ماذا عن الانتخابات الرئاسية التونسية؟

أماني ذويب
2014 / 12 / 7 - 11:22     



تنتظر تونس موعدا جديدا مع الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الشهر الحالي لإعلان الرئيس حيث أفرزت الجولة الأولى تقدم الباجي قايد السبسي رئيس حزب نداء تونس كأول المرشحين بحصوله على 39.4% من مجموع الأصوات بينما تحصل منصف المرزوقي، الرئيس المؤقت الحالي، على المرتبة الثانية بنسبة 33.43%.

في السطور التالية تعرض أماني ذويب، الصحفية والناشطة بالجبهة الشعبية لتحقيق أهداف الثورة بتونس، الأجواء السياسية التونسية وكيف عكست الانتخابات توازنات القوى بين الثورة والثورة المضادة.

لمحة موجزة عن الأمس القريب
يمكننا اعتبار الانتخابات الرئاسية التونسية الحالية كنتيجة لمسار مضني من الصراع بين قوى الثورة وقوى الالتفاف على مكاسب الشعب التونسي في الشغل والحرية والكرامة الوطنية، فبعد أن أفضت انتخابات 23 أكتوبر 2011 إلى اعتلاء حركة النهضة الإسلامية وحليفيها من الليبراليين الحكم ، تبين شيئا فشيئا لعموم المتابعين للشأن العام أن هذه الحركة، المرتبطة بتنظيم الإخوان المسلمين، لا تريد فقط حكم البلاد وفق أجندات خارجية وإملاءات الصناديق الدولية، بل ترمي إلى تغيير نمط حياة التونسيين وهتك روابط وحدته الوطنية وضرب مخزونه الحضاري والثقافي النير والتقدمي. تجاوز الأمر حدود محاولات التغيير التدريجي عبر غزو الإدارات والسيطرة عليها وتعيين الموالين في المراكز الحساسة للدولة ومحاولات ضرب المكتسبات القديمة للتونسيين والجديدة التي اكتسبها الشعب بتضحياته خلال المسار الثوري، ليصل إلى رعاية مجموعات العنف والإرهاب والتحريض على الاغتيالات وشيطنة الخصوم وتكفير المنافسين. مما أدى في النهاية إلى تشكل قاعدة واسعة من المجموعات التكفيرية في عديد المناطق وتوسع انتشار السلاح، واغتيال رموز وقادة سياسيين كبار من خصوم حركة النهضة (الشهيدين بلعيد والبراهمي قادة الجبهة الشعبية بتونس) الذين مثلوا الخيار الوطني والديمقراطي الاجتماعي المتمسك بشعارات الثورة وأهدافها.

حاولت حركة النهضة أن تستغل حالة اليتم التنظيمي الذي عاشته البرجوازية الكبيرة العميلة في تونس بعد هروب بن علي وحل حزبه “التجمع الدستوري” وحالة الفزع والرعب التي عاشها أتباعه، لتظهر النهضة على الساحة كالحزب الكبير ذو القاعدة الشعبية الواسعة والمُعبر الرئيسي عن مصالح هذه الطبقة. لكن تعاملها مع البرجوازية ذاتها كان موسوما بثقافة التركيع والابتزاز لرجال الأعمال والمال من النظام المتهاوي حيث اعتمدت فلسفتها: “من دخل بيت النهضة فهو آمن.. ومن لم يدخل بيت الطاعة يصبح من الأزلام ويعرض ملفه على المحاكم”.

أثناء حكم النهضة، تعطلت العدالة الانتقالية لتتحكم الحركة بمقاليد تصفية ملف النظام القديم وفق مصالحها الحزبية الخاصة. بعض رجال الأعمال أعلنوا التوبة إليها، وجزء كبير منهم بقي خارج بيت الطاعة وأصبح من أصحاب الملفات المعروضة على المحاكم أو مُشيطنا ومحل دعاية مضادة وفضح وابتزاز. وبمجرد افتضاح أمر النهضة واستمرار سلوكها الابتزازي تجاه الدساترة القدامى ومن يمثلهم من اللوبيات المالية الكبيرة، بدأت أوساط وقطاعات برجوازية مهمة تبحث عن بديل آخر لحركة النهضة. وقد اتضح هذا المسعى البرجوازي خاصة بعد فشل الترويكا الحاكمة في تأمين مناخ من الاستقرار الاجتماعي والسياسي، فالمعارك الشعبية حول المطالب الاجتماعية لم تتوقف، وتكتلت أغلب القوى الحية في البلاد لحماية مكاسب الحداثة والمرأة وسط معارك ضارية حول أغلب قوانين البلاد، وعلى رأسها فصول دستور تونس من التوطئة إلى الخاتمة.

أسرع تفشي الإرهاب والاغتيال، الذي تواطأت النهضة وتسترت على تنظيماته ومحركيه ومموليه ومنفذيه، من توافق أغلب مكونات الطيف المدني والديمقراطي على حلول ساعة رحيل الترويكا لإنقاذ تونس من هاوية العنف والاقتتال والخراب الاقتصادي. تشكلت أغلب أحزاب الدساترة القدامى في عهد الترويكا وعلى رأسهم نداء تونس الذي يمثل الحزب الجديد الأكبر للبرجوازية الكبيرة، واعتمد انتشاره كنتيجة مباشرة للفشل المتراكم لحكم النهضة في ملف العدالة الانتقالية والملف الاجتماعي والاقتصادي ولاستهدافها أبسط مقومات الحداثة، بالإضافة إلى ارتهان هذا الحزب لعلاقات وارتباطات وأجندات إقليمية جديدة مرفوضة من أغلب التونسيين (محور تركيا وقطر)، وأصبح الشعب التونسي يقارن بين الحكم القديم لبن علي بحكم الترويكا الفاشلة، وفي هذا أكبر دليل على أن فشل حكام ما بعد 14 جانفي كان كبيرا جدا.

ساهمت كل هذه العوامل متشابكة في تكتل جهود أغلب الطيف المناوئ لحكم الإخوان في هيئة عمل موحدة أفضت إلى خروجها من الحكم وتكليف حكومة جديدة “لكفاءات مستقلة” بإدارة شئون البلاد، وبعد تلكؤ كبير ومسار من النقاشات تحت رعاية المنظمات الوطنية المستقلة وعلى رأسهم نقابة العمال (اتحاد الشغل) تم الاتفاق على رزنامة لتشكيل الهيئات المستقلة للإشراف على الانتخابات والقوانين المنظمة لذلك. وبعد مصادقة المجلس التأسيسي عليها دخلت البلاد في وضع سياسي جديد واستقطابات جديدة، تمثلت أبرزهم في حركة النهضة وحزب نداء تونس والجبهة الشعبية.

حاولت أحزاب البرجوازية، بشقيها الجديد الممثل لحركة النهضة، والقديم/الجديد الممثل لحزب نداء تونس، حصر الاستقطاب في ثنائية مغلقة بينهما، وذلك بهدف تهميش الجبهة الشعبية واستثنائها من الخيارات المطروحة أمام التونسيين، لكن عدم استكانة الشعب التونسي من جهة ووجاهة البرامج والمقترحات والبدائل والتكتيكات المتبعة من الجبهة آلت دون ذلك، بل إنها عطلت في أكثر من مناسبة مسار المفاوضات والاتفاق بين حزبي البرجوازية لاقتسام السلطة والإجهاز على الثورة ومكاسبها، وذلك عبر سياسة التشهير والدفاع عن أهداف الثورة والتعبئة الميدانية وفرض الحضور الإعلامي لقيادتها في أغلب المنابر.

طيلة المرحلة الانتقالية لم تتوفق البرجوازية التونسية في لم شملها من جديد وتوحيد أحزابها، واستعر التنافس خاصة بعد سقوط نظام مرسي والتحولات التي طرأت على الوضع المصري حيث حقق نداء تونس نقاط تقدم مهمة على حساب النهضة من زاوية شعبية، واعتبره شق كبير من التونسيين المنقذ من دمار الإخوان خاصة البرجوازية الصغيرة المثقفة المهتمة بـ”المجتمعي” على حساب “الاجتماعي”.

دخلت القوى الثورية معترك المعركة الانتخابية الجديدة في أكتوبر ونوفمبر الماضيين (والجبهة الشعبية مصنفة قوة ثالثة) في ظل استقطاب حاد بين النهضة والنداء وكان عليها أن تشق طريقها بشكل مستقل عن كلا الطرفين لضمان تمثيل برنامج الفئات والشرائح الشعبية التي مازالت متمسكة بشعارات وأهداف الثورة، ولتواصل المعركة في تراكم وتحقق المشروع الوطني الديمقراطي والاجتماعي الذي طرحته وتمسكت به كأساس جوهري للتمايز على بقية مكونات الطيف السياسي التونسي مهما كانت التقاطعات الظرفية مع هذا أو ذاك في المرحلة السابقة. لذلك رفضت الجبهة الدخول في أي جبهة انتخابية مع الأطراف التي طلبت منها تنازلات برنامجية ماسة بجوهر المشروع الوطني وخطها الثوري.

تم اعتبار حصيلة 3 سنوات من المقاومة إيجابية رغم ما بقي يتهدد هذا المسار الانتخابي من ظواهر خطيرة مثل الإرهاب والمال السياسي الفاسد وعودة رموز النظام القديم إلى الواجهة.

لمحة عن توجهات الثلاث قوى الأساسية في البلاد خلال قبل الحملة الانتخابية
1 – حركة النهضة
ناورت حركة النهضة بكل ما تملك من الوسائل وهي المتحكمة بزمام أمر المجلس التأسيسي السابق لإجراء الانتخابات التشريعية قبل الانتخابات الرئاسية أو عدم الفصل بينهما، ووجدت لذلك عدة مبررات سياسية وقانونية، وذلك أولا لإنها تضمن مقاعد في التصويت لقائماتها وصعود للمجلس النيابي بكتلة كبيرة تسهل لها التفاوض المريح مع خصومها حول اقتسام الحكم من جديد.

كذلك دراستها المسبقة بعدم ترشيحها اسما بوزن بقية المرشحين مثل الباجي قايد السبسي أو حمه الهمامي مرشح الجبهة الشعبية. ولقد نجحت حركة النهضة في هذا المعترك وتم إقرار تسبيق التشريعية، وواصلت حركة النهضة المناورة بعدم دعم مرشح بعينه في الوضوح إلى حين تنظيم الانتخابات، بل ذهبت إلى قبول تزكية عدة مرشحين لاستكمال الشروط القانونية لترشحهم وذلك للظهور بمظهر الداعم للجميع، ونيتها المبطنة ابتزاز نداء تونس وإجباره إما على تشتيت قاعدته بتعدد المرشحين أو الركون إلى اتفاق وتسوية معها، رغم أن أغلب قاعدتها تدعم الرئيس الحالي منصف المرزوقي وتعلن ذلك.

يتواصل دعم النهضة للمرزوقي ويتواصل معه التفاوض والضغط على نداء تونس للرضوخ لاقتسام الحكم في البرلمان والحكومة مقابل التخلي عن المرزوقي.

2 – حركة نداء تونس
صور نفسه أنه منقذ تونس من حكم الإخوان وململم شتات العائلة الدستورية المنحلة والحامي من شبح الإرهاب والضامن لعودة هيبة الدولة وترميم ما فسد في علاقة تونس بالخارج.

اعتمد على فشل حركة النهضة ويسابقها في الولاء لمراكز النفوذ العالمية والدولية، ولا ينفي ميله لمحور مصر والإمارات والسعودية في تمايز واضح على محور قطر – تركيا المحسوب على حركة النهضة.

اعتمد في دعايته على جدارة مَن جرًب الحكم سابقا وعلى فشل حكم النهضة، وكذلك على مسألة حساسة لدى الشعب التونسي ثقافيا وهي الحفاظ على مكتسبات الشعب التونسي الحداثية (أي المجتمعية وليست الاجتماعية)، بالإضافة إلى قدرات السبسي على مخاطبة الشعب بلغة شعبوية، وبفلسفة القوة والحكمة التي حاول فيها الظهور بمظهر وريث بورقيبة كسد لأوهام الشغور الذي يحسه الشعب التونسي في قضية الزعامة والحكم بعد سنوات طويلة من القمع.

خلال الانتخابات ركز على قضية التصويت المجدي، وأن مَن لم يصوت للنداء فقد أعاد النهضة للحكم من حيث لا يدري، مما خلق هبة انتخابية عامة لصالحه أفرزته القوة الأولى بالبلاد وحلت حركة النهضة الثانية وبقيت الجبهة قوة أساسية ثالثة رغم ما فقدته من أصوات المقتنعين ببرنامجها وصدقها من المتأثرين بدعاية البرجوازية.

3 – الجبهة الشعبية
خاضت معركة ميدانية مشرفة متميزة على الطرفين في التشريعية وغيرت من أساليب دعايتها فركزت على أهداف الثورة وعلى بدائلها عوض التركيز على برامج وهويات الخصوم وقد حصدت نتيجة ذلك نتائج مشرفة. اُعتبر مرشحها في الرئاسية “حمه الهمامي” مفاجأة الانتخابات، حيث توحد حوله اليسار التونسي بكافة أطيافه في إطار مشروع وطني ديمقراطي اجتماعي كبير يمثل الغالبية العظمى للتونسيين من حيث أهدافه.

وفقا للخبراء في مراقبة الانتخابات ومختصو التواصل، فقد اعتمدت الحملة على الشباب المتطوع لكن بأساليب وطرق عصرية يعتمدها اليسار لأول مرة في تاريخه عربيا. وكانت الحصيلة أن حصل مرشحها على المرتبة الثالثة.

وإلى حدود هذه اللحظة يتقدم حمه الهمامي للشعب التونسي كرمز وطني جامع بشهادة خصومه خاصة في ظل ما يشهده المشهد السياسي التونسي من خطابات عنيفة وصراعات وتوترات بين الفائزين للدور الثاني من الرئاسية.

المشهد الآن مفتوح إما باتفاق بين النهضة والنداء وتقاسم الحكم مقابل التخلي عن المرزوقي، أو المواصلة في طريق التشنج والتعبئة والتعبئة المضادة بين المترشحين مما يرجح الوصول إلى مآلات غير محمودة كعدم الاعتراف بنتائج الانتخابات من أحد الأطراف المتنازعة، فتجييش الجنوب ضد الشمال، ودعوات الفتنة والخطاب التخويني وبروز الوجوه التكفيرية على منابر الحملة الانتخابية أصبحت لوازم في الدعاية في دورها الثاني.

لقد كسبت القوى الثورية ثقة جزء مهم من الشعب وفرضت حضورها في الميادين والتجمعات والساحات وتعزز ذلك بمقاعد في البرلمان لأهم زعمائها وقادتها، وتوجت هذه المرحلة ببروز زعيم موحد لليسار التونسي محل إجماع منقطع النظير في تاريخنا الثوري، ولا يزال مسار الصعود متواصلا بالنظر إلى كلا المترشحين في الدور الثاني لا يتجهان إلى توحيد الشعب بل إلى تقسيمه نتيجة احتدام الصراع بينهما.

في النهاية، فإن مستقبل الأيام سيؤكد أن مرشح حركة النهضة غير المعلن منصف المرزوقي، ومرشح النظام القديم الباجي قايد السبسي لا يختلفان من حيث الجوهر في ما يخبئونه للشعب من إجراءات ضد لقمة عيش البسطاء. ولقد عودنا هذا الشعب العظيم أنه لا يسكت على مطالبه منذ انطلاق ثورته وأنه لا يستكين، وأن الإطاحة بكل من يعادي مصالحه أمر ممكن في كل حين.