الحتمية الماركسية وخلفية الفهم الاسلامي الساذج


مالوم ابو رغيف
2014 / 12 / 29 - 02:08     

للدين تاثير ليس بالقليل على اللغة العربية وعلى عقلية الشرقي وعلى طبيعة تفكيره، وتنقل لنا اللغة بعض من هذا التاثير من خلال المفردات التي يستخدمها للتعبير عن افكاره وعن تصوراته. فكلمة دنيا تعني ان هناك حياة عليا وتتضمن اقرارا ايحائيا بوجود حياة بعد الموت.
مفردة الدنيا لا توجد عند الانجليز او الالمان ، اذ انهم يستخدمون كلمة العالم ((the world, die welt وهي مشتقة من
The English word world comes from the Old English weorold (-uld), weorld, worold (-uld, -eld), a compound of wer "man" and eld "age," which thus means roughly "Age of Man
وبهذا فان المسلم او حتى العربي عندما يتحدث عن العالم بمفردة الدنيا، فانه يتحدث عن شييء اخر غير ذلك الذي يفهمه الانجليزي او الالماني، ليس من ناحية التكوين فقط، انما حتى من ناحية هدف الوجود ومعنى الحياة.
المسلمون يفهمون الدنيا فهما عدميا قدريا، فهي عندهم دار امتحان وبلاء وليس دار اعمار وبناء، فقد جاء في القرآن:ـ
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ
ومفردة البلاء هي ايضا مصطلح ديني يعني عقاب من الله وقدر محتم لابد من وقوعه، وغالبا ما تأتي مفردة القدر مترافقة مع مفردة القضاء للتأكيد بان الله هو الذي حتم وقوع الحدث وقدره ولم يأتي نتيجة عشوائية الصدف. ومهما حاول الشعراء والكتاب استخدام مفردة القدر بمدلول مجازي الا ان مدلولها الديني يبقى غالبا ملتصقا بذهن القاريء.
الاسلام يكاد يكون الباك گراوند للكثير من مفردات اللغة العربية، ربما مرد ذلك شيوع القرآن اعلاميا ومدرسيا واجتماعيا وغلبة الدين وتحوله من شكله التعبدي الى شكله السياسي والاجتماعي القمعي. ان ذلك قد يكون تفسيرا لتعنت العقلية العربية ومقاومتها للافكار الفلسفية والعلمية لانها، اي الافكار العلمية تكون نقيضا وتهديما لفكرة الخلق والحكم الدينية. ان مصطلح الافكار المستوردة او المعلبة، والتي يعنون بها الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتحرر والمساواة بين الجنسين، هو احد الاساليب لمكافحة وقمع اي تفكير قد يتعارض مع الافكار القرطوسية التي لا زالت تشكل مركز التفكير الاسلامي وخاصة تلك المتعلقة بحياة الانسان وطريقة معيشته.
اننا نشير هنا الى خطل الرأي القائل بان القرآن قد حفظ اللغة العربية وحافظ عليها من الضياع، العكس هو الصحيح، فالدين الاسلامي قد كبح اللغة العربية عن التقدم واصابها بالكساح ولم يسهم في تطورها ونمو مفرداتها، اذ كان ولازال سقف المسلمين الاعلى في الابداع وان من الكفر عدم الالتزام به وتجاوز احكامه وقوانينه ومسلماته. كذلك، فان شكل الحياة الاسلامية واحكام القرآن لم يساعدا الانسان على تطوير حياته الاجتماعية، ومثلما يقول ماركس بان تقاليد الأجيال الغابرة تربض كالكابوس على عقول الأحياء. اللغة تتطور وتزدهر بازدهار وتطور الانسان ، فهي انعكاس مباشر للواقع المادي والعلمي والمعرفي الذي يعيشه الافراد.
الاسلام لم يوقف اللغة العربية وحدها عن التطور، بل اوقف شعوب البلدان الاسلامية عن التفكير وعن مواكبة التطور الانساني، فالاسلاميون يفضلون الصحابة على عصر التكنلوجيا والافكار الفلسفية. لذلك، يُنظر الى الشعوب الاسلامية كشعوب متخلفة لم تستطع الانتقال من عصر التوحش والبربرية الى عصر التقدم والازدهار وبقيت متحجرة عند مضارب خيام قبيلة تسمى الامة الاسلامية.
لقد اشار المفكر الماركسي الراحل مهدي العامل في احد كتبه الى ان اللغة العربية لم تعد صالحة لتكون لغة علم وسياسة، فعلوم السياسة والفلسفة والاقتصاد والتكنلوجيا ليست نتاجات عربية. فعند ترجمة المصطلحات الفلسفية والسياسية والتكنلوجية للغة العربية تفقد الكثير من فحواها الفلسفي او السياسي الاصطلاحي وقد يفهمها القاريء بخلفيتها الاسلامية او الدينية، او ان تكون الترجمة على حساب المعنى فينسلب من المفردة الاجنبية مدلولها التاريخي والتطوري او الدقة، او قد تحور وتدور لتتلائم والتفكير العربي الاسلامي على حساب المعنى المعرفي لها.
الذهن الشرقي لا يهتم بشروط ولا ارتباطات ولا ظروف ولا زمن الاحداث، ان ما يهمه هو بهرجة المعجزة. ماركس بالنسبة للتفكير الشرقي نبي دجال، ذلك ان الشيوعية لم تتحق او لم تنتصر البروليتاريا فكل ما قاله وما ابدعة نظريا ونضاليا فهو خطئية. فهم على عماهم يرقصون ويطبلون للرأسمالية ويعلنون انتصارها الابدي عليهم ويفتخرون بان يكونوا من عبيدها وخدامها.
فمفردة الحتمية مثلا يجري تناولها بشكل ساذج يقترب الى الفكرة القدرية الدينية fatalism او determinism بينما يسعى فريق اخر، الى نفي الحتمية عن الماركسية وكانه ينفي ذنب عظيم لم يقترفه ماركس ولابد من انكاره.
فاذ كانت الماركسية تقول بالحتمية كقدر لا بد ان يتحقق، فان ذلك يعني ان من العبط التاكيد على اهمية النضال والثورية، فما على البروليتاريا الا الانتظار والصبر حتى تصل الراسمالية الى نهايتها المحتمة ثم تنقض البرولتاريا الظافرة عليها فتدفنها وتستلم السلطة. او ان الطبقة العاملة بقيادة احزابها الشيوعية تحسن تنظيم صفوفها وتشترك بالانتخابات لتفوز في فترة تاريخية قادمة، مستغلة انهيار الرأسمالية المحتم بعد استنفاذ قوتها، فتفوز وترغمها على الانصياع لحكم البروليتاريا وكفى الله البروليتاريين جهد النضال. لكن الا يتناقض هذا مع القول الماركسي الاشهر:ـ
The philosophers interpret the world in different ways, but most importantly, however, is to change it
لقد قام الفلاسفة بتفسير العالم بطرق مختلفة، ولكن الأهم مع ذلك هو تغيير. فاذا كان العالم يتغير حتميا لوحده، فما معنى علينا تغيره؟
في مقال سابق قلنا ان الماركسية ادراك وليس قراءة او استعانة بنصوص. فلا يمكن فهم الماركسية خارج منهجها الديالكتيكي، كذلك لا يمكن فهم الحتمية خارج سياقتها المنطقية المادية. فالحتمية التاريخية لا يمكن لها ان تتم خارج فرضياتها النظرية، فهي ليست فحوى ميكانيكية انما فحوى تفاعليه ديالكتيكة، ومفردة الحتمية العربية هي ترجمة غير موفقة لمفردة inevitability او بالالمانية Unvermeidbarkeit واللتي تعني لا يمكن تجنبه، والتي تفترض ضمنيا سياق الحدث وليس لابدية الحدوث كما تعني مفردة الحتمية ذات الخلفية الدينية.
ولاجل شرح ذلك لابد لنا من التاكيد على ان التناقض الرئيس والحاسم يكون دائما بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج، فمتى ما وصلت العلاقة بين الاثنين الى مرحلة عدم التوافق النهائي سيحسم هذا التناقض بصورة لا يمكن تجنبها لصالح قوى الانتاج، فان عمدت الرأسمالية الى اسلوب يؤخر الوصول الى مرحلة التعارض التام، فانها تستطيع تجنب الخسارة اذ ان موازين القوى لا تكون لصالحها فالاستقطاب في المجتمعات الرأسمالية قائم على قدم وساق. ان فهم الفكرة وليس معرفة المفردة الفلسفية او الاستشهاد بنص ماركس هو الجوهر. اي ان الحتمية ستحقق بتوفر شرطي المعادلة، عندما تصر الرأسمالية على الاستمرار بنفس طريقة الانتاج وتصر على الحفاظ على نفس علاقات الانتاج القديمة التي ستصبح عائقا امام متطلبات الانتاج. ينبغي الاشارة ايضا الى ان الرأسمالية وان بقيت كاسلوب انتاج الا انها لم تعد تمثل نظام الحكم، فالنظام الديمقراطي التمثيلي قد استبدل الحكم الرأسمالي وثقلهم بالضرائب، كذلك يجد النظام الضرائبي مشاكل عويصة جدا تقعده عن الايفاء بالتزاماته.
المشكلة ليس في شكل المفردة بل طريقة فهمنا لها، فكلمة الاشتراكية كترجمة لمفردة socialism قد ركزت على المفهوم الاقتصادي وسلبت منها روحها الاجتماعية، اذ ان الفكرة الاساسية في socialism هي تحقيق العدالة الاجتماعية بالسيطرة على السلطة وانسنتها وذلك بالاعداد لبناء مجتمع لا طبقي تمهيدا للانتقال الى communist society حيث المساواة الكاملة. كذلك علينا ان لا نفهم العدالة بمعناها الديني السائد، لكن بمعناها السياسي الاقتصادي. فالعدالة الدينية لا تعني سوى تحكيم الدين واوامر الله حتى وان كانت ظالمة مجحفة بربرية، بينما بمفهومها الاقتصادي والسياسي تعني تحقيق المساواة التامة بين افراد المجتمع.
ومثلما اصبح الاسلام الباك گراوند back ground لمفردات السياسة والفهم العام عند العرب، اصبحت التجربة السوفيتية الخلفية الفلسفية والتطبيقة عند اغلب الشيوعيين، ومثلما فقد المسلم شخصيته المستقلة وحريته الفردية، فقدت الاحزاب الشيوعية ايضا استقلاليتها الفكرية والسياسة وحتى التنظيمية. ان ذلك اثر بدوره على الابداع الفكري للشيوعين العرب واقعدهم عن المساهمة في تطوير الماركسية بنموذجها العربي او الشرقي.