ورقات في نقد الاقتصاد: ورقة (2)


محمد المثلوثي
2014 / 12 / 27 - 21:12     

في اساليب الانتاج التقليدية، حيث في الغالب كان الانتاج موجها للاستهلاك وليس للتبادل والربح، كان المنتجون يعتمدون على الزراعات المتنوعة في حلقة انتاج مكتفية ذاتيا، ولم تظهر في هذه الأساليب الانتاجية حالات مجاعات عامة إلا كنتيجة عوامل طبيعية (سنوات جفاف مسترسلة....) أو عوامل خارجية (حروب، غزوات...)، وبحكم هذا الاكتفاء الذاتي وتأقلم الزراعة مع محيطها المحلي فلم تكن تحدث أزمات غذاء إلا في دوائر محدودة.....أما اليوم، في عالم الحضارة الرأسمالية، عالم التقدم والتطور، فإن الانتاج قد اصبح يخضع لتقسيم عمل عالمي، فظهرت، منذ توطد الأسلوب الانتاجي الرأسمالي، المجاعات التي تضرب الملايين وظاهرة سوء التغذية المعممة، وهذا ليس نتيجة عوامل طبيعية، ولا نتيجة نقص في تطور وسائل الانتاج، وحتى ليس نتيجة نقص في الانتاج، بل، ويا للمفارقة، نتيجة فائض الانتاج. وكلما تطورت القوى الانتاجية إلا وأصبحت أكثر تدميرا، وكلما تعولم هذا الأسلوب الانتاجي أكثر، كلما أصبحت الأزمات أكثر شمولية، حتى أن تحويل الولايات المتحدة والبرازيل لجزء من الأراضي الزراعية في استخدامات طاقية قد خلق أزمة غذاء عالمية.
وفي تونس، ومنذ أن تم تحويل القطاع الفلاحي نحو الزراعات الأحادية الموجهة للتصدير والمبادلة أصبحت المجاعات ثم حالة سوء التغذية المعمم وارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية ظاهرة دائمة، حتى في أكثر السنوات امطارا. ونتج عن ذلك فقدان المنتجين لعاداتهم وسيطرتهم على التقنيات الزراعية، والبذور التي كانت تدخل في دائرة الانتاج المحلي (خزن جزء من المحصول في شكل بذور للموسم القادم) قد أصبحت احتكارا لكبرى الشركات العالمية، وهذه البذور المصنعة لا تصلح إلا لسنة واحدة غير قابلة للتجديد، وهو ما يخلق تبعية المنتجين للسوق العالمية، بحيث أن أزمة تحدث هنا أو هنا في انتاج البذور تخلق أزمة وترفع الكلفة بما يؤدي الى هجرة بعض القطاعات الانتاجية الحيوية ويدعم احتكارها من طرف فئة قليلة من الرأسماليين الكبار. وبحكم كون هذه الزراعات الكبيرة لا تحتاج ليد عاملة كثيرة فقد تمت احالة الجزء الأكبر من سكان المناطق الزراعية على البطالة ودفعهم الى النزوح الى كبرى المدن في شكل جيش احتياط للصناعة المدينية ومختلف فروع الخدمات، وهذا ما سيترتب عنه اختلال التوازن الديمغرافي بين المناطق، وما سيخلق ما نراه الآن من اختناق المدن الكبيرة وتصحر سكاني في المناطق المسماة داخلية. واللاتوازن وحالة الاضطراب في السوق العالمية كما الانقلابات الفجائية في تطور القطاعات الانتاجية يدفع الى الاضطرابات في الطلب على نوعية اليد العاملة، فنجد قطاعات انتاجية تعاني من نقص اليد العاملة (المختصة منها خاصة) بينما تعاني قطاعات أخرى من فيض في اليد العاملة بما يهدد قدرتها التنافسية وانتاجيتها ويدفعها لطرد المزيد من عمالها ودفعهم للبطالة والتهميش، والبطالة لم تكن ظاهرة معروفة في أساليب الانتاج القديمة.....وما هي حصيلة هذا "التقدم" و"التنمية" و"التطور": ركام متعاظم من البضائع التي هي في أغلبها تسمم حياتنا ومحيطنا الطبيعي بدون أن تحقق لبشر أي شرط من شروط الحياة الانسانية المتوازنة، بضائع لا تكاد تعثر على من له قدرة فعلية على استهلاكها، واستهلاكها نفسه لا يخلق سوى حالة ضمأ استهلاكي مرضي هو أقرب للإكتئاب المعمم أكثر مما هو تلبية لحاجات حقيقية....