هل الرأسمالية نهاية التاريخ؟ رأي في كتاب -راهنية أفكار كارل ماركس- للكاتب ألان وودز


كاظم حبيب
2014 / 12 / 25 - 13:12     

على مدى ستة عقود وبضع سنين كنت احلم بالاشتراكية كنظام سياسي اقتصادي اجتماعي يسود العراق وكل الكرة الأرضية. وهذا الحلم الجميل كان وما يزال يرافقني وأنا اقترب من نهاية العقد الثامن من عمري وسيبقى كذلك إلى أن يتوقف القلب عن الخفقان وينطفئ العقل ويصمت اللسان عن النطق وتتوقف اليد عن الكتابة. إن أفكار الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية تعتبر حلم البشرية جمعاء، وهي ليست وهماً بل حلماً جميلاً سوف يتحقق يوماً ما لغيري من أجيال البشر القادمة. راودتني هذه الخاطرة وأنا أقرأ في كتاب الباحث العلمي البريطاني ألان وودز الموسوم "راهنية أفكار كارل ماركس"، وركز بشكل خاص على كتاب رأس المال، هذا السفر الكبير لكارل ماركس.
كنت قبل سنين خلت قد قرأت كتاب "نهاية التاريخ" للباحث الأمريكي فرانسيس فوكوياما الذي عاد بعد سنين ليشطب على موضوعته الخائبة هذه التي كانت تتحدث عن الرأسمالية والديمقراطية البرجوازية باعتبارهما نهاية التاريخ. وكان هذا يعني حسب رأيه السابق أن ليس هناك من نظام اقتصادي جديد يخلف النظام الرأسمالي وان هذا النظام هو نهاية التاريخ وملزم للبشرية حتى الأزل، إذ ليس بالإمكان أبدع مما كان!!
كتب فاكوياما هذا الرأي بعد انهيار التجربة السوفييتية وتجارب دول أوروبا الشرقية في بناء الاشتراكية، وكأن الفكر الاشتراكي نفسه قد انهار مع انهيار تلك النظم السياسية. وقد كتب الكثير من الكتاب التقدميين واليساريين والشيوعيين ما يفند هذه الفكرة الخاطئة والموضوعة التي توهم بها فرنسيس فوكوياما. وكنت أحد من ساهم في الكتابة عن هذا الموضوع واعتبرت أن انهيار تجارب تلك البلدان لا يعني مسألتين، وهما: انتصار الرأسمالية على الفكر الاشتراكي، ولا فشل الفكر الاشتراكي في بناء النظام الاشتراكي لاحقاً.
وما أن خطأ فوكوياما موضوعته السالفة حتى انبرى الباحث الأمريكي صموئيل هنتنكتون بكتابه الشهير الموسوم "صراع الحضارات" الذي أكد فيه نهاية الصراع الطبقي بانهيار اشتراكية الاتحاد السوفييتي وبعض دول أوروبا الشرقية أولاً، وأن الصراعات القادمة التي ستعم العالم ستكون صراعات بين الحضارات الثماني في العالم، ولكن وبشكل خاص بين الثقافات الشرقية والثقافات الغربية، وبشكل أخص بين الثقافة الإسلامية والثقافة المسيحية! وانبرى كتاب كثيرون من المعسكر البرجوازي يروجون لهذه النظرية مستفيدين من انهيار الدول الاشتراكية حتى أن وزير العمل الألماني الأسبق، نوبرت بلوم، في فترة حكم المستشار د. هلموت كول، في العام 1990 في خطاب له في وارشوا معلنا بنشوة استثنائية وفاة الماركسية ودفنها في مقبرة التاريخ!!
وبالضد من هذا الرأي كتب الكثير من الكتاب، وأنا احدهم، ما يفند هذا الرأي الطبقي المتعجل والخاطئ، رغم واقع وجود مثل هذا الصراع الديني والمذهبي في اغلب المجتمعات البشرية الراهنة بسبب طبيعة النظم الاقتصادية الاجتماعية والسياسية الاستغلالية والقهرية السائدة في بلدان كثيرة وبخاصة في بلدان العالم الثالث. وقد اقتنع الكثير بهذا الرأي الالتفافي على حقيقة الصراع الطبقي على الصعيد العالمي أو على صعيد كل دولة من الدول، ولكنهم سرعان ما اكتشفوا أو سيكتشفون حقيقة خطأ هذه الوجهة في الحديث عن صراع الحضارات أو الثقافات أو الديانات التي يراد لها خطأً أن تكون البديل للصراع الطبقي على المستوى المحلي والدولي!
إن مؤلف كتاب "راهنية أفكار كارل ماركس" ألان وودز يعالج بصواب هذه المسألة الرئيسية التي تشير إلى النهم الجديد لمفكري الطبقة البرجوازية في الدول الرأسمالية المتقدمة وعموم العالم في قراءة كتاب رأس المال باعتباره المؤلف الوحيد الذي يقدم التحليل الأعمق والأدق لميكانزم أو آليات عمل النظام الرأسمالي العالمي وفعل قوانينه الاقتصادية الموضوعية وما ينجم عنه من أزمات دورية متلاحقة وملازمة له، ثم يشير إلى العواقب الكبرى التي تنشأ من جرائها على المجتمع، وخاصة الفئات الكادحة والمنتجة للخيرات المادية. ومن ثم الإشارة الواضحة إلى ما سينتهي إليه النظام الرأسمالي العالمي والنشوء الموضوعي لمستلزمات التحول صوب الاشتراكية.
إن قراءة كتاب ألان وودز مهم جداً لأنه بحث علمي دقيق استخدم في إنجازه التحليل المادي الديالكتيكي والمادي التاريخي لدراسة وتحليل الرأسمالية في المرحلة الراهنة وحول مستقبلها مستنداً إلى المؤشرات الرقمية التي تدعم رأيه.
حين انتهيت من قراءة هذا الكتاب المهم، الذي استمتعت به كثيراً، تكونت لدي ملاحظة نقدية واحدة ولكنها جوهرية وتمس صلب الموضوع الذي بحث فيه الأستاذ ألان وودز ولا بد لي من طرحها في هذا المقال المكثف لكي ينتبه لها القراء الكرام عند قراءتهم هذا الكتاب.
على امتداد وجود الدول الاشتراكية والأحزاب الشيوعية المرتبطة بفكر وتراث الأممية الشيوعية الثالثة، أي الأحزاب الماركسية - اللينينية، نشأت فكرتان خاطئتان صاحبتا العمل حتى انهيار الدول الاشتراكي إحداهما تستكمل الأخرى وتقترن بها، وهما: التصور بقرب انتصار الاشتراكية والشيوعية على الصعيد العالمي حتى أن خروشوف كان يتحدث عن قرب بناء الشيوعية بالاتحاد السوفييتي في العام 1964، من جهة، وقرب انهيار الرأسمالية ونهايتها التاريخية من جهة أخرى. ولا شك من القول بأن الفكرتين خاطئتين كما برهن عليه تطور القرن العشرين ومنذ انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية حتى الآن، رغم إن الفكرتين من حيث المبدأ صحيحتان لو يبتعد التشخيص عن تحديد الزمن القريب وكأن المسألة قاب قوسين أو أدنى. لا شك في نهاية النظام الرأسمالي الاستغلالي ستكون قادمة لا ريب في ذلك وسيحل النظام الاجتماعي الاشتراكي غير الاستغلالي محله على الصعيد العالمي والخطأ يكمن في الحديث عن الزمن القريب وان الأزمات التي يعاني منها النظام ستدمر هذا النظام قريباً، وانه لن يكون قادرا بالضرورة على النهوض منها وتجاوزها رغم الأضرار البالغة التي تسببها تلك الأزمات للمجتمعات البشرية في كل مرة تحصل فيها.
المؤشرات الدولية التي تحت تصرفنا تشير بأن الرأسمالية على الصعيد العالمي ما تزال تمتلك مبررات استمرارها وقادرة على تجاوز أزماتها الدورية أو حتى بعض أزماتها البنيوية ذات الموجة الطويلة، ولكنها وفي كل مرة تفقد الكثير من قوتها والمساندين لها والثقة بها. وهو الأمر الأكثر حيوية وأهمية. ولكنها وفي كل مرة تقع أعباء تلك الأزمات على عاتق الكادحين والمنتجين للخيرات المادية والروحية وعلى نسبة غير قليلة ممن يطلق عليهم بالطبقة الوسطى، إضافة إلى فئات واسعة جداً من البرجوازية الصغيرة.
إن علينا أن نواجه بنقاش فكري يتسم بالحيوية والوضوح إزاء من يدعون أزلية النظام الرأسمالي، لأنها موضوعة خاطئة، وبذات الوقت لا بد لنا الابتعاد من إعطاء الانطباع وكأن الرأسمالية قاب قوسين أو أدنى من نهايتها، إذ إن الأخيرة يمكن لها أن تخلق بعض الأوهام ومن ثم الإحباط وتنسف بعض الأحلام لدى الإنسان البسيط والطيب حين لا تتحقق بالسرعة المشار إليها من قبل بعض الكتاب أو القوى والأحزاب اليسارية. وعلينا أن نتذكر بأن انهيار الاتحاد السوفييتي قد خلق الوهم لدى البعض الكثير بأن الرأـسمالية قد انتصرت وإلى الأبد وإنها هي نهاية التاريخ!! ولا يمس هذا التقدير الدول النامية أو ضعيفة التطور فحسب، بل يشمل الدول الرأسمالية الأكثر تقدماً وتطوراً.
ليس هناك من يمكنه التحكم بالزمن وبالعوامل التي يمكن أن تتسبب في انهيار هذا النظام السياسي-الاجتماعي-الاقتصادي أو ذاك، ولكن على الصعيد العالمي أو الصعد المحلية يمكن القول بأن حل الاشتراكية هو قادم لا ريب في ذلك، ويبقى السؤال الأكثر صعوبة هو متى؟ وليس هناك من يستطيع الإجابة عن هذا السؤال.
المعطيات التي يقدمها الكاتب ألان وودز مهمة جداً وسليمة حول عواقب أزمة 2008 الجارية حتى الآن، واتي هرست الكثير من اقتصاديات الدول والكثير من الفئات الاجتماعية، ولكنها في الوقت ذاته حققت أرباحا هائلة لقلة قليلة من الاحتكارات الدولية وكبار الرأسماليين على الصعيد العالمي، كما إن البنوك حصلت على تعويضات ودعم هائل من خزائن الدول ومن دافعي الضرائب، أي من الكادحين ومنتجي الخيرات المادية وليس من كبار الاحتكارات التي غالباً ما تتهرب من دفع الضرائب أو تعفى أصلاً. إلا إن هذه الأزمة لم تنه النظام الرأسمالي واستطاع نظام العولمة الرأسمالية تدارك الأزمة لكي لا تكون على حساب البنوك المالية وكبريات الاحتكارات بل تقع أعباؤها على كاهل الطبقة العاملة والكادحين وجمهرة واسعة من الطبقة الوسطى، حتى ظهر شعار يقول "وداعاً للطبقة الوسطى".
تواجه شعوب الدول النامية اتجاهين مضرين في النضال السياسي الوطني والديمقراطي، هما خطر الدعوة المباشرة لإقامة الاشتراكية في بلد ما يزال يعاني من علاقات ما قبل الرأسمالية وما تزال القوى المنتجة المادية والبشرية متخلفة وما يزال الوعي الديني المشوه والمزيف يهيمن على عقول وقلوب الناس، وبالتالي فهم في ذلك لا يكسبون إلا الخيبة في النضال والإحباط والتراجع. وهم في هذا لا يدركون طبيعة وفعل قوانين التطور الاجتماعي وعمل وفعل القوانين الاقتصادية الموضوعية. واتجاه أخر يبدي استعداده للمساومة مع الأوضاع القائمة دون أن يخوض النضال من اجل التغيير الديمقراطي الضروري ويتناغم مع النظم السياسية القائمة بدعوى عدم التطرف ويسكت عما لا يجوز السكوت عنه في مسيرة التطور والردة الفكرية والسياسية في هذا البلد أو ذاك. وهذا الاتجاه لا يختلف عن الأول من حيث النتائج أو العواقب المضرة. إن هذين الاتجاهين موجودان في الحركة السياسية العمالية والحركة الشيوعية والاشتراكية أو في عموم اليسار على صعيد الدول النامية والعالم.
ولكن هناك الاتجاه المناهض للاشتراكية المستند إلى الفكر البرجوازي الذي ينكر العلاقة الجدلية بين الاقتصاد والسياسة وينفي الصراع الطبقي ويدعو إلى أزلية الرأسمالية والقطاع الخاص ورفض أي دعوة لقطاع الدولة في بلد بحاجة إلى مشاركة جميع القطاعات الاقتصادية من ناحية الملكية. وهو في هذا لا يعني أو لا يريد أن يعي مفهوم ومضمون الاقتصاد السياسي جملة وتفصلا. ولا شك في أن الهدف الأساسي من هذه الرؤية البرجوازية يتلخص في التعمية والتشويش ونسف فكرة الاشتراكية أصلا وإقناع فئات المجتمع بخطأ الحديث عنها أو التبشير بها حتى على المدى البعيد.
ويبدو لي بأن الحركة اليسارية على صعيد الدول النامية، ومنها الشرق أوسطية، والعراق كجزء منها، بحاجة إلى تحديد إستراتيج وتكتيك النضال الوطني المرحلي دون أن ينسى الهدف البعيد المدى الذي يمس البشرية جمعاء، أي الخلاص من النظم الاستغلالية التي عانت منها البشرية طيلة عشرات القرون المنصرمة والتي ما تزال تعاني من النظام الرأسمالي وبقايا النظام الاستغلالي الأسبق، أي من بقايا العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية في اقتصاديات وأرياف الدول النامية وتأثيراتها المباشرة على اقتصاد ومجتمع المدن أيضاً.
أتمنى على من يريد أن يقرأ كراس " لكارل ماركس أن ينقر على الرابط التالي:
راهنية أفكار كارل ماركس - In Defence of Marxism
www.marxist.com › Other languages › Arabic
كاظم حبيب
25/12/2014