ميلاد الحركة الماركسية الروسية - البلشفية طريق الثورة


آلان وودز
2014 / 12 / 17 - 08:58     

البلشفية طريق الثورة

الفصل الأول: ميلاد الحركة الماركسية الروسية

مقتل حاكم أوتوقراطي

آلان وودز
ترجمة: هيئة تحرير موقع ماركسي

في الأول من مارس سنة1881 كانت عربة القيصر الكسندر الثاني تسير على طول قناة كاترين في سانت بطرسبرغ، عندما ألقى عليها شاب فجأة ما يشبه كرة الثلج. أخطأت القذيفة هدفها، فترجل القيصر، الذي لم يكن قد أصيب بأذى، للتحدث إلى بعض القوزاق الجرحى. في تلك اللحظة، اندفع إرهابي ثان، غرينيفيتسكي، إلى الأمام، قال: "من السابق لأوانه أن تشكر الله"، وألقى قنبلة أخرى تحت قدمي القيصر. وبعد ساعة ونصف على ذلك، توفي إمبراطور روسيا العظمى. شكل هذا العمل تتويجا لواحدة من أبرز الفترات في التاريخ الثوري، فترة واجهت خلالها حفنة من الشبان والشابات المخلصين والأبطال كل قوة الدولة القيصرية الروسية. لكن نجاح الإرهابيين في تصفية الوجه الأبرز للاستبداد الممقوت، شكل في نفس الآن ضربة مميتة لما كان يسمى بحزب إرادة الشعب الذي نظم ذلك الهجوم.

كانت ظاهرة النارودنيك الروسية ("الشعبويون"، رجال الشعب) نتاجا للتخلف الشديد للرأسمالية الروسية. فقد سار اضمحلال المجتمع الإقطاعي بوتيرة أسرع من وتيرة تشكل البرجوازية. وفي ظل هذه الظروف، عملت قطاعات من المثقفين، وخاصة الشباب، على القطع مع النبلاء والبيروقراطية ورجال الدين وبدأوا في البحث عن وسيلة للخروج من ذلك المأزق الاجتماعي. لكنهم عندما نظروا حولهم بحثا عن قاعدة دعم داخل المجتمع، لم تجذبهم البرجوازية الضعيفة والرجعية والمتخلفة، ولا الطبقة العاملة التي كانت ما تزال في مهدها، غير منظمة وأمية سياسيا وضئيلة عدديا، لا سيما بالمقارنة مع ملايين الفلاحين الذين يشكلون الأغلبية المضطهدة والمسحوقة داخل المجتمع الروسي.

ولذلك كان من المفهوم أن ينظر المثقفون الثوريون إلى "الشعب"، في شخص الفلاحين، باعتباره القوة الثورية المحتملة الرئيسية داخل المجتمع. وتجد هذه الحركة جذورها في نقطة التحول الكبرى في التاريخ الروسي سنة 1861. تحرير الأقتان الذي تحقق في ذلك العام، لم يكن بأي حال من الأحوال، نتيجة للرغبة الخيرة المستنيرة لالكسندر الثاني، مثلما يزعم الكثيرون. لقد جاءت نتيجة الخوف من حدوث انفجار اجتماعي بعد الهزيمة المذلة التي تعرضت لها روسيا في حرب القرم الكارثية 1853 - 1856، والتي عملت، مثلها مثل الحرب اللاحقة مع اليابان، على فضح ضعف النظام القيصري. لم تكن تلك هي المرة الأولى، ولا المرة الأخيرة، التي كشفت فيها الهزيمة العسكرية إفلاس الاستبداد، وقدمت دفعة قوية لحركة التغيير الاجتماعي. لكن مرسوم تحرير الأقنان لم يحل أيا من المشاكل المطروحة، بل جعل حياة جماهير الفلاحين أسوأ بكثير. فقد استولى الملاكون الكبار بطبيعة الحال على أفضل قطع الأراضي، وتركوا المناطق الجرداء للفلاحين. وكانت النقاط الاستراتيجية مثل المياه والمطاحن عادة في أيدي الملاكين الكبار الذين أجبروا الفلاحين على دفع ثمن الوصول إليها. والأسوأ من ذلك هو أن الفلاحين "الأحرار" كانوا مرتبطين بقوة القانون بالبلدية، أو المير (mir)، التي كانت عليها مسؤولية جماعية في جمع الضرائب. لم يكن مسموحا لأي فلاح أن يغادر المير بدون إذن. وقد أعيقت حرية الحركة بواسطة نظام جوازات السفر الداخلية. تحولت البلدية، في الواقع، إلى "الحلقة الأدنى في حلقات النظام البوليسي المحلي"[1].

ولجعل الأمور أسوأ، سمح الإصلاح للملاكين الكبار باقتطاع وامتلاك خمس (وفي بعض الحالات خمسي 5/2) الأراضي التي كان الفلاحون يزرعونها سابقا. وقد اختاروا دائما أفضل الأجزاء وأكثرها إنتاجية – الغابات والمروج والمناطق المسقية والمراعي والطواحين، وما إلى ذلك - مما أعطاهم السيطرة المطلقة على الفلاحين "الأحرار". وعاما بعد عام غرق عدد أكبر من الأسر الفلاحية بشكل ميؤوس منه في الديون والفقر نتيجة لهذا الاحتيال.

كان تحرير الأقتان محاولة للقيام بالإصلاح من فوق لمنع اندلاع الثورة من تحت. ومثله مثل كل الإصلاحات الهامة، كان نتيجة للحراك الثوري. لقد اهتز الريف الروسي بانتفاضات الفلاحين. وفي العقد الأخير من عهد نيقولا الأول، كانت هناك 400 انتفاضة للفلاحين، وعدد مماثل في السنوات الست التالية (1855-1860). وفي غضون 20 سنة، ما بين 1835 و1854، تعرض 230 من الملاكين العقاريين والجباة للقتل، إضافة إلى 53 آخرين في السنوات الثلاث السابقة لعام 1861. وقد استقبل إعلان التحرير بموجة أخرى من الاضطرابات والانتفاضات التي قمعت بوحشية. وتعرضت الآمال التي خلقها جيل كامل من المفكرين التقدميين حول أفكار الإصلاح، لخيانة قاسية على يد نتائج التحرير، والذي تحول إلى مجرد عملية احتيال ضخمة. الفلاحون، الذين اعتقدوا أن الأرض صارت ملكا لهم، تعرضوا لكل أنواع الخداع. كان عليهم أن يقبلوا فقط بتلك المخصصات المنصوص عليها في القانون (بالاتفاق مع المالك) وكان عليهم أن يدفعوا رسوم الاسترداد على مدى 49 عاما بفائدة 6 %. ونتيجة لذلك، احتفظ الملاكون العقاريون بحوالي 71.500.000 ديسياتين من الأرض، بينما حصل الفلاحون، الذين يمثلون الأغلبية الساحقة في المجتمع، على 33.700.000 ديسياتين فقط.

في السنوات التي تلت عام 1861، قام الفلاحون، الذين كبلتهم التشريعات القمعية و"القطع الأرضية الهزيلة" والذين سحقهم ثقل الديون، بتنظيم سلسلة من الانتفاضات المحلية اليائسة. لكن الفلاحين كانوا دائما، على مر التاريخ، غير قادرين على لعب دور مستقل في المجتمع. يعطون الدليل على الشجاعة الثورية العظيمة والتضحية، لكن جهودهم للتخلص من حكم مضطهـِدهم لا تنجح إلا إذا قادت حركتهم الثورية طبقة أكثر قوة وتجانسا ووعيا من المدن. في غياب هذا العامل تعرضت انتفاضات الفلاحين jacqueries""[2] [بالفرنسية في الأصل] خلال العصور الوسطى وما بعدها، بشكل حتمي لأقسى الهزائم، وهو ما يعتبر نتيجة لتشتت الفلاحين بطبيعتهم وافتقارهم إلى التماسك الاجتماعي وعدم وجود وعي طبقي لديهم.

في روسيا، حيث كانت أشكال الإنتاج الرأسمالية ما تزال في مرحلتها الجنينية، لم تكن توجد أية طبقة ثورية في المدن. إلا أن طبقة، أو بدقة أكثر فئة من الطلاب المفقرين والمثقفين، والرازنوشينتسي (raznochintsy) أو "البروليتاريا الفكرية"، أثبتت حساسية كبيرة لمزاج السخط المتراكم في أعماق الحياة الروسية. بعد سنوات أعلن الإرهابي ميشكين في محاكمته أن "حركة المثقفين لم تخلق بشكل مصطنع، بل هي صدى الاضطرابات الشعبية"[3]. وكما هو الحال دائما، لم تكن قدرة المثقفين على لعب دور اجتماعي مستقل أكبر من قدرة الفلاحين. ومع ذلك فإنه يمكنها أن تكون بمثابة مقياس دقيق للأمزجة والتوترات المتصاعدة داخل المجتمع.

في عام 1861، وهو ذاته عام تحرير الفلاحين، كتب الكاتب الروسي الديمقراطي العظيم الكسندر هيرزن من منفاه في لندن على صفحات جريدته Kolokol (الجرس) يحث الشباب الروسي على الذهاب إلى "الشعب"! وقد جاء اعتقال كتاب بارزين مثل تشيرنيشيفسكي (الذي تأثرت كتاباته بماركس والذي كان له تأثير كبير على لينين وجيله) وديمتري بيساريف، ليظهر استحالة إصلاح ليبرالي سلمي. وبحلول نهاية عقد الستينات كانت أسس حركة ثورية جماهيرية من الشباب الشعبوي قد وضعت.

أثارت الظروف المروعة للجماهير في روسيا، خلال مرحلة ما بعد الإصلاح، الغضب والسخط في نفوس أفضل قطاعات المثقفين. ولم يؤد إلقاء القبض على أكثر العناصر الديمقراطية راديكالية، بيساريف وتشيرنيشيفسكي، سوى إلى تعميق غضب المثقفين ودفعهم أبعد إلى اليسار. وبينما تكيف الجيل القديم من الليبراليين مع الردة الرجعية، كان جيل جديد من الراديكاليين الشباب قد بدأ يظهر في الجامعات، جسدتهم شخصية بازاروف في رواية "الآباء والأبناء" للكاتب تورغينيف. كانت السمة المميزة لهذا الجيل الجديد هي نفاذ الصبر وكره الليبراليين، الذين تعامل معهم بازدراء. لقد آمن بحماس بأفكار الانقلاب الثوري الكامل وإعادة بناء جذري للمجتمع من أعلى إلى أسفل.

في غضون 12 شهرا من التحرير، انتقل "القيصر المصلح" نحو الردة. انطلقت حملة قمع ضد المثقفين. ووضعت الجامعات تحت الرقابة القمعية لوزير التعليم الرجعي، الكونت ديمتري تولستوي، الذي فرض نظاما تعليميا يهدف إلى سحق التفكير الحر وخنق الخيال والإبداع. اضطرت المدارس إلى تخصيص 47 ساعة في الأسبوع لتعليم اللاتينية و36 ساعة لليونانية، مع التركيز الشديد على النحو. واستبعدت العلوم الطبيعية والتاريخ من المناهج باعتبارها مواد يحتمل أن تكون هدامة، وتقوى نظام الرقابة على التفكير بشكل صارم تحت أعين مفتشي المدارس. وأفسحت أيام "الإصلاح" المفرحة الطريق لسنوات قاتمة من الرقابة البوليسية والقمع. وتكرس السير نحو الردة الرجعية بعد فشل الانتفاضة البولندية عام 1863. أغرقت الثورة في الدماء. قتل آلاف البولنديين في المعركة، وشنق المئات في أعمال القمع التي تلت ذلك. وقد أعدم الكونت الوحشي مورافيوف شخصيا 128 بولنديا ورحل 9423 من الرجال والنساء. وقد كان مجموع عدد المنفيين إلى روسيا ضعف هذا الرقم. شهد بيتر كروبوتكين، الذي صار لاحقا منظر اللاسلطوية، معاناة المنفيين البولنديين في سيبيريا حيث كان يرابط كنقيب شاب في الحرس الإمبراطوري: «رأيت البعض [منهم] في لينا، واقفين نصف عراة في كوخ، حول قدر هائل مليء بالماء المالح، يخلطون السائل الثقيل بعصي طويلة، في درجة حرارة جهنمية في حين كانت بوابة الكوخ مفتوحة على مصراعيها لإحداث تيار قوي من الهواء الجليدي. كان هؤلاء الشهداء على يقين من أنهم بعد عامين من هذا العمل سيموتون من الإرهاق».[4]

لكن تحت جليد الردة الرجعية، كانت بذور نهضة ثورية جديدة تنبت بسرعة. وحالة الأمير كروبوتكين هي مثال صارخ على كيف يحرك هبوب الرياح قمم الأشجار أولا. هذا العضو السابق في فيلق الحرس الإمبراطوري، الذي ولد لعائلة أرستقراطية، تأثر مثله مثل كثير من معاصريه، بالمعاناة الرهيبة للجماهير ودفع لكي يصل إلى استنتاجات ثورية. وباعتباره باحثا مدققا، وصف كروبوتكين بوضوح في مذكراته التطور السياسي لجيل كامل، سأل نفسه قائلا: «لكن كيف يحق لي الاستمتاع بهذه المباهج الكبرى، بينما كل ما يحيط بي هو البؤس والكفاح من أجل لقمة متعفنة من الخبز؛ وبينما كل ما أنفقه لأعيش في هذا العالم من الملذات الكبرى يجب أن ينتزع من أفواه أولئك الذين يزرعون القمح والذين ليس لهم ما يكفي من الخبز لإطعام أطفالهم؟»

أظهرت القسوة الباردة تجاه البولنديين الوجه الآخر "للقيصر المصلح"، ذلك الرجل الذي، على حد تعبير كروبوتكين، "وقع بمرح المراسيم الأكثر رجعية، ثم بعد ذلك أصبح غير راض عنها"[5]. لقد دفع نظام الحكم الاستبدادي الفاسد والمنحط، واليد الميتة للبيروقراطية، وهيمنة التصوف الديني والظلامية، كل القوى الحية في المجتمع إلى التمرد. وكتب الشاعر نيكراسوف: "مر هو مذاق الخبز الذي صنعه العبيد". دفعت الثورة ضد العبودية بالطلاب الثوريين الشباب للبحث عن مخرج. وباستعمال عبارة هيرزن، صار شعارهم: "V Narod!" (إلى الشعب!). تركت الكلمات التي قالها هيرزن، على هؤلاء الشباب الشجعان والمخلصين، انطباعا لا يمحى: "اذهبوا إلى الشعب... ذلك هو مكاننا... تظاهروا... لكي لا يخرج من بينكم بيروقراطيون جدد، بل جنودا للشعب الروسي".[6]

هوامش:

[1] Bernard Pares, A History of Russia, p. 404

[2] يشير هذا المصطلح إلى الانتفاضات الفلاحية الكثيرة التي شهدتها فرنسا في أواخر العصور الوسطى. وكان لديها دائما طابع عنيف للغاية.

[3] Quoted in Trotsky, The Young Lenin, p. 29.

[4] P. Kropotkin, Memoirs of a Revolutionary, vol. 1, p. 253.

[5] Ibid., vol. 2, pp. 20 and 25.

[6] Quoted in S.H. Baron, Plekhanov. The Father of Russian Marxism, Spanish edition, p. 21.