نموذج المركز ضد الهامش و الصراع الطبقي في السودان


مجدي الجزولي
2005 / 9 / 4 - 11:38     

يكاد كل الفاعلين السياسيين و أصحاب الرأي في السودان يجمعون على قبول غير مشروط لتضاد المركز و الهامش الجهويين كأداة تحليلية لتعقل "الأزمة" السودانية بأبعادها الاقتصادية و الاجتماعية و كنموذج يتيح إمكانيات نظرية لحل عُـقد الدولة السودانية المستعصية و إصلاح ما أفسده الدهر و العطار. و لعل لذلك أسباب تتصل بعلاقات الإنتاج و الاجتماع التي تشكل القاعدة المادية لما ينشأ عنها من وعي بالجماعة القومية، و أخرى تتعلق بنفور الأكاديميين و المثقفين من مناهج الماركسية في الاقتصاد السياسي و علوم الاجتماع سهواً عن مكنونات صوابها و إحجاماً عن ثوريتها أو سقماً منها بعدما انتحرت تجارب البناء الاشتراكي بحبل الشمولية، و أخيرة ذات أولوية تتصل بالدوافع الذاتية للطبقات الوسطى. هذه الأسباب مجتمعة لا تنفصل عن دفع إمبريالي نافذ يأخذ زمام المبادرة في تفسير الحال السوداني و فك شفرة محنته و رسم «خطة الطريق» المناسبة للخروج بالبلاد من نفقها المظلم، في إتساق مع موجبات و ضرورات المصالح الاقتصادية و السياسية للدوائر الرأسمالية الدولية. المتابع لتقارير مراكز الدراسات الدولية الناصحة لا يفوته أنها تأخذ بتضاد المركز و الهامش مرشداً و منهجاً في التقصي و التوصيات و خير مثال لذلك منشورات «مجموعة الأزمات الدولية» المتتالية بخصوص النزاعات السودانية، ما يشير لاشتراط الدعم الدولي لمبادرات القوى السياسية الوطنية بمنطلقات مماثلة تتفق مع التصور النموذجي للمركز و الهامش الذي تستند عليه الرؤى السياسية للدوائر الدولية الغالبة.

بالمقابل فإن اعتبار كل اختلاج سياسي و ايديولوجي بالضرورة مرتبط ميكانيكياً بإزاحة ما في البنية الاقتصادية الطبقية و تعبير مباشر عنها هو بدائية مخلة توجب التعرية، أولاً لأن البنية لا تتيح نفسها لتعيين سكوني كما الصورة الفوتوغرافية و ثانياً لأن السياسة هي في الحقيقة انعكاس لإتجاهات تطور البنية لكن ليس لزاماً أن تتحقق هذه الإتجاهات فعلاً . لا يمكن في الواقع الكشف النهائي عن الروابط بين البنى التحتية و الفوقية لأي تكوين اجتماعي في فترة زمانية محددة إلا بعد اكتمال و نضج تطور هذه البنى أي من باب البحث التاريخي النقدي. من هذا المبدأ فإن تقصي ديالكتيك الواقع العياني و التصورات الايديولوجية عنه تلزمه "بَصَارة" نظرية شديدة خاصة في حالة بلادنا حيث تتشابك محددات عرقية و دينية و ثقافية متعددة من فوق الطبقة الإجتماعية و من تحتها و يفعل الفصام الإستعماري فعله في كل، بحيث يسهل الهروب إلى الخلف تمسكاً بالقديم البالي من هياكل اجتماعية و سياسية لم تعد ملائمة للعصر و لا للأصل أو إلى الأمام تجافياً للحقائق على الأرض في قنوط نخبوي أو - و ذلك الغالب - الركون إلى منطلقات العرق. و هي إتجاهات تستبطن تراجعاً تكتيكياً عن وعورة العمل الجماهيري التقدمي، ما يشابه ردة سابقة أملتها ظروف مغايرة عقب هزيمة ثورة 1924 عندما زهدت النخبة في الحركة الجماهيرية و عسر عليها الإستقلال بوعيها الذاتي ففضلت على ذلك دثار الطوائف الدينية بوصفها أوعية جاهزة و غير مشروطة لتجييش السند الشعبي، و من ثم انتهت إلى اختزال مهام التحرير المركبة في ظاهر الاستقلال السياسي و باطن الاندماج الراغب في هياكل و آليات الحكم الاستعماري الإدارية و الاقتصادية وراثة الإبن لدار أبيه.

في عرف الماركسية الطبقة تتقدم على ما عداها من محددات التعريف الاجتماعي، و الموقع الطبقي يتعين وفقاً للدور الذي تقوم به التشكيلة الاجتماعية المحددة في عملية الإنتاج. بناءاً على هذا المبدأ و حسب معطيات القرن التاسع عشر تنبأ ماركس بأن التطور الرأسمالي لا بد مفضي إلى إلانقراض التدريجي لجميع التشكيلات الاجتماعية قبل الرأسمالية و أن الصراع الجوهري هو بين الطبقتين "النقيتين" البرجوازية و البروليتاريا – رأس المال و القوة العاملة. القراءة الميكانيكية تعجز بطبيعة الحال عن الإفادة من الكشوف المادية التاريخية للماركسية أولاً لتخليطها المبادئ و الاستنتاجات و ثانياً لصممها تجاه ضجيج الديالكتيك الذي يتوسط بين الواقع و الوعي به و بين البنى التحتية للتكوين الإجتماعي و البنى الفوقية، ما يقود إما لنصوصية وثوقية تنتهي بمبشريها في عزلة "اليسار الطفولي" حيث للنص على الحق كل فضل أو إلى قنوط من كل سعي تقدمي كفراً بنبوءات الماركسية المزعومة. في تجاوز لهذا و ذاك تقع مساحة "التطبيق الخلاق" للماركسية في لفظ محبب لدى عبد الخالق محجوب، يجوز اليوم أن نضيف إلى جانبه التطوير الخلاق.

بلادنا ليست فقط هجين من الثقافات و الأديان و الأعراق، كذلك هي هجين من الأنماط الإنتاجية، مما يجعل مهمة الماركسي أكثر عسراً في إدراك و تبيان علاقات الإستغلال و السيطرة و تعريف التراكب الطبقي للمجتمع من حيث اشتباك هذه المحددات. فرض الإستعمار البريطاني على بلادنا فصام تعسفي و قسري تعود بوادره إلى عهد الحكم التركي المصري بين قطاع حديث (إستعماري) و قطاع تقليدي (محلي)، و هو فصام يجد تبريره الايديولوجي في لاهوت التحديث و "عبء الرجل الأبيض" و يمتد فعله في كافة مجالات النشاط الاجتماعي من الإنتاج الإقتصادي و الإدارة المحلية إلى التعليم و القانون و تخطيط المدن و الثقافة و اللغة نتجت عن تمكينه الواثق مجموعة قطبيات مفاهيمية صارت من المقبولات البديهية التي نادراً ما طالتها المساءلة؛ زراعة حديثة مروية مميكنة – زراعة تقليدية مطرية غير مميكنة، إدارة أهلية – إدارة حكومية، المسيد – المدرسة، جامعة الخرطوم – المعهد العلمي، قضاء مدني – قضاء شرعي، الخرطوم – أم درمان، الفنون الحديثة – الفنون الشعبية، و هي قطبيات العلاقة بينها عكسية نافية كما كانت المواجهة العسكرية بين الأنصار و الجيش الغازي. على هذا الأساس لم تكن خبرة التحديث على يد المستعمر "محايدة" أو "بريئة" إذا جاز التعبير بل تمت ضمن إطار من العنف و القسر و الإقصاء و السيطرة و الاستغلال الإمبريالي، حسب تراتبياته يكون المعاكس الموضوعي لما هو "حديث" (modern) كل ما هو "محلي" (indigenous) و ليس ما هو "تقليدي" (traditional). إزاء السعي الإمبريالي لقسر كل فرد مستعمر على الإعتراف بدونية ثقافته التي يتم بالتدريج تحويلها إلى أنماط محددة من السلوك و إقناعه بلا-واقعية قوميته و في الحد الأقصى الطبيعة المرتبكة و غير الصحيحة لتكوينه البيولوجي، إزاء هذا السعي تتعدد ردود أفعال العنصر المحلي بين موقفين أساسيين؛ ففيما يحتفظ جمهور الناس بتماسك تقاليدهم - التي لا تمت بصلة للقوة المحتلة ينكب المثقف على اكتساب ثقافة القوة المحتلة و يكيل النقد لثقافته المحلية دون فرز، أو في الإتجاه الآخر يلجأ إلى محاولة إثبات أحقيتها و قيمتها بطريقة عاطفية إنشائية سرعان ما تصبح غير منتجة. أحد نتائج فعل الاستعمار أن يصبح الاندراج في عالم "النظام" الإستعماري بحد ذاته في مقابل عالم "الفوضى" المحلي ميزة إجتماعية طبقية و سياسية، تتمخض عنها تراتبية أولية مصاحبة للتمايز الطبقي الرأسمالي و مندغمة فيه. معلوم أن البرجوازية و البروليتاريا هما طبقتين خاصتين بالنمط الرأسمالي و ليس لهما وجود في المجتمعات قبل الرأسمالية. في المركز الإمبريالي تعمل آليات التطور الرأسمالي على تدمير الطبقات القديمة و تعويضها بالطبقتين الجديدتين المتعاديتين. لكن الأمر ليس كذلك في الهامش المضطهد حيث تحافظ الأنماط الإنتاجية القديمة و بالتالي الطبقات التي ترافقها على و جودها، لكن هذه الطبقات تتحول تحت تأثير السيطرة الإمبريالية و الدفع الرأسمالي، مما يعني أن طبقة برجوازية محلية تتطور في إرتباط وثيق مع عملية الاندماج في النظام الإمبريالي، و السيطرة الإمبريالية هي أساساً التي تنجب هذه الطبقة الجديدة. لم تتوفر للنخبة السودانية الوليدة طاقة الوعي التي يمكن بها تحطيم الحاجز الاستعماري بل عكس خطابها السياسي في جانب منه خوفاً مضمراً من إستقلال الحركة الجماهيرية و نموها خارج أسر الولاءات التقليدية، و كان هذا الموقف أحد الدوافع التي جنحت بالنخبة لتحالف تاريخي مع مراكز القوة أي الصف السياسي للبرجوازية الزراعية. بطبيعة الحال انحصر نشوء و تطور الوعي الطبقي بين الجماهير الشعبية لدرجة مقدرة في حدود تمدد الإنتاج الرأسمالي، فحيثما ظلت أنماط الإنتاج على حالها "المحلي" بقيت البنية الفوقية للمجتمع على أوليتها قبل الرأسمالية: صيداً سهلاً لديمقراطية الطوائف القابضة؛ و تعسر كذلك على الطليعة اليسارية للبروليتاريا السودانية تحقيق صيغة "الكتلة التاريخية" بين مسحوقي الريف و المدينة رغم وضوح الحوجة لتثوير هياكل المجتمع و السلطة و الدولة بما يمكن لديمقراطية جذرية تتوسل بها الجماهير لرتق الفتق الإستعماري و مخاطبة الطبيعة التعددية لمجتمعات البلاد كبحاً لنوازع الاستبداد المركزي و من ثم فتحاً لطريق التحرير و التقدم وفق هوى سوداني مزيج.

في المجتمعات التي تتجاور فيها أنماط إنتاجية رأسمالية و قبل رأسمالية لا ينبلج الوعي الطبقي ناضجاً بسبب من غموض التصور و التعبير عن المصالح الطبقية، إذ أن التقسيم الاجتماعي الكائن إلى وحدات طائفية و قبلية شبه إقطاعية يعني تداخل العوامل الاقتصادية و أخرى سياسية عرقية و دينية بصورة صعبة الفكاك. لهذا الوضع جذر في الاختلاف الأساس بين الإنتاج قبل الرأسمالي و سابقيه، حيث أن المجتمعات قبل الرأسمالية اقل تماسكاً و اندماجاً و تتمتع الوحدات المكونة لها بقدر أعظم من الإكتفاء الذاتي و تلعب التجارة بينها دوراً أقل كما هو الحال في التكوينات القروية شبه المشاعية. الدولة كوحدة إقتصادية و سياسية منظمة تظل تحت هذه الشروط بنية من خارج الواقع الاجتماعي و مهددة من قبله، لأن قطاعات إجتماعية مقدرة تعيش ببساطة وجودها "الطبيعي" فيما يقارب استقلالاً تاماً عن الدولة و مصيرها. تتعاظم غربة الدولة بالطبع عندما تكون في المقام الأول جهازاً مصمماً للإستغلال الإستعماري انتقل من قبضة الأجنبي إلى قبضة وريث محلي دون أن تطاله تغييرات ديمقراطية بالحق يتوطد بها بناءه الواهي في التربة الوطنية و تتجذر مؤسساته في واقع الجماهير الشعبية. على العكس من ذلك ضاعف نقص المشروعية المزمن للسلطة السياسية من غربة جهاز الدولة و انقطاعه عن مسؤوليات التحرير و التنمية و التقدم الإجتماعي، و التي دون القيام بها يصعب تصور استقرار مجتمعات متباينة القوميات و الأديان و المعتقدات تشهق دهشة من فرط صدمة الجبر الرأسمالي و التفكك الحداثي.
عند هذا الحد لا بد من التساؤل حول ماهية التقدم الإجتماعي المنشود، و لقد شاب هذه القضية تزييف ايديولوجي شديد الأثر خرج بها من الإقتصاد السياسي لتحشر حشراً في تناقض العلمانية و الدين – معركة في غير معترك، حتى تم للمهرجين السياسيين دفن قضايا الجماهير تحت ركام قلاع الشعارات، و تجربة الإنقاذ بين أيدينا نشهد حصاد مشروعها الحضاري. معلوم أن تدرجاً مركزياً أوروبياً يوجه بدرجة ما تصوراتنا عن التنمية، تتمايز فيه ثلاث لحظات فاصلة وفق ترتيب خطي، في كل منها يطغى قطاع إقتصادي معين: مرحلة أولى يتسيد فيها القطاع الزراعي و إستخراج المواد الخام، مرحلة ثانية تشغل فيها الصناعة دور الريادة، و مرحلة ثالثة حالية للخدمات و التحكم المعلوماتي فيها موقع القلب من الإنتاج الإقتصادي. من حيث الكفاءة الوصفية يبدو هذا التصنيف واقعياً لكنه يتراجع أمام واقع الأشياء، حيث تتحكم شروط اقتصادية و اجتماعية محلية و إقليمية و كونية مغايرة تماماً لظروف و عوامل النمو الأوروبي في هياكل إقتصاديات البلدان "النامية". في الأساس يعتمد نمو أي نظام اقتصادي وطني أو اقليمي لدرجة كبيرة على موقعه في تراتبية النظام الرأسمالي العالمي و علاقات القوة الكامنة فيه و الضامنة لاستمرار نمو البلدان القاهرة و تخلف البلدان المقهورة كقطبين متلازمين في بنية علاقات القوة الدولية. لا يعني هذا التعميم أن البلدان النامية لا تتقدم أو تتطور على الإطلاق، لكنها تبقى دوماً في موقع المقهور الأدنى داخل النظام العالمي، و بالتالي يستحيل عليها تحقيق وعد اقتصاد متطور و غالب. بعض البلدان (النمور الآسيوية خاصة كوريا الجنوبية) استطاعت فعلاً تغيير موقعها داخل هذه التراتبية، لكن القضية هي أنه بغض النظر عمن يشغل أي موقع تظل "التراتبية" عاملاً حاسماً. وفقاً لهذا المنظور النقدي فإن نموذج المركز و الهامش يطرح نفسه كوحدة موضوعية طرفاها قوى دولية غالبة و أخرى مغلوبة ضمن إطار الأسر الرأسمالي، بينما يغفل دور البرجوازيات الوطنية في إحكام القبضة الإمبريالية على مقدرات الشعوب المقهورة كوكيل محلي لمصالح الدول الكبرى و كمستغِل داخلي يستفيد بشكل مباشر و غير مباشر من اللاتكافؤ البنيوي بين المركز و الهامش الكونيين من حيث نصيبه في الفائض الإنتاجي للشعوب الذي يتقاسمه و قوى عولمية تضخ الرساميل و التكنولوجيا في إقتصاديات البلدان النامية أو تتمنع حسبما تقتضي ظروف و حوجات النظام الرأسمالي العالمي. يجب التذكير أن الإمبريالية كقوة كونية و ظاهرة إقتصادية قد أعادت تأهيل نفسها اخلاقياً بسقوط حائط برلين و حرب الخليج الثانية و صعّدت تحت مسمى سياسات "الليبرالية الجديدة" من وتيرة و شدة التطويق الاقتصادي و السياسي لدول العالم الثالث فيما يفوق كمياً و نوعياً ما كان يعرف بظاهرة "الإستعمار الجديد". كما أسكتت خطاب الاقتصاد السياسي الجذري بمفاهيمه الأساسية: الطبقة الإجتماعية و قوى الإنتاج، التي تموضع الصراعات الحقيقية للطبقات الشعبية و الجماهير المضطهدة في موقعها المركزي من مسرح الفعل الإجتماعي و تعرّف الشعب كفاعل أول للتحول الإجتماعي في مقابل الدولة. في محل هذه المفاهيم تتحول الجماهير الشعبية في خطاب "الليبرالية الجديدة" إلى كتلة بشرية عاجزة تنتظر "معونات محاربة الفقر"، بينما يعتبر القطاع الخاص المحتفى به قاطرة التنمية و رائدها. المدهش أنه وفقاً لهذا المنطق يصبح المقابل الديالكتيكي ل(الفقراء) هو (المانحين) و ليس (الأغنياء)، و السؤال التحليلي ليس (كيف أصبح الفقراء فقراء و ما زالوا فقراء؟) بل (كم عدد الفقراء و كم عدد الفقراء جداً و ما هي المدة الزمنية المطلوبة لإزالة الفقر؟) . كذلك فإن الدولة كمنفذ لسياسات و خطط "تنموية" ترسمها الجهات المانحة تصبح في المقام الأول مسؤولة و محاسبة أمام (المانحين) و ليس بالضرورة أمام شعبها، الواجب أنه مصدر السلطات حسبما تقضي ضجة الدمقرطة و "الحكم الصالح" أي الشق السياسي لخطاب الليبرالية الجديدة. أما بنود خطط التنمية عند المانحين و شركائهم فمعلومة لدى الكافة: خصخصة الملكية العامة، رفع دعم الدولة عن السلع و الخدمات، "تحرير" السوق، خصخصة قطاعات التعليم و الصحة و الإتصالات..إلخ، وهي مهام يشترط المركز الإمبريالي على الدول المتعاونة تحقيقها للشروع في خفض و جدولة الديون أو التصديق بقروض و معونات مالية جديدة.

بالعودة إلى تطبيقات نموذج المركز و الهامش في بلادنا يمكن تعيين المركز بمثلث "التنمية": الخرطوم – سنار – كوستي، أما الهامش فيشمل كافة الأقاليم الأخرى مع اختلاف درجة التهميش، هذا فيما يخص الاستحواذ على الثروة الإقتصادية، و المفهوم يتسع ليتضمن استبداد و طغيان مجموعة ثقافية و عرقية عربية إسلامية مركزية على القوميات السودانية الأخرى، و بهذا يتجلى الصراع سياسياً و إقتصادياً و قومياً و ثقافياً بين مجموع المهمشين و الأقلية المركزية القابضة. هذا إيجاز شديد قد يكون مخل لكنه يطابق إلى حد كبير ما وقر في قلوب الجماهير من خطاب التهميش. دون شك المفهوم ذو كفاءة وصفية لا يمكن إنكارها، و هنا تكمن جاذبيته الشديدة، لكنه لا يتيح إمكانيات تحليلية فعالة تسمح بإدراك تاريخية و آليات التهميش كما يعدم الأدوات التي يمكن بها فرز التمايزات المهمة و علاقات القوة و السيطرة داخل كلا الكتلتين. و ربما لهذا السبب يمكن إستغلال خطاب المركز و الهامش مأخوذاً دون تصويب نقدي لرفد الإتجاهات الشوفينية و الديماغوغية العنصرية، كمثال على ذلك بروباقاندا "منبر السلام العادل" و خطه السياسي و ما ورد في "الكتاب الأسود" المشهور مانفستو "حركة العدل و المساواة".

هنالك علاقة وثيقة بين المد الرأسمالي تحت ظل السيطرة الإمبريالية للإستعمار و بين النشوء التاريخي للمركز كما تم تعيينه، حيث توفرت في الوسط السوداني جملة شروط جعلته المجال الأنسب و الأكثر ربحية للاستغلال الرأسمالي منها الأراضي الزراعية المنبسطة بين نهرين في الجزيرة، وحدة اللغة الضرورية للازدهار التجاري، الثقافة الفلاحية، و وجود شكل سابق من أشكال السلطة المركزية و نظام الدولة. التغيير الذي طرأ على السلطة السياسية بخروج الاستعمار لم يشكل إنقطاعا جذرياًً عن الدولة الاستعمارية و سياساتها، حيث تخلقت بفضل التغلغل الرأسمالي طبقة محلية من البرجوازية الزراعية تسلمت قيادة الفئات الحاكمة السابقة بحكم موقعها المركزي في هيكل السلطة الإجتماعية القديم و إرتباطها المؤسسي بالأنماط الإنتاجية قبل الرأسمالية. نظراً لطبيعة نشوءها و الأساس الاقتصادي الاجتماعي لسلطتها كان لزاماً على البرجوازية الزراعية الجديدة أولاً أن تحافظ على علاقات السيطرة التي تربط الاقتصاد الوطني بالمركز الإمبريالي – المشتري الأول للقطن، و ثانياً أن تعمل على منع اندثار التشكيلات الطائفية و القبلية و أساسها الإنتاجي، إذ لا تستقيم لها دون ذلك سلطة أو سطوة. وفقاً لهذا التحليل فإن مصالح البرجوازية الزراعية تتعارض أولياً مع منطلقات التقدم الإجتماعي و التحرر الوطني إقتصادياً و سياسياً بما في ذلك بروز برجوازية وطنية ناضجة قادرة على مراكمة و إستغلال فائض الإنتاج الزراعي لجهة توسيع الإنتاج الرأسمالي و تنويع مصادر الإنتاج و الفائض الاقتصادي عبر إستغلال موارد البلاد الطبيعية و إدماج دوائر اجتماعية و جغرافية أوسع في النمط الرأسمالي. لدرجة مقدرة مثلت الدولة رافعة البرجوازية الزراعية للصعود السياسي و الاقتصادي في إمتداد لتراث أرساه الاستعمار بمنح قيادات الطوائف أراضي واسعة و قروض مالية ميسرة و تسهيلات ضرائبية، من ثم لم تستطع البرجوازية الزراعية أن تدرك التغيير الجذري اللازم حدوثه بزوال الإستعمار من حيث المهام الملقاة على عاتق جهاز الدولة في بلاد منقسمة على نفسها منذ ما قبل إعلان الإستقلال السياسي. بمساعدة طليعة اليسار المتنامية أخذت البروليتاريا السودانية تدرك وضعها الطبقي و تصعد من صراعها، كما نجحت في جذب قطاعات من صغار المزارعين و العمال الزراعيين إلى جانبها، بالإضافة إلى نفوذ اليسار الكبير في أوساط المثقفين و قطاعات من البرجوازية الصغيرة، بل أثره حتى البرامج السياسية للأحزاب الطائفية، و عبر هذه البوابة دخلت قضايا القوميات خاصة قضية الجنوب إلى ديوان السياسة السودانية تحت شعار الحكم الذاتي و الحل السلمي الديمقراطي لقضية جنوب البلاد في إتصال مع مجمل الصراع الطبقي في البلاد و مع الاعتراف بتاريخ قبيح من الاسترقاق و الاستعلاء و الهيمنة. على أية حال أخذت التطورات اللاحقة منحى آخر، فعندما إشتد التعارض بين مصالح البرجوازية الزراعية و بين الحركة الديمقراطية، آثرت الأولى دعوة حلفائها العسكريين من كبار الضباط إلى استلام السلطة في نوفمبر 1958.

شهدت سنوات الستينات و السبعينات صراعاً حاداً بين الحركة الديمقراطية من جهة و بين البرجوازية الزراعية و القيادات الطائفية من جهة أخرى، بجانب الصراع داخل الحركة الديمقراطية بين تيارات البرجوازية الصغيرة و بين التيار الجذري. كذلك برز إلى الوجود الفعال تيار الإسلام السياسي – حتى تلك الفترة مجموعة ايديولوجية محدودة الإنتشار في أوساط البرجوازية الصغيرة و احد انعكاسات ترددها الطبقي، الذي سرعان ما امتد تأثيره في دوائر الطائفية المحافظة حتى شهر مثقفو الأحزاب سلاح الدين في الصراع السياسي مدفوعين بإبتزاز التيار الإسلامي. النتيجة النهائية لهذه الصراعات كانت ضربات متتالية تلقتها الحركة الديمقراطية من خارجها بطرد نواب الحزب الشيوعي من البرلمان، ومن داخل صفوفها بإنقسام الحزب الشيوعي في 1970 عقب إنقلاب جعفر نميري و من بعد ذلك هزيمة 1971 و ما تلاها من إرهاب.

البرجوازية الزراعية كطبقة سياسية و إقتصادية لم تكن لتصمد طويلاً أمام منافسة قاسية من داخل البرجوازية و بسلاح السلطة السياسية، حيث أدت هجمة التأميم التي قادها النميري إلى تغييرات عميقة في الأساس المادي لوجودها، فصعدت إلى القيادة شريحة الرأسمالية الطفيلية (الكومبرادورية) المكونة من عناصر البيروقراطية الحكومية غالباً ذات الأصل البرجوازي الصغير و غير المرتبطة بهياكل الطائفية التقليدية و مجموعة الرأسمالية الإسلامية التجارية، في إتصال كثيف مع دوائر مصالح إقليمية و دولية. بالتالي يمكن القول أن الصراع السياسي الذي احتدم في الثمانينات و انتهى بسقوط نظام النميري عكس في جانب منه التوتر و النزاع داخل البرجوازية السودانية بين برجوازية زراعية طائفية قيد التفكك و الإنحلال و برجوازية تجارية (كومبرادورية) تحالفت معها شرائح من الطبقات الوسطى و اتخذت الإسلام السياسي ايدولوجيا حركية مما مكنها من إصابة هدفين اساسيين: أولاً منافسة الطوائف الدينية على قواعدها الشعبية و ثانياً صد انتعاش الحركة الديمقراطية تحت شعار بعث الدين و تطبيق الشريعة. لذا كان من الطبيعي أن يتم إجهاض ابريل قبل استوائها الثوري، حيث وجدت كتل متنازعة المصالح نفسها مجبرة على الائتلاف للتخلص من نظام ديكتاتوري فاقد المشروعية و متكلس شدت الحركة الجماهيرية من حصارها له و لم يستطع أن يتقبل سيادة الرأسمالية الإسلامية العضوية تبعاً لحسابات سياسية دولية و داخلية بينما كان حملاً ثقيلاً عليها بسبب إرثه الاستبدادي الدموي و لا شعبيته الواضحه و مؤسساته غير الفعالة فزهدت فيه لتتسلل إلى صفوف الانتفاضة الشعبية.

فترة الديمقراطية الثالثة كانت مسرحاً للصراع بين هذه القوى و اتضح للبرجوازية الجديدة أنها كأقلية برلمانية ليس بوسعها تحقيق ما تصبو إليه خاصة و الحركة الديمقراطية بدأت تستعيد نفوذها التاريخي في الأوساط النقابية و المهنية بينما كانت حركة التحرير من الجنوب تأخذ زمام المبادرة في ساحة الحرب، و أخذت القوى الطائفية تحت ضغط الحركة الديمقراطية تستعد لقبولها لاعباً سياسياً في النادي البرلماني وفق مشروع للسلام سوداني الصناعة يتم بموجبه عقد مؤتمر دستوري و إلغاء قوانين سبتمبر و تنظيم انتخابات حرة في كافة انحاء البلاد بما في ذلك ساحة القتال في الجنوب. مشروع السلام السوداني شكل تهديداً لا يمكن القبول به للبرجوازية الجديدة حيث كان بيناً أن إنضمام كتلة الجنوب بمشروعها التحريري إلى مجمل الحركة الديمقراطية سيمثل حاجزاً لا يمكن اجتيازه أمام البرجوازية الاسلامية، خاصة و الحركة الشعبية حينها كانت تتبنى خطاباً تحريرياً اشتراكي النزع يعارض صراحة التيارات الشوفينية القومية في الجنوب. لم يكن صدفة إذن أن يتزامن انقلاب الجبهة الإسلامية القومية مع قبول الأحزاب الطائفية للسير في طريق الحل السلمي الديمقراطي لقضية جنوب السودان بعد فترة من التردد من جانب الأحزاب و من جانب الحركة. في نظر الجبهة الإسلامية كانت هذه الخطوة تمثل انقطاعاً لشعرة معاوية بينها و بين الأحزاب، و خيانة لا يمكن غفرانها للمصالح الإستراتيجية للطبقة البرجوازية الصاعدة و هي ماتزال في أول الطريق لم تحكم قبضتها بعد على ثروات البلاد و مفاصل جهاز الدولة. كانت الجبهة قد انتبهت فيما سبق للدور المحوري الذي يلعبه الجيش في توازن القوى السياسية في البلاد فعمدت إلى ترويج أفكارها بين صفوف الضباط الصغار خاصة و قد وهنت العلاقة العضوية التي كانت تربط الهياكل الطائفية بالمؤسسة العسكرية من حيث القبول في الكلية الحربية و فرص الصعود إلى المناصب القيادية. معلوم أن الصفة البرجوازية الصغيرة لقطاع الضباط تجعلهم بالضرورة عرضة للتردد الفكري و غموض الموقف السياسي، بالذات على خلفية حرب طاحنة في الجنوب تعوزها الشرعية و لا يمكن تبريرها بالعقيدة القتالية التقليدية لجيش وطني وجد نفسه يخوض حرباً ضروس حول قضية سياسية من أجل مصالح طبقة مركزية عليا ضد سكان بلاده و رفاق سلاح سابقين تحولوا بين ليلة و ضحاها إلى متمردين خونة واجب إبادتهم و ليس ضد معتد خارجي. من ثم وقع الخطاب الديني للجبهة الإسلامية موقعاً حسناً في قلوب كثير من العسكريين الشباب لما يقدمه من تبرير ديني للحرب حيث صاغت الجبهة قضية الجنوب السياسية كصراع بين الإسلام و الكفر و جعلت من القتال جهاداً دينياًً و من القتلى شهداء في سبيل نصرة الإسلام.

بسيطرتها المنفردة على السلطة انفتح الطريق أمام الصعود السياسي و الإقتصادي للكومبرادورية الإسلامية ففتكت أولاً بأعدائها السياسيين قمعاً و قتلاً و تشريداً مستهدفة الحركة الديمقراطية أحزاباً و نقابات و منظمات جماهيرية كما حاصرت البرجوازية الزراعية التقليدية أشد الحصار لتتخلص من منافسيها خارج الكتلة البرجوازية و داخلها. بعد فترة التمكين الأمني شرعت الكومبرادورية الإسلامية مسلحة بالسلطة في إحكام قبضتها على جهاز الدولة بحيث أحلت أهل ولاءها في كل موقع و من ثم تمكنت تدريجياً من الاستيلاء على مجمل مصادر الثروة في البلاد تحت غطاء "التحرير الإقتصادي". تآزرت عدة عوامل داخلية و خارجية و دولية لتدفع أهل الحكم إلى الإقتناع بألا سبيل لبقاء النظام إلا بالتماهي التام مع مصالحهم الطبقية و التخلص من العبء الايديولوجي الذي أتوا به إلى سدة السلطة، و بالفعل توارى خطاب الأممية الإسلامية ليفسح المجال لتحول أكثر براغماتية كان نتاجه إعادة صياغة الواجهة السياسية – المؤتمر الوطني – حتى يحقق صفة الكيان السياسي العضوي لبرجوازية كومبرادورية ريعية و تابعة لمؤسسات المال الخليجية و الآسيوية. حقاً تمكن المؤتمر الوطني أن يجمع من حوله فصائل سياسية من حزبي الأمة و الإتحادي الديمقراطي تبعوا نداء المصالح الطبقية المشتركة قافزين من سفين البرجوازية الزراعية المعطوب حيث راعهم ما سيفوتهم لو ظلوا في مقاعد المعارضة، خاصة و النظام قد بادر بالاستغلال الفعلي لموارد كانت محجوبة كالبترول و المعادن و أتاح الخدمات العامة للإستثمار الرأسمالي، و لعل "ونسة" المجالس كانت تعكس هذا المفهوم عندما أشيع أن السيد مبارك الفاضل أدار ظهره للحكومة بسبب خلاف مع وزير الطاقة د. عوض الجاز وصل لحد العراك بالأيدي.

لا يمكن ادراك الرؤية السياسية التي حكمت مواقف النظام المتناقضة من قضية الوحدة الوطنية إلا باسترجاع حيثيات صراعه مع القوى السياسية في المركز و التي كانت دافعاً للانقلاب العسكري على الديمقراطية البرلمانية. في إشارة سابقة ورد ذكر تهيب الجبهة الاسلامية من ائتلاف سياسي تنضم تحت راياته الكتلة الجنوبية إلى التيار العام للحركة الديمقراطية السلمية، و هو هاجس تعاظم أكثر بوصول الأحزاب و الحركة الشعبية إلى صيغة تحالف عريض في التجمع الوطني الديمقراطي. الجبهة الإسلامية تعلم بطبيعة الحال أن أسلمة و تعريب الجنوب مهمة لا يمكن تحقيقها و لم تتعامل معها ابداً كهدف واقعي لسياساتها تجاه الجنوب بينما كانت محور خطابها التجييشي في الشمال. في أول عهده أدهش النظام الكثيرين بطرح مسألة تقرير المصير على طاولة المفاوضات السرية مع الحركة الشعبية في فرانكفورت، و لما كانت الحركة تعاني انشطاراً داخلياً منذ ولادتها في 1983 بين تيار وحدوي يتعاطى مع قضية الجنوب ضمن إطار أزمة الدولة السودانية العامة و آخر انفصالي يحبذ التركيز على بناء قومية جنوبية موحدة و النضال من أجل قيام دولة مستقلة في جنوب السودان مثل هذا الطرح المباغت طعماً سياسياً حذقاً ساهم ضمن عوامل أخرى في تصاعد النزاع داخل الحركة حتى الذروة - إعلان الناصر في أغسطس 1991 الذي انقسمت بموجبه الحركة إلى فصيلين التيار الأم – توريت بقيادة د. جون قرنق و التيار الإنقسامي – الناصر بقيادة د. رياك مشار. اختار مواطنو الجنوب للقتال الشرس الذي اندلع بين الفصيلين إسم "حرب المثقفين" و هو لم يكن كذلك فقط حيث مثل في قاعدته تشرذماً قبلياً حاداً و ردة عن كل محتوى تحرري لكفاح الحركة الشعبية، و بالتالي كان من الأسباب التي عزلت المقاتلين عن الحضن الشعبي و ساهمت من ضمن أخرى في تحقيق غلبة النظام العسكرية في ساحة الحرب إبان "صيف العبور" الشهير. سياسية "فرق تسد" التي انتهجها النظام تجاه الجنوب و الحركة الشعبية توجت بتوقيع إتفاقية الخرطوم للسلام بين الحكومة المركزية و مجموعة من الأطراف المنشقة على رأسها حركة استقلال جنوب السودان بزعامة د. رياك مشار في أبريل 1997 و التي إنضم إليها في سبتمبر 1997 د. لام أكول على رأس الجيش الشعبي لتحرير السودان – الفصيل المتحد بمباركة رث الشلك. الكسب الأهم للنظام من هذه الخطوات المحسوبة كان إيجاد وكيل محلي لخوض الحرب ضد الحركة الشعبية بدلاً عنه مستغلاً عوامل الشقاق القبلي و ضغائن القتال بين المليشيات التابعة للفصيلين المتنازعين التي تمتد في تاريخها إلى عهد نشوء الحركة أي الصراع الدموي بين الجيش الشعبي و الأنيا-نيا 2 من العام 1983 و حتى المصالحة الشكلية بين الجانبين في 1988 و الذي تجدد دموياً ايضاً بإنشقاق فصيل الناصر. بالفعل ظلت علاقة الشراكة بين النظام و "الفصائل" باقية رغم إجهاض إتفاقية الخرطوم للسلام المدمجة كمصدر في دستور 1998 و عودة د. رياك مشار إلى "الغابة"، بل حتى بعد توقيع إتفاق السلام الشامل مع الحركة الشعبية في يناير 2005.

تاريخ النزاع بين الجنوب و الشمال يمتد إلى ما قبل الإستقلال و قد شهد فترات من التصاعد و الهدوء كانت في جانب منها انعكاساً غير مباشر لتوازن القوى في المركز، و ربما جاز الاستنتاج أن تعاظم نفوذ الحركة الديمقراطية في الستينات كان عاملاً حاسماً في القبول التدريجي الذي وجده مبدأ الحكم الذاتي كخطوة سياسية في طريق الحل السلمي الديمقراطي لقضية الجنوب، ذلك القبول الذي ألبسه جعفر نميري لبوس دكتاتورية الفرد ليترجم نفس المبدأ ناقصاً الديمقراطية في إتفاق أديس أبابا 1972 اشهر معدودات بعد إعدامه لمناضلي الحزب الشيوعي و من بينهم عضو اللجنة المركزية للحزب و وزير شئون الجنوب جوزيف قرنق إثر هزيمة حركة يوليو 1971. عليه لا يمكن فهم التحولات العميقة في طبيعة النزاع بمعزل عن التغييرات و التحولات في المركز. سيطرة البرجوازية الإسلامية على السلطة السياسية في 1989 دشنت فصلاً جديداً في هذا التاريخ حيث لم تنفصل سياساتها تجاه الجنوب عن الإتجاه العام لأهدافها السياسية المباشرة و مصالحها الطبقية الاستراتيجية. في هذا الشأن كان لزاماً على النظام – آخذاً بدرس ثورة اكتوبر 1964 الظافرة - أن يدق إسفيناً أكبر من البغضاء بين الشمال و الجنوب يطيح كلياً بمنطق "الوحدة الوطنية" و يحول دون نشوء رأي عام فعال في المركز مضاد للحرب و مطالب بحل سلمي. لذا بذل النظام جهده في تجذير الفكرة القائلة بأن الحرب في جوهرها صراع وجود بين شمال مسلم عربي و جنوب كافر زنجي و ذلك في عقول أهل الجنوب و الشمال على السواء. تعدى سعي النظام الدعاية الإعلامية إلى تجنيد الطلاب و قطاعات المجتمع الأخرى في معسكرات للتدجين الايديولوجي في المقام الأول و التدريب العسكري و بذلك نقل الصراع إلى داخل كل بيت في "الشمال" بحيث لم يعد طرفاه بحسب الرأي العام في المركز جيشاً محترفاً و قوة مقاتلة جنوبية ذات مطالب سياسية بل نجح النظام لدرجة كبيرة في فرض تصور مانوي عن النزاع بإحالته السببية حصرياً إلى الدين و العرق و بالتالي تحويله إلى قتال وجود و هوية و شرف و عرض و ..إلخ بين كتلتين اجتماعيتين تقفان على النقيض من بعضهما البعض كالخير و الشر. بنفس القدر لم يبد النظام تحرجاً من القبول بحق تقرير المصير منذ حوارات فرانكفورت ليس زهداً في مغانم الجنوب و ثرواته و ليس طلباً للسلام فقد أخلف النظام وعده لشركاءه في إتفاقية الخرطوم للسلام قبل إطلاقه و لكن لشطر الحركة الشعبية من جهة و قد تحقق له ذلك و لإقناع الرأي العام في المركز من جهة أخري أنه قدم لحركة "التمرد" أقصى ما يمكن أن تطلبه و بالتالي لا يمكن تفسير إصرارها على مواصلة القتال إلا بالرجوع إلى صراع الهويات الأبدي. من هذا المنظور فإن تعامل البرجوازية الإسلامية مع قضية الجنوب يعكس نسبياً رغبتها في استغلال موارده حسب تصورها الخاص للتنمية إما منفردة أو بالقسمة مع كتلة جنوبية تتحالف معها و تشاركها المصالح بحيث تبقى المسافة الجنوبية – الشمالية التي تعزل هذه الكتلة من مجمل الحركة الديمقراطية في مكانها و تتناقص احتمالات تبلور تيار عبر- هوياتي غالب و نابع من الجانبين يهدد توازن القوى القائم في المركز على مستوى السلطة السياسية و الإقتصادية.

لا شك أن دور القوى الدولية في رسم طريق التفاوض بين الفرقاء السودانيين كان محورياً إن لم يكن أولياً فقد أصرت الإيقاد و من خلفها أصدقاؤها الذين أصبحوا فيما بعد "شركاء الإيقاد" على حصر التفاوض بين الحركة الشعبية عن "الجنوب" و الحكومة المركزية عن "الشمال" و استبعاد كافة الأطراف السياسية الأخرى غير الحاملة للسلاح من الجهتين رغم الاعتراف النظري بتعقيد القضية و تجاوزها بداهة للأطراف المتحاربة. على كل تكاملت عوامل داخلية و اقليمية و دولية عديدة فرضت استمرار أو بالأحرى جمود العملية دون تقدم يذكر حتى أعادت الولايات المتحدة ترتيب أوراقها و نسج مصالحها في المنطقة استجابة لمتغيرات مختلفة من بينها هجمات الحادي عشر من سبتمبر و تبعاتها و التعاون الاستخباري المثالي الذي قامت به حكومة السودان في هذا الخصوص حتى صنفتها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية حليفاً اساسياً لها في المنطقة في "الحرب على الإرهاب". عندها ألقت الولايات المتحدة بثقلها خلف العملية السلمية حتى تم الاختراق الأولي بتوقيع بروتوكول مشاكوس في يوليو 2002. تدحرجت كرة التفاوض أو تمت دحرجتها عبر مسالك وعرة أطل فيها شيطان التفاصيل برأسه في كل زاوية خلال ما يقارب العامين سطرت فيهما بروتوكولات نيفاشا إلى أن تم التوقيع النهائي على إتفاقية السلام الشامل في يناير 2005.

الإتفاقية جاءت تعبيراً عن الوضع الماثل على الأرضي أي كساد العنف كوسيلة لحسم النزاع بين الطرفين بحيث أجبرا على التنازل عن مشاريع الحد الأقصى و القبول بحل وسط يكاد يكون حسابي تتم بموجبه رعاية مصالحهما و مصالح القوى الدولية الراعية و الداعمة لعملية السلام. إن مراجعة نقدية لمسار الحرب و السلام بين الطرفين و للتغييرات التي طالت تصوراتهما السياسية و الأيديولوجية في إطار المشهد الأفريقي و الدولي و علاقة كل طرف بمراكز القوى الدولية و تقدم أو تراجع تلك العلاقات تكشف أن المساومة التي تمت في نيفاشا لم تكن فقط بين المؤتمر الوطني و الحركة الشعبية بل ايضاً بين كل منهما و المركز الامبريالي. متابعة لذات الخيط يلزم إعادة تقويم الإتفاقية مقروءة مع مشروع القوى الدولية "الإصلاحي" في القارة المستند بالكلية على مفاهيم "الليبرالية الجديدة". إذا كانت الإتفاقية قائمة في شقها الجيوسياسي على نموذج المركز و الهامش الجهويين بمعنى رد الصراع في الأساس إلى عناصر الفرقة الدينية و العرقية بين شطري البلاد و ما يتبع ذلك من ضرورة قسمة السلطة و الثروة بين الكتلتين الاجتماعيتين فإنها اعتمدت مفاهيم الليبرالية الجديدة في شقها الإقتصادي التنموي و ذلك ما أثبته لاحقاً الدستور الانتقالي لعام 2005 بجانب التصريحات الصادرة من طرفي الإتفاق ألا تراجع عن سياسات الخصخصة و تحرير السوق و الخدمات و أن المجتمع المدني ممثلاً في المنظمات غير الحكومية (على الطراز الليبرالي الجديد) هو المناط به تخفيف أثر إعادة الهيكلة على الطبقات "الفقيرة. بالطبع لم تقتصر المساومة على قبول نظري بتسوية ليبرالية جديدة لقضية السودان، بل تم إعداد الهياكل الضرورية لتحقيق هذا الغرض ضمن عملية حفظ السلام، و من بينها حزمة المفوضيات التي لا تنتهي مهامها عند مراقبة وقف إطلاق النار و الإجراءات الأمنية و العسكرية بل تتعدى ذلك إلى القضاء و الخدمة المدنية و الانتخابات و الأراضي بجانب مالية و موارد الدولة، و يعكس تشكيلها سلطان المؤتمر الوطني و الحركة الشعبية مع وجود فاعل للخبراء الدوليين من الجهات المانحة و الأمم المتحدة. المفوضيات بهذا التكوين و بهذه المهام تشكل في الحقيقة كيانات موازية لأجهزة الدولة "التقليدية" تشاركها المهام و السلطات. ليس معلوم بعد كيف سيتم إحكام العلاقة بين جهاز الدولة و بين المفوضيات و ما هي آليات الرقابة الشعبية التي ستضبط نشاطها و على أي أساس سيتم إتخاذ القرارات فيها خاصة و هي تكاد تلامس كل أوجه الحياة العامة في البلاد.

ما دامت القضية كما أجمع الناس هي تحقيق التنمية فلا بد من إدراك أن طريق التطور الرأسمالي و الطبقات المستفيدة منه محلياً و في إرتباط مع دوائر دولية متشابكة لا يمكن إلا أن يفرخ مراكز جديدة داخل الهوامش المستضعفة و هوامش متعاظمة داخل المركز و بالتالي يهزم موضوعياً مساعي التنمية في بلد يشغل بكلياته موقعاً هامشياً و مستضعفاً في التراتب العالمي و من ثم يصب مزيداً من الزيت في نار الاستغلال الطبقي و اللاتكافؤ العرقي و الديني. ذلك ما أثبتته بجلاء سياسات الإنقاذ في إعادة هيكلة الاقتصاد التي تكاد تكون نسخة منزوعة القشرة الديمقراطية مما تبشر به الليبرالية الجديدة. إذا كانت الدولة السودانية في هيئتها الجديدة ستسير في نفس الطريق فالبلاد موعودة بتناسل متجدد لأسباب النزاعات و دوافعها و لن تعدم الجهات السودانية تعريفات هوياتية تخوض تحت راياتها صراعها مع المركز الجديد أو المراكز الناشئة في الأطراف و الهوامش و ذلك بالإحالة المتوالية إلى كيانات إجتماعية أقل شمولاً من الجهة و الدين إلى العرق و القبيلة. ليس هذا فقط استنتاجاً نظرياً إنما يشهد عليه تاريخ الصراع بين الدينكا و الكتل القبلية الأخرى خاصة النوير داخل جسم الحركة الشعبية و كذلك الصراع الدائر حالياً بين كتلة الزغاوة و كتلة الفور في حركة تحرير السودان.
على أساس السرد السابق فإن الحركة الديمقراطية في بلادنا مواجهة بأسئلة ترتبط ببعضها البعض منها: قضية التحرر الوطني مطروحة ضمن إطار نفوذ إمبريالي يتجاوز المعهود من سياسات "الإستعمار الجديد"، ضرورة بناء تنظيمات جماهيرية تجذب إليها الجماهير الشعبية و تمثل مصالحها بحيث تكتسب الجماهير الثقة في وعيها المستقل و في قدرتها على تحقيق أهدافها بإلتزام رؤية جماعية تتفوق على نزعات التجزئة و الشرذمة الهوياتية، طرح برنامج سياسي و إقتصادي يقدم بديلاً لعقيدة الليبرالية الجديدة و يفتح الباب للتفكير الجاد في إمكانية التطور الإشتراكي على ضوء تجارب شعبنا و واقعه و الدروس المستقاة من انهيار التجربة السوفييتية و من مجمل خبرة التنمية في افريقيا و العالم الثالث و تجارب اليسار الجديد في أمريكا الجنوبية خاصة البرازيل و فنزويلا، قيادة مشروع ثقافي يحرر الثقافة الشعبية مما لحق بها من تشويه إقصائي على يد الجبهة الإسلامية و يعيد إلى الضوء محتواها التضامني و الثوري في صلة مع بعث إحترام متبادل لتباين الهويات العرقية و الدينية في بلادنا و مع وحدة المحتوى الطبقي لإحتجاج الجهات السودانية على المركز. القضايا المذكورة ليست بمعزل عن السياسي اليومي و لعل توازن القوى القائم الآن يثبت أن الحركة الديمقراطية في حاجة لوقفة تقفز بها إلى المستقبل و ذلك ما لا يتأتى إلا بنظر ثاقب في اتجاهات البني الاجتماعية و محركات تطورها على المستويين التحتي و الفوقي.

اغسطس 2005

Antonio Gramsci, A Gramsci Reader; Selected Writings 1916 – 1935, Lawrence & Wishart, London, 1988
Franz Fanon, Wretched of the Earth, Pelican, London, 1959
د. سمير أمين، الأمة العربية؛ القومية و الصراع الطبقي، ط1، مكتية مدبولي، القاهرة، 1988
Georg Lukacs, History and Class Consciousness, Merlin Press, 1967
Michael Hardt & Antonio Negri, Empire, Harvard University Press, 2000
Issa Shivji, The Struggle for Democracy (essay), 2003
بيتر أدوك نيابا، سياسة التحرير في جنوب السودان؛ نظرة مطّلع، ط1، مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، أمدرمان، 2005