ميلاد الحركة الماركسية الروسية -البلشفية طريق الثورة


آلان وودز
2015 / 1 / 2 - 11:12     

البلشفية طريق الثورة

الفصل الأول: ميلاد الحركة الماركسية الروسية

ميلاد الحركة الماركسية الروسية

ترجمة: هيئة تحرير موقع ماركسي

كانت الآفاق قاتمة جدا أمام تيار بليخانوف. كان تكتيك "الذهاب إلى الشعب" القديم قد أفلس. واستمر موقف الفلاحين الرافض للنارودنيين مثلما كان في الماضي. وتخلى العديد من النارودنيين في النهاية عن الأمل وعادوا أدراجهم إلى حياة أكثر بهجة في المدن. بليخانوف الذي كان قد تأثر ربما بتجربته السابقة كرئيس "لقطاع العمال"، اقترح على أعضاء منظمة شيرني بيريديل ضرورة القيام بالتحريض بين عمال المصانع. أعاد بليخانوف إحياء علاقاته السابقة مع العمال، ومن بينهم ستيبان خالتورين من الاتحاد الشمالي للعمال الروس. لكن التيار كان يدفع بقوة لصالح الإرهاب حتى بين العمال المتقدمين. خالتورين نفسه شارك، في فبراير 1880، في محاولة لاغتيال القيصر. كان أنصار شيرني بيريديل معزولين تماما. وجاءت الضربة القاضية في يناير 1880 عندما اكتشفت الشرطة المطبعة السرية، بعد وقت قصير من إصدار المجموعة للعدد الأول من جريدتها، وقامت باجتثاث المنظمة بأكملها في روسيا. وكما لاحظ تروتسكي في وقت لاحق، لم يكن مستقبل الاتجاه غير الإرهابي بين صفوف الحركة النارودنية ليكون ظاهرة مستقلة، بل فقط مرحلة انتقالية وجيزة وملتبسة نحو الماركسية.






كانت مساهمة بليخانوف عظيمة، والتي بدونها كان من غير الوارد تحقق التطور المستقبلي للبلشفية

أما على الجانب الآخر فقد بدا أنصار نارودنايا فوليا يحققون نجاحات مذهلة. وبشكل لا يصدق تمكنت منظمة صغيرة، لا يزيد عدد أعضائها عن بضع مئات من الرجال والنساء، من تحويل القيصر إلى سجين فعلي داخل قصره. تدفق التيار، لبعض الوقت، بشكل لا يقاوم في صالح نارودنايا فوليا، التي كانت تمثل العناصر الأكثر عزما وثورية بين الشباب. المنظمة الجديدة، الممركزة للغاية والتي تعمل في سرية تامة، كانت تحت قيادة لجنة تنفيذية مكونة من أ. إ. جيليابوف وأ.د. ميخائيلوف وم. ف. فرولينكو ون. أ. موزوروف وفيرا فينغر وصوفيا بيروفسكايا، وآخرون. وبالمقارنة مع الحركة النارودنية القديمة، شكل برنامج نارودنايا فوليا تقدما، حيث تبنى نضالا سياسيا واضحا ضد الحكم المطلق. في وقت لاحق كتب لينين، الذي كان يحيي دائما البطولة ونكران الذات عند النارودنيين، في نفس الوقت الذي كان ينتقد بحزم تكتيك الإرهاب الفردي، ما يلي: «لقد قام أعضاء نارودنايا فوليا بخطوة إلى الأمام عندما تبنوا النضال السياسي، لكنهم فشلوا في ربطه بالاشتراكية».[1]

طالب برنامج نارودنايا فوليا بتشكيل "هيئة تمثيلية شعبية دائمة" منتخبة بالاقتراع العام، وإعلان الحريات الديمقراطية، ونقل ملكية الأراضي إلى الشعب، واتخاذ تدابير لوضع المصانع في أيدي العمال. جذبت الحركة العديد من العناصر الأكثر شجاعة وتضحية بالنفس، بمن فيهم خالتورين، من الاتحاد الشمالي للعمال. لقد أظهر جرأة كبيرة وقدرة مبهرة على المبادرة بحصوله على وظيفة نجار على متن اليخت الإمبراطوري. وبعد أن تمكن من كسب الثقة الرسمية كعامل نموذجي، تمكن في فبراير 1880 من زرع قنبلة قوية داخل قصر الشتاء، حيث كان يعمل في بعض الإصلاحات، وتفجير قصر القيصر في وسط عاصمته! لكن رد فعل الدولة كان هو تصعيد وتيرة القمع، وفرض دكتاتورية شرسة تحت قيادة الجنرال ميليكوف. كانت حالة خالتورين مأساوية بشكل خاص. لقد أحس، في وقت مبكر، بالتناقض بين الحاجة إلى بناء الحركة العمالية وبين الإرهاب، كما يشرح ذلك فنتوري: «كان خالتورين منقسما باستمرار بين حماسه للأعمال الإرهابية وبين واجباته بوصفه منظما عماليا. وقد عبر عن مشاعره بالقول إن المثقفين يجبرونه على أن يبدأ من الصفر بعد كل عمل من أعمال الإرهاب والخسائر الحتمية المرتبطة به. وفي كل مناسبة كان يقول: "لو يعطوننا فقط قليلا من الوقت لتقوية أنفسنا". لكنه استسلم هو أيضا للرغبة الجارفة في اتخاذ إجراءات فورية مما قاده إلى المشنقة معهم».[2]

النجاحات التي حققها الإرهابيون كانت هي نفسها تتضمن بذور تفككهم. لقد أطلق اغتيال القيصر في عام 1881 العنان لحملة من القمع أخلى فيها الإرهاب الفردي ضد الوزراء ورجال الشرطة الطريق أمام إرهاب جهاز الدولة بأكمله ضد الحركة الثورية بشكل عام. قال كروبوتكين: «لقد تم تقسيم روسيا إلى عدد من المناطق، ووضعت كل منطقة تحت حكم حاكم عام تلقى الأمر بشنق المتهمين بلا رحمة. وأعدم كوفالسكي وأصدقائه الذين بالمناسبة لم يقتلوا أحدا بطلقاتهم. وصار الشنق ممارسة يومية. أعدم 23 شخصا في غضون عامين، من بينهم صبي يبلغ 19 عاما قبض عليه وهو يوزع بيانا ثوريا في محطة للسكك الحديدية: كان هذا العمل هو التهمة الوحيدة الموجهة إليه. لقد كان طفلا، لكنه مات ميتة الرجال».[3]

حكم على فتاة تبلغ من العمر 14 عاما بالنفي مدى الحياة إلى سيبيريا لأنها حاولت تحريض حشد من الناس لتحرير بعض السجناء الذين كانوا يساقون إلى حبل المشنقة. فأقدمت على الانتحار غرقا. كما قضى السجناء سنوات في سجون الاعتقال الاحتياطي، التي كانت أوكارا لحمى التيفوئيد، حيث مات 20% منهم في سنة واحدة وهم ينتظرون المحاكمة. كان السجناء يردون على المعاملة الوحشية التي يتلقونها من قبل حراس السجن بخوض إضرابات عن الطعام، والتي كانت السلطات تجابهها بالتغذية القسرية. حتى أولئك الذين تمت تبرئتهم استمروا منفيين في سيبيريا، حيث كانوا يموتون جوعا ببطء بسبب الطعام الرديء الذي تقدمه لهم السلطات. زاد كل هذا من اشتعال سخط الشباب الذين كانوا يحترقون رغبة في الانتقام. تم استبدال ضحايا الإرهاب الأبيض بمنخرطين جدد، انتهى بهم المطاف هم أيضا ضحايا جدد في حلقة "قمع - إرهاب – قمع" الجهنمية. هُلك جيل كامل بهذه الطريقة، وفي نهاية المطاف، تمكنت الدولة، التي لا ترتكز على الأفراد من جنرالات ورؤساء شرطة، من أن تخرج أقوى من أي وقت مضى، على الرغم من أن نارودنايا فوليا نجحت في اغتيال عدد من أبرز المسؤولين في النظام القيصري.

وعد المدعي العام الجديد، الوزير بوبيدونوستسيف، بعهد من "الحديد والدم" للقضاء على الإرهابيين. وقدمت سلسلة من القوانين الصارمة للحكومة سلطات كاسحة جديدة للاعتقال وممارسة الرقابة والترحيل، مما أصاب ليس فقط الثوار، بل حتى التيارات الليبرالية الأكثر اعتدالا. تزايد الاضطهاد القومي مع منع جميع الإصدارات باللغات غير الروسية. صدرت قوانين لتعزيز سيطرة كبار الملاكين على الفلاحين. واجتاحت موجة الردة الرجعية المدارس والجامعات، وكانت تهدف إلى سحق كل أشكال التفكير المستقل وكسر روح التمرد بين الشباب. وخلافا لتوقعات الإرهابيين، لم تكن هناك انتفاضة جماهيرية، ولا حركة عامة للمعارضة. وبسرعة تحولت كل آمال جيل التضحية البطولية بالنفس إلى رماد. تضرر الجناح الإرهابي للحركة النارودنية بموجة من الاعتقالات. وبحلول عام 1882، تعرضت نواتها المركزية للتصفية وأرسل قادتها إلى السجن، فانشطرت حركة النارودنيين إلى ألف شظية. لكن وفي نفس الوقت الذي كان فيه نعي الحركة النارودنية يسمع بوضوح، كانت هناك حركة جديدة تحقق انتصارات سريعة في بقية أوروبا، وكان هناك بروز لموازين قوى طبقية جديدة في روسيا المتخلفة نفسها.

لسنوات كانت أفكار ماركس وإنجلز (ولو في شكل غير مكتمل ومبتذل) مألوفة للثوريين الروس. كان ماركس، وانجلز خاصة، قد شارك في جدالات مع منظري الحركة النارودنية. لكن الماركسية لم يكن لها أبدا أنصار كثر في روسيا. كان إنكارها للإرهاب الفردي ورفضها لوجود "طريق روسي خاص نحو الاشتراكية" وللدور القيادي المزعوم للفلاحين في الثورة، أشياء من الصعب على الشباب الثوري القبول بها. وبالمقارنة مع نظرية باكونين حول "الدعاية بالأفعال"، كانت فكرة أنه يجب على روسيا أن تمر عبر مدرسة الرأسمالية المؤلمة تبدو دعوة إلى السلبية والانهزامية.

كان الجيل القديم من النارودنيين لا يخفي ازدرائه للنظرية. وعندما كانوا يلجؤون إلى الحجج الإيديولوجية، فإنهم كانوا في الحقيقة يقومون بذلك فقط بشكل لاحق ولتبرير الانعطافات العملية للحركة. وفي المقابل كانوا يتبنون فكرة الدور المركزي للفلاحين، و"المهمة التاريخية الخاصة" المزعومة لروسيا والوحدة السلافية والإرهاب. وبعد أن كسروا رؤوسهم في الجدار الصلب، وبدلا من الاعتراف النزيه بأخطائهم ومحاولة العمل على استراتيجية وتكتيك بديلين، شرع منظروا الحركة النارودنية في إعادة التأكيد على الأفكار القديمة المفلسة، وبذلك غرقوا أعمق من أي وقت مضى في مستنقع الارتباك.

كان أول عمل قام به هذا الاتجاه الجديد، الذي يمثله بليخانوف وحفنة صغيرة من المتعاونين، هو بناء أسس متينة للمستقبل على أساس الأفكار الصحيحة والنظرية الصحيحة والتكتيكات والاستراتيجية العلميتين. وكانت هذه هي المساهمة العظيمة لبليخانوف، والتي بدونها كان من غير الوارد تحقق التطور المستقبلي للبلشفية. ورغم أنه كان ما يزال، على حد تعبيره، "نارودنيا حتى النخاع"، سعى بليخانوف إلى الإجابة على المشاكل التي تطرحها أزمة الإيديولوجية النارودنية من خلال القيام بدراسة جادة لأعمال ماركس وإنجلز. وبعد أن اضطر إلى الفرار إلى الخارج في يناير عام 1880، التقى وناقش مع ماركسيين فرنسيين وألمان كانوا آنذاك منخرطين في صراع إيديولوجي عنيف مع اللاسلطويين. وكان هذا اللقاء مع الحركة العمالية الأوروبية نقطة تحول حاسمة في تطور بليخانوف.

في حياة السرية بروسيا لم يكن متوفرا سوى عدد قليل من كتابات ماركس وإنجلز، وخاصة تلك المتعلقة بالمسائل الاقتصادية. كان بليخانوف، مثله مثل غيره من أبناء جيله، يعرف كتاب ماركس رأس المال، والذي اعتبرته الرقابة القيصرية كتابا أصعب وأشد تجريدا من أن يشكل خطرا. ومن المشكوك فيه ما إذا كان بوليس الرقابة أنفسهم قد تمكنوا من فهمه، وبالتالي فإنهم ظنوا أنه لا يمكن للعمال ان يفهموه. وبعد أن تحرروا، لبعض الوقت، من ضغوط المشاركة المباشرة في النضال الثوري في روسيا، تمتع بليخانوف والآخرون من ميزة هائلة تمثلت في القدرة على الوصول إلى الأدبيات التي كان من غير الممكن الحصول عليها في روسيا. وهو ما شكل مصدر إلهام لهم.

دراسة بليخانوف للفلسفة الماركسية، والكتابات حول الصراع الطبقي والمفهوم المادي للتاريخ ألقت ضوءا جديدا كليا على منظورات الثورة في روسيا. وبدأت الأفكار الإرهابية والفوضوية والنارودنية القديمة تنهار الواحدة تلو الأخرى تحت وطئة النقد الماركسي. وقد لخص بليخانوف في وقت لاحق تلك التجربة قائلا: «أي شخص لم يعش معنا تلك الأوقات بالكاد يمكنه أن يتصور الحماس الذي انخرطنا به في دراسة الأدب الاشتراكي الديمقراطي، والذي بطبيعة الحال احتلت فيه أعمال المنظرين الألمان المقام الأول. وبقدرما تعرفنا عن كثب أكثر على الأدب الاشتراكي الديمقراطي، بقدرما أصبحنا على بينة أكثر من نقاط ضعف مواقفنا السابقة، وأصبحنا أكثر قناعة بصحة تطورنا الثوري... لقد قادتنا نظريات ماركس، مثل خيط أريادن، خارج متاهة التناقضات التي كانت محشوة في عقولنا بفعل تأثير باكونين».[4]

ومع ذلك فإن القطيعة مع الماضي لم يكن من السهل تحقيقها. فدويتش وزاسوليتش على وجه الخصوص كانا ما تزال لديهما أوهام بخصوص الإرهابيين. في الواقع، عندما وصل الى المجموعة خبر اغتيال القيصر، صاروا جميعا، باستثناء بليخانوف، لصالح العودة إلى نارودنايا فوليا. وكان على التجربة أن تستمر. لكن بليخانوف استوعب أن كوادر حزب العمال الماركسي الروسي المستقبلي لا يمكن أن يسقطوا من الغيوم. مثلت نارودنايا فوليا تقليدا لجيل كامل من المناضلين ضد القيصرية. ومثل هذه الحركة، التي تجللت بدماء عدد لا يحصى من الشهداء الثوريين، لا يمكن أن تمسح من الذاكرة بسهولة. وبسبب تقاليدها تحديدا، كانت الحركة النارودنية، حتى في فترة انحطاطها، ما تزال قادرة على اجتذاب العديد من الشباب والشابات، الذين يبحثون بارتباك عن الطريق إلى الثورة الاجتماعية. ومن بين هؤلاء كان هناك ألكسندر أوليانوف، شقيق لينين، الذي اعدم بسبب دوره في مؤامرة ضد حياة ألكسندر الثالث عام 1887. كان لينين نفسه يتعاطف مع النارودنيين ومن المؤكد أنه بدأ حياته السياسية مؤيدا لنارودنايا فوليا. وقد كان إنقاذ هؤلاء الناس من الممارسات الإرهابية العقيمة أول واجب على كاهل الماركسيين الروس.

على الرغم من صغر حجم منظمة بليخانوف فإنها تسببت في خلق حالة استنفار بين صفوف قادة النارودنيين، الذين حاولوا على الفور خنق صوت الماركسية عن طريق إجراءات بيروقراطية. اصطدمت محاولات المنظمة لإيجاد الطريق نحو الشباب الثوري في روسيا بجدار صلب من العقبات التي أقامها قادة الجناح اليميني للحركة النارودنية والذي كان يسيطر على الصحافة الحزبية. رفض محررو جريدة "فيستنيك نارودنايا فوليا" حتى طباعة مؤلف بليخانوف الرائد الموجه ضد اللاسلطوية: "الاشتراكية والنضال السياسي". في البداية، بدا تيخوميروف، قائد نارودنايا فوليا آنذاك، مستعدا لقبول طلب مجموعة بليخانوف الانضمام إلى المنظمة كتيار، لكن بعد نشر "الاشتراكية والنضال السياسي"، سرعان ما غير رأيه وحظر قبول أية مجموعة منظمة داخل نارودنايا فوليا. كان من الواجب عليهم أولا أن يحلوا مجموعتهم، ثم سيتم النظر في كل طلب عضوية كل واحد بشكل فردي. صارت استحالة المصالحة عندها واضحة للجميع، وفي شتنبر عام 1883 شكل الماركسيون مجموعة تحرير العمل الروسية.

عندما حدث الانقسام لم تكن المجموعة تضم أزيد من خمسة أعضاء: بليخانوف وأكسلرود وفيرا زاسوليتش الذين كانوا جميعهم وجوها معروفة في الحركة النارودنية. كانت فيرا زاسوليتش تتمتع بشهرة كبيرة في أوروبا نتيجة لعملية تريبوف. وليف دويتش (1855-1941)، زوج زاسوليتش، والذي كان محرضا نارودنيا نشيطا في جنوب روسيا في نهاية عقد السبعينات [من القرن التاسع عشر]. وكان دور فاسيلي نيكولايفيتش إيغناتوف (1854- 1885) أقل شهرة. كان قد نفي إلى روسيا الوسطى بسبب مشاركته في المظاهرات الطلابية. وقدم مبالغ كبيرة من الأموال مكنت المجموعة من بدء نشاطها قبل وفاته، في عز شبابه بشكل مأساوي، بسبب السل الذي منعه من لعب دور فعال في الحركة. اعتقل دويتش في ألمانيا عام 1884، ثم أرسل إلى روسيا حيث تعرض لحكم بالسجن لمدة طويلة، وأدت وفاة إغناتوف إلى تخفيض عضوية المجموعة إلى ثلاثة أشخاص فقط.

انتصبت أمامهم سنوات عديدة من النضال الشاق المعزول في سرية تامة مملة. لقد تطلب الأمر شجاعة خاصة من طرف أقلية صغيرة لتأخذ قرارا واعيا بالنضال ضد التيار، معزولة عن الجماهير، وفي ظروف المنفى القاسية، وبأقل الموارد وضد الجميع تقريبا. لم تكن تلك هي المرة الأخيرة التي تحولت فيها القوى الماركسية الروسية إلى مجرد "صوت في الصحراء". وكان الشيء الوحيد الذي دعمهم هو ثقتهم في أفكارهم ونظرياتهم ومنظوراتهم. هذا، على الرغم من حقيقة أن أفكارهم بدت وكأنها تتعارض مع الواقع. كانت الحركة العمالية في روسيا ما تزال في مراحلها المبكرة. صحيح أنه كانت هناك بدايات لحركة الإضرابات، لكنها كانت إلى حد بعيد خارج نطاق الاشتراكيين. والمجموعات العمالية الصغيرة التي كانت موجودة كانت ما تزال تحت هيمنة أفكار النارودنيين. وصوت مجموعة تحرير العمل الضعيف لم يكن مسموعا في المصانع. كما كان من الصعب الوصول حتى إلى الطلاب، الذين كانوا ما يزالون تحت تأثير الميولات اللاسلطوية والارهابية.

في رسالة الى أكسلرود، كُتبت في أواخر مارس عام 1889، قال بليخانوف: «الكل (سواء من"الليبراليين" أو "الاشتراكيين") مجمعون على أن الشباب لن يستمعوا إلى أولئك الذين يتحدثون علنا ضد الإرهاب. ونظرا لهذا علينا أن نكون حذرين».

بمجرد تشكيلها تعرضت مجموعة تحرير العمل لهجمات شرسة من جميع الجهات بسبب "خيانتها" المزعومة للحركة النارودنية "الثورية". ومن المنفى كتب تيخوميروف إلى رفاقه في روسيا يحذرهم من الدخول في أية علاقة مع جماعة بليخانوف. وكان لحملة الافتراءات والتشويهات تأثير كبير. علق الباكونيني القديم، زوبوفسكي، ساخرا: «أنتم أيها الناس لستم ثوريين بل مجرد طلبة لعلم الاجتماع». وكان الموضوع الثابت لهذه الهجمات هو أن أفكار ماركس لا يمكن تطبيقها على روسيا، وأن برنامج بليخانوف كان «نسخة طبق الأصل للبرنامج الألماني».[5]

شهدت سنوات الثمانينيات النصر الحاسم للأفكار الماركسية داخل الحركة العمالية الأوروبية. وبسبب عزلتهم عن الحركة في روسيا، اقترب أعضاء مجموعة تحرير العمل بشكل غريزي من الأحزاب القوية داخل الأممية الاشتراكية. كتب بليخانوف ورفاقه لصحافتها، وتحدثوا في مؤتمراتها وخاصة مؤتمرات الحزب الألماني، حزب ماركس وإنجلز وليبكنخت وبيبل. لقد استمدوا القوة المعنوية من الإنجازات العظيمة التي كانت تحققها الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية. كانت القوى الماركسية الروسية صغيرة، لكنها شكلت كتيبة داخل صفوف الجيش البروليتاري العظيم، الذي كان يضم ملايين الأعضاء في ألمانيا وفرنسا وبلجيكا. كان ذلك دليلا حيا على تفوق الماركسية، ليس في فقرات كتاب رأس المال بل في إحصاءات العضوية النقابية وفروع الحزب والأصوات الانتخابية والفرق البرلمانية.

لكن حتى دعم الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية لم يكن مطلقا. فطيلة سنوات عديدة حافظ قادتها على علاقات ودية مع قادة الحركة النارودنية مثل لافروف. في الواقع كان قادة الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية ينظرون بارتياب إلى ما كان يبدو لهم وكأنه ليس أكثر من مجموعة عصبوية منشقة غريبة الأطوار. وقد تسببت حدة بليخانوف في الجدل ضد شخصيات نارودنية معروفة أمميا في نشر الذعر. كتب بليخانوف: «في الواقع، إن نضالنا ضد أنصار باكونين تسبب في بعض الأحيان في ظهور مخاوف حتى بين الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الغربية. لقد اعتبروه في غير محله. كانوا يخشون أن تؤدي دعايتنا، من خلال التسبب في انقسام الحزب الثوري، إلى إضعاف طاقة النضال ضد الحكومة».

ولا بد أن الأكثر إيلاما كانت هي التحفظات التي أعرب عنها انجلز في مراسلاته مع فيرا زاسوليتش. لقد قبل انجلز استحالة بناء الاشتراكية في بلد متخلف مثل روسيا كنقطة انطلاق لتحليله. وماركس نفسه، في مقدمة الطبعة الروسية من البيان الشيوعي، وكتابات أخرى عام 1882، لم يستبعد إمكانية بناء مجتمع لا طبقي في روسيا على أساس مجتمع القرية (المير)، لكنه ربط ذلك بشكل وثيق بمنظور الثورة الاشتراكية في البلدان الرأسمالية المتقدمة في أوروبا الغربية. وقد كتب: «إذا أصبحت الثورة الروسية شرارة للثورة البروليتارية في الغرب، بحيث يكمل كل منهما الآخر، فيمكن للملكية المشتركة الروسية الحالية للأرض أن تكون بمثابة نقطة انطلاق لتطور شيوعي».[6]

في رسالته إلى زاسوليتش، بتاريخ 23 أبريل 1885، عبر إنجلز نفسه عن حذره من كتاب بليخانوف "اختلافاتنا". لكن وبالرغم من ذلك فإن العجوز إنجلز عبر عن اعتزازه بأنه «يوجد بين الشباب الروس حزب يقبل صراحة ودون لبس بالنظريات التاريخية والاقتصادية العظيمة لماركس والذين قطعوا بشكل حاسم مع جميع التقاليد اللاسلطوية والسلافية التافهة لأسلافهم».[7]

لم يكن هذا موقف العديد من قادة الأممية الاشتراكية الديمقراطية الذين نظروا بارتياب إلى تلك الحفنة الصغيرة من الماركسيين الروس.

قادة الحركة العمالية الغربيين، الذين كانوا يستندون بالفعل على أحزاب قوية تتمتع بدعم جماهيري واسع، كانوا يشككون في احتمالات إنشاء حزب عمالي ماركسي ثوري في روسيا. ورغم احترامهم الظاهري لبليخانوف وجماعته، فقد كانوا فيما بينهم يحكون رؤوسهم حيرة. كانوا يتسائلون عما هو الهدف من كل هذه الصراعات التي لا تنتهي حول مسائل نظرية غامضة؟ هل كان من الضروري حقا الانقسام حول هذه المسائل؟ لماذا لا يستطيع هؤلاء الروس توحيد جهودهم والعمل معا؟

بدا موقفهم المتشكك مبررا بالنظر إلى صغر حجم المجموعة وبطء تطورها. وفي المقابل كان النارودنيون منظمة أكبر بكثير، ويمتلكون موارد أكثر، ونفوذا أكبر بما لا يقاس داخل وخارج روسيا. لكن ومع ذلك فإن مجموعة بليخانوف، التي كانت تبدو تافهة، كانت تمثل جنين حزب ثوري جماهيري قوي، سوف يتمكن في فترة وجيزة نسبيا قدرها 34 سنة، من قيادة العمال والفلاحين الروس إلى الاستيلاء على السلطة وإقامة أول دولة عمالية ديمقراطية في التاريخ.

هوامش:

[1] Lenin, Collected Works, Working Class and Bourgeois Democracy, vol. 8, p. 72

[2] Venturi, op. cit., p. 706.

[3] Kropotkin, op. cit., vol. 2, p. 238.

[4] Baron, op. cit., p. 95.

[5] Quoted in Baron, op. cit., p. 166 in both quotes.

[6] Marx and Engels, Selected Works, vol. 1, pp. 100-1.

[7] Marx and Engels, Selected Correspondence, p. 364.


عنوان النص بالإنجليزية:

Bolshevism: The Road to Revolution