مثل تقصير يوم العمل، جيدة وإن حققت فوائد مباشرة فقط للعمال».[1]

وهذا ما يفند كذبة الإصلاحيين المعارضين للماركسية الذين يزعمون أن الماركسيين "ليسو مهتمين بالإصلاحات". على العكس من ذلك، لقد كان الماركسيون على مر التاريخ في طليعة النضال من أجل تحسين أوضاع العمال، يناضلون من أجل أجور أعلى وظروف عمل أفضل وساعات أقصر ومن أجل الحقوق الديمقراطية. لا يوجد الفرق بين الماركسية والإصلاحية في "القبول" أو عدم القبول بالإصلاحات (يكفيك أن تطرح المسألة بهذه الطريقة لكي يظهر لك أنه ادعاء سخيف). الموقف الماركسي هو أن الإصلاحات الجدية لا يمكن تحقيقها إلا من خلال تعبئة قوة الطبقة العاملة في النضال ضد الرأسماليين ودولتهم، هذا من جهة، أما من جهة أخرى فإن السبيل الوحيد لترسيخ المكاسب التي حققها العمال وضمان كل حاجياتهم هو تحطيم سلطة رأس المال وإنجاز التغيير الاشتراكي للمجتمع، وهو ما لا يمكن تحقيقه بدون النضال اليومي من أجل الإصلاحات في ظل الرأسمالية، والذي يساعد على تنظيم وتدريب وتثقيف الطبقة العاملة، وتحضير الشروط للقضاء النهائي على أعدائها.

تم إعداد الظروف للانتقال إلى العمل التحريضي الشامل بفعل تطور الرأسمالية الروسية نفسها. فخلال عقد التسعينيات واصل منحنى حركة الإضراب في التصاعد، وقد وقفت سان بطرسبورغ على رأس الحركة. فهناك كانت أقوى كتائب الطبقة العاملة، أي: عمال الصلب، والذين كان 80% منهم يتركزون في مصانع كبيرة، مثل مصنع بوتيلوف. كانت سان بطرسبورغ هي المكان الذي تنمو فيه الطبقة العاملة بأسرع وتيرة. فما بين عام 1881 وعام 1900، نمت الطبقة العاملة في العاصمة بنسبة 82%، بينما نمت في موسكو بنسبة 51% في نفس الفترة. وكانت نسبة عالية نسبيا من البروليتاريين في بطرسبورغ يعرفون القراءة والكتابة: 74%، مقابل 60% لبقية روسيا.

كانت ساكنة جديدة وشابة. في عام 1900، كان أكثر من ثلثي سكان سان بطرسبورغ قد ولدوا خارج المدينة، أما بالنسبة للعمال فقد جاء أكثر من 80% منهم من خارجها. لقد جاءوا من جميع أنحاء الإمبراطورية، فلاحون جوعى ومفلسون، يبحثون بيأس عن عمل. أولئك الذين كانوا محظوظين دخلوا مصانع النسيج والمعادن الكبيرة. وكان القطاع العمالي الحاسم في سان بطرسبورغ هو صناعة الصلب، بينما ساد في موسكو قطاع صناعة النسيج. كان أكثر من نصف عمال سان بطرسبورغ يشتغلون في مصانع كبرى تضم 500 عامل أو أكثر، في حين اشتغل ما يقرب من خمسي العمال في مصانع عملاقة تضم أكثر من 1000 عامل. بينما الذين واللائي لم يحالفهم ويحالفهن الحظ في إيجاد عمل، فقد صاروا متسولين أو باعة متجولين أو عاهرات.

كان يوم العمل طويلا: ما بين 10 و14 ساعة، وكانت ظروف العمل مروعة وشروط السلامة منعدمة. في كثير من الأحيان كان العمال مجبرين على العيش في أكواخ مكتظة، حيث زاد من سوء ظروف السكن الهواء الملوث والمياه القذرة وضعف خدمات الصرف الصحي، وهو ما أعطى لسان بطرسبورغ سمعتها بكونها العاصمة الأسوء من حيث الشروط الصحية في أوروبا. كانت أوضاع عمال النسيج وحشية بشكل خاص، حيث العمل لساعات طويلة جدا والقيام بأعمال رتيبة وسط ضجيج يصم الآذان، في ظروف غير صحية، وحرارة ورطوبة عاليتين. انعكاسات هذا الوضع على صحة العمال تظهر من خلال تقرير لمفتش حكومي: «... يمكن التأكد من ذلك بالعين المجردة من خلال المظهر الخارجي [للعمال]. إنهم يعانون من الهزال ومنهكين وشاحبين وصدورهم غارقة: إنهم يعطون الانطباع بكونهم مرضى خرجوا للتو من المستشفى».[2]

كان حوالي نصف عمال النسيج من النساء. هذه الشريحة الأكثر استغلالا بين صفوف الطبقة العاملة، والتي كانت تتشكل أساسا من فلاحات وصلن حديثا إلى المدينة وعاملات بدون مؤهلات، أعطت الدليل على كفاحيتها. وقد ظهرت بالفعل الإمكانيات الثورية لعمال النسيج في إضرابات عامي 1878 و1879، عندما تمت أول محاولة لربط الإضرابات بالحركة الثورية. لقد أصابت هذه الإضرابات السلطات بالخوف وأجبرتها على تقديم تنازلات. قانون الشغل الأول، الذي صدر في 01 يونيو 1882، نص على منع تشغيل الأطفال دون سن 12 سنة في المصانع، وتحديد يوم عمل الأطفال، الذين يبلغون ما بين 12 و15 سنة، في ما بين ثمانية و15 ساعة. وكان هناك قانون آخر عام 1885 حظر العمل ليلا في بعض فروع الصناعة، الخ.

لم يتمكن العمال من التمتع بثمار انتصارهم. لقد كانت الإضرابات انعكاسا لطفرة اقتصادية، تتعلق بالحرب الروسية التركية، لكن خلال الركود الذي تلى ذلك، أخذ الرأسماليون ثأرهم. خلال عقد الثمانينيات تسبب ركود شديد في موجة ضخمة من تسريح العمال والبطالة، وخاصة في قطاع صناعة الصلب. تم رمي الآلاف من العمال وأسرهم إلى براثن الفقر المدقع. أما أولئك الذين بقوا في المصانع فقد كانوا مضطرين لإحناء رؤوسهم وصر أسنانهم غيظا بينما أصحاب المصانع يخفضون بلا رحمة من الأجور. ومع بداية عقد التسعينات، بدأ الاقتصاد يتعافى مرة أخرى. وصار التغير ملحوظا بشكل خاص عام 1893 وما بعده. انطلاق المشاريع الكبرى لبناء السكك الحديدية حفز النمو في صناعة الصلب في سان بطرسبورغ وجنوب روسيا. وكانت حقول النفط والفحم مزدهرة. وعلى الفور بدأت نسائم جديدة للصراع الطبقي في الهبوب. فتبلورت فكرة التحريض على الفور في مخيلة الشباب داخل روسيا. وبالفعل كان العديد من الشباب قد بدأوا يفقدون صبرهم من قيود العمل في حلقات الدعاية. وقد انطلقت الشرارة من عند الاشتراكيين الديمقراطيين في المناطق الغربية من ليتوانيا وبولندا، حيث أظهر إضراب لودز ومظاهرة عيد العمال 1892 الطبيعة المتفجرة للوضع.

كانت روسيا القيصرية، على حد تعبير لينين الشهير: "سجنا حقيقيا للشعوب". وقد شهد الاضطهاد القومي ارتفاعا في حدته في فترة الردة الرجعية الشاملة التي أعقبت اغتيال ألكسندر الثاني. وتحت إشراف بوبيدونوستسيف القمعي عمل كلبا حراسة النظام الأوتوقراطي، أي: الشرطة والكنيسة الأرثوذكسية، على سحق كل ما تشتم فيه رائحة المعارضة، من المفكرين المستقلين، مثل ليو تولستوي، إلى الكاثوليكية البولندية واللوثريين البلطيق واليهود والمسلمين. الزواج الذي يتم في الكنائس الكاثوليكية لم يكن معترفا به من قبل الحكومة الروسية. وتحت حكم نيكولاس الثاني، صادرت الدولة ممتلكات كنيسة المسيحيين الأرمن. وتم إغلاق أماكن العبادة الخاصة بالكالميك والبوريات*. ورافقت عملية الترويس** القسرية ما يشبه عملية التحويل الإلزامي إلى الإيمان الأرثوذكسي.

تطورت الصناعة في وقت مبكر جدا في الجهات الغربية للإمبراطورية الروسية، في ليتوانيا ومملكة بولندا. هذه المناطق التي كانت أكثر تصنيعا من الشرق، وأكثر ثقافة وكانت تعرف وجود تأثير ألماني قوي، شهدت تغلغلا سريعا للحركة الاشتراكية الديمقراطية. لكن الحركة العمالية هناك كانت معقدة جدا بالمسألة القومية. كان العمال والفلاحون في بولندا والبلطيق المضطهدون قوميا من قبل روسيا القيصرية، يتحملون نيرا مزدوجا. خلق تقطيع أوصال بولندا، التي قسمت بين روسيا والامبراطورية النمساوية المجرية وبروسيا، شعورا مريرا بالاضطهاد القومي، والذي كانت لآثاره عواقب وخيمة على التطور المستقبلي للحركة العمالية. وقد تركت ذكريات هزيمة 1863، والقمع المروع الذي أعقبها، كراهية هائلة لروسيا بين البولنديين.

السلطات الروسية، التي كانت لها حساسية خاصة تجاه الاضطرابات في المحافظات البولندية، عملت على سحق المجموعات الاشتراكية الديمقراطية البولندية الأولى بحملة شرسة من الاعتقالات والتعذيب وأحكام طويلة بالسجن مع الأعمال الشاقة. لكن الحركة، مثلها مثل وحش متعدد الرؤوس، كانت تعوض كل رأس يقطع بخلق رأسين جديدين على الفور. وسرعان ما تحولت منطقة البلطيق إلى قاعدة للتحريض والدعاية الماركسيين، وشكلت معبرا لدخول الأدبيات غير القانونية والمراسلات بين فرقة تحرير العمل في المنفى والمجموعات الماركسية السرية في الداخل. قال برنار باريز في تعليقه على الوضع في بولندا: «كانت جامعة وارسو مروسنة [فرض الطابع الروسي -م-] بشكل كامل، وكانت تدرس للبولنديين أدبهم باللغة الروسية؛ في عام 1885 فرضت اللغة الروسية في المدارس الابتدائية كلغة للتدريس؛ وأرسل عمال السكك الحديدية البولنديون للخدمة في أجزاء أخرى من الإمبراطورية؛ وفي عام 1885 تم منع البولنديين من شراء الأراضي في ليتوانيا أو بولهينيا، حيث كانوا يشكلون أغلبية الطبقة البورجوازية».[3]

هوامش:

[1] منقول عن: V. Akimov, On the Dilemmas of Russian Marxism 1895-1903. الصفحة 17 لكلا الاقتباسين

[2] مذكور في: G.D. Surh, 1905 in St Petersburg: Labour, Society and Revolution, p. 54.

[3] B. Pares, op. cit., p. 465.

*: الكالميك: شعب منغولي بوذي الديانة يعيش أساسا في كالميك, منطقة جنوب غرب روسيا على بحر قزوين. يتحدث لغة خاصة تدعى: الكالميكية.
البوريات: شعب من أصل منغولي يعيش في سيبيريا. وبورياتيا هي إحدي الجمهوريات الروسية ذات حكم ذاتي، في جنوب المنطقة الوسطى من سيبريا. المترجم.

**: فرض الثقافة والدين واللغة، الخ، الروسية -المترجم-

عنوان النص بالإنجليزية:

Bolshevism: The Road to Revolution