مقدمة كتاب -اصلاحيون وماركسيون رواد تنوير اليمن- تأليف أحمد القصير- كاتب من مصر


أحمد القصير
2014 / 12 / 2 - 02:01     

مقدمة كتاب " اصلاحيون وماركسيون رواد تنوير اليمن " نسخة بدون أخطاء مطبعية
تأليف. د.أحمد القصير- وهو تحت الطبع

ينضم هذا الكتاب إلى مؤلفاتي السابقة عن اليمن. وهي "اليمن الهجرة والتنمية" عام 1985، "شرخ في بنية الوهم- الهجرة والتحول في اليمن" عام1990، و"التحديث في اليمن والتداخل بين الدولة والقبيلة" عام 2006. وتطرح هذه المؤلفات في مجموعها قراءة للمجتمع اليمني بتعقيداته الشديدة التي تسبب ارتباكا للباحثين. وحاولت هذه القراءة تفادي حالة التشوش المنهجي التي أصابت الباحثين الغربيين وانتقلت عن طريقهم إلى الدارسين اليمنيين.
كما تلقي هذه القراءة الضوء على مكونات البنية الاجتماعية وعلى العناصر الموروثة التي تأثرت بها عملية التطور، وما حدث من انقطاع تراكم الخبرات الاجتماعية، ودور الهجرة في عملية الحراك الاجتماعي وخلق نافذة تطل على العالم الخارجي. وتسلط الضوء أيضا على قضية يتجاهلها عادة الباحثون اليمنيون خاصة في جامعات شمال اليمن. ونعني بذلك دور عدن في عملية التغيير والتنوير. ففي عدن نشأت أشكال جديدة من النشاط الاقتصادي. وهو ما أسفر عن ظهور شرائح اجتماعية جديدة من عمال وتجار. شرائح لها ثقافتها الحضرية غير التقليدية وتعيش حياة البندر. وشكل هؤلاء منظمات تعبر عنهم من بينها النقابات والإحزاب والصحف. كما ظهرت المنتديات الثقافية.
وليست مصادفة أيضا أن الغرفة التجارية تأسست في عدن منذ حوالي120 عاما. فقد تآسست في 26 أغسطس 1886. وهو ما يعبر عن وجود شرائح تجارية لها تأثيرها في المجتمع منذ آواخر القرن التاسع عشر. غير أن الأهم هو أن مدينة عدن كانت بمثابة بوتقة انصهر فيها اليمنيون القادمون إليها من مختلف أرجاء اليمن. ونشأ عن هذا الانصهار ظهور شخصية يمنية ليست قبلية تتمتع بثقافة حضرية. وفي عدن ظهرت¬ أيضا الأحزاب اليسارية بما فيها الحزب الماركسي الذي أسسه عبدالله باذيب في 1961. وشاركه في ذلك عدد من أبناء عدن وحضرموت. وحمل الحزب اسم "الاتحاد الشعبي الديمقراطي". وكان من بين الأحزاب التي اشتركت فيما بعد في تأسيس الحزب الاشتراكي.
ولا يقتصر الأمر على تجاهل دور عدن. فقد قامت السلطة الحاكمة في صنعاء بعد الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1994 بعملية تشويه الوجه الحضاري الحضري الثقافي لعدن. وامتدت عملية الطمس والتشويه إلى تغيير أسماء الشوارع والمدارس واستبعاد أسماء شخصيات لها أدوارها الوطنية والثقافية. والهدف من وراء ذلك هو محاولة طمس الذاكرة العامة.
شكلت التطورات التي أشرنا إليها آنفا خلفية لتطور الحركة الوطنية في الجنوب وللخلاص من استبداد نظام الإمامة في الشمال. وتضافرت عدة عوامل في نشر فكر التنوير والتحديث في اليمن. وكانت أبرز العناصر المؤثرة في هذه العملية هي:
أولا: أبناء مختلف مناطق اليمن شمالا وجنوبا الذين وفدوا إلى عدن وعملوا في الميناء وبالتجارة إضافة إلى الذين هاجر منهم إلى خارج البلاد إلى أفريقيا وآسيا وأوروبا والولايات المتحدة. وقام المهاجرون بتمويل حركة المعارضة الاصلاحية للإمامة. كما أن بعض هؤلاء المهاجرين هم الذين قاموا بعمليات التحديث في اليمن الشمالي بعد قيام ثورة 26 سبتمبر عام 1962 التي أطاحت بنظام الإمامة. فلم تكن بالشمال، علي سبيل المثال، أي فنادق ولا أي مشروعات تجارية أو صناعية. وقام بعض أبناء تعز الذين كانوا قد انتقلوا إلى عدن أو هاجروا إلى أفريقيا بإقامة فنادق ومثلث تجاري صناعي في كل من مدينة تعز والحديدة وصنعاء. وهو المثلث الذي تركزت فيه كافة المشروعات التجارية والصناعية وتلك المرتبطة بالخدمات. كما أن هذا المثلث هو الأكثر كثافة سكانية. وبالرغم من ذلك فإن هذه الشريحة أو الطبقة الاجتماعية لا تنشر ثقافتها إلا على استحياء بسبب نفوذ الحلف القبلي- العسكري الذي ظهر نتيجة حدوث تداخل بين القبيلة والدولة. وكان القاضي الشرعي عبدالرحمن الإرياني هو مهندس عملية التداخل هذه.
ففي 5 نوفمبر 1967 حدث انقلاب ضد الرئيس عبدالله السلال وشكل ثورة مضادة. وجاء هذا الانقلاب بالقاضي الشرعي عبدالرحمن الإرياني رئيسا للمجلس الجمهوري ومحسن العيني المنتمي لحزب البعث رئيسا لمجلس الوزراء. وفتح هذا الحكم الجديد الباب لتصاعد النفوذ القبلي ولعملية التداخل بين الدولة والقبيلة. وفي ظله تم قتل وإبادة الكثير من الشخصيات بما في ذلك قادة الجيش بمعاونة قوات قبلية. وما تزال تبعات ذلك الانقلاب فاعلة حتى الآن. عند وقوع الانقلاب كانت شحنة سلاح مستوردة لا تزال في ميناء الحديدة. ورفض قادة الانقلاب تسليمها للجيش وقاموا بتسليمها للقبائل. وقامت القبائل بالهجوم على بعض مراكز قيادة الجيش في صنعاء وقتلوا بعض قادته ومن بينهم رئيس الأركان. ومن هنا كان ازدياد نفوذ شيوخ القبائل هو أحد المحصلات النهائية لانقلاب الخامس من نوفمبر على الرغم مع أن سكان المناطق القبلية يشكلون أقلية بين السكان.
ينبغي التنويه هنا بأن مصطلح "شيخ" في اليمن يتم استخدامه بأكثر من معنى طبقا لاختلاف المناطق. فأولا ترمز كلمة "شيخ" إلى شيخ القبيلة في منطقة مخافظة صنعاء والجهات المحيطة بها خاصة شمالها في اتجاه عمران ثم صعدة. ففي تلك الجهات توجد القبائل. أما في محافظة تعز فإن تعبير "شيخ" يرتبط بشيوخ الأرض، أي كبار ملاك الأراضي وليس شيوخ القبائل. فهي منطقة غير قبلية. أما في الجنوب، ومثال ذلك حضرموت، فإن تعبير "شيخ" يطلق على رجال الدين.
كان انقلاب 5 نوفمبر1967 ثورة مضادة وأحد ثلاثة أحداث رئيسية أضعفت اليمن، وأعاقت تطوره، وأهدرت طاقاته البشرية. أما الحدث الثاني الذي أضعف قوى التقدم في اليمن وأدي إلى فقدان العدد الكبير من أبرز الكوادر والقيادات اليمنية فهو ما جرى في عدن من أحداث دامية في يناير1986. وكان الرئيس علي ناصر محمد هو المدبر لتلك الجريمة التي تم خلالها قتل أبرز قادة اليمن الجنوبي. وهي أحداث مفجعة. وما تزال القوى التقدمية تعاني حتى الآن من آثارها السلبية. كما أصابت اليمن ذاته بالضعف. ويتمثل الحدث الثالث في الحرب الأهلية التي اندلعت في اليمن عام 1994. وقد قطعت تلك الحرب الطريق على نتائج الحوار بين كافة القوى الذي أسفر عن "وثيقة العهد والاتفاق". كما أدت تلك الحرب الأهلية إلى ضعف اليمن. وكان هذا الضعف من أسباب تنازل السلطة الحاكمة في صنعاء تنازلا نهائيا عن منطقة جيزان للملكة السعودية. كما أصابت تلك الحرب الوحدة اليمنية في مقتل. فقد حولتها إلى عملية ضم وإلحاق وألغت مبدأ المواطنة المتساوية.
ثانيا: يتمثل العامل الثاني الذي أسهم في نشر فكر التنوير في النقابات العمالية، والأحزاب والتنظيمات السياسية، والصحافة، والمنتديات الثقافية، والجمعيات النسائية التي شكلها أبناء عدن. كما كان لهذه المنظمات والهيئات إسهاما بارزا في حركة الكفاح المسلح والتحرر من الاستعمار البريطاني الذي بدأ باحتلال عدن عام 1839 واستمر حتى عام 1967.
ثالثا: الأحزاب والجمعيات التي شكلها في عدن أبناء الشمال سواء بهدف معارضة الإمامة والمطالبة بإصلاحات في ظل وجودها أو سواء التي طالبت بتغيير نظام الإمامة. ومن بينها "الاتحاد اليمني" الذي كان له فرعا بالقاهرة.
رابعا: الأحزاب والحركات الماركسية اليمنية سواء في عدن أو في القاهرة. ففي عدن نشط عبدالله باذيب وزملاؤه في مجال الصحافة ومن خلال النقابات العمالية و"رابطة أبناء الجنوب" إلى أن اسسوا حزبا ماركسيا في عام 1961 باسم "الاتحاد الشعبي الديمقراطي" حسبما أوضحنا من قبل. وفي القاهرة تأسس المؤتمر الدائم للطلاب اليمنييين ولجنته التنفيذية عام 1956. وكان يقود المؤتمر واللجنة التفيذية الطلاب اليمنيون الماركسيون الأعضاء في نفس الوقت بمنظمة "الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني" المصرية التي حملت اختصارا اسم "حدتو". وقد جرت عملية تنسيق بين المؤتمر الطلابي وبين مجموعة عبدالله باذيب الماركسية في عدن. كما تم التنسيق أيضا بين مؤتمر الطلاب والصحافة في عدن. ومن بينها تلك الناطقة باسم "الاتحاد اليمني" المعارض للإمامة في الشمال. وقد رحب عبدالله باذيب بتوجهات المؤتمر الطلابي واعتبرها تطورا جوهريا للحركة الوطنية. كما كانت الصحافة في عدن تنشر قرارت وبيانات المؤتمر بشأن آفاق الحركة الوطنية اليمنية شمالا وجنوبا. وقد دعا المؤتمر الطلابي إلى "التحرر من الاستعمار في الجنوب ومن الاستبداد في الشمال" وتشكيل "حكومة ديمقراطية شعبية" لكل اليمن الطبيعي. وكانت هذه اول دعوة في العصر الحديث لوحدة اليمن. وقد تحققت هذه الوحدة في 1990، لكنها انتكست نتيجة شن حرب أهلية ضد الجنوب في 1994 وقيام الحكم العسكري القبلي في الشمال بتغيير الدستور الذي قامت على أساسة الوحدة اليمنية. وشملت عملية التغيير هذه إلغاء مبدأ المواطنة المتساوية وإرجاع كثير من مواد الدستور الذي كان ساريا في اليمن الشمالي قبل الوحدة.
ضم مؤتمر الطلاب وقيادته عددا من الطلاب المبدعين. وشارك أعضاء المؤتمر فيما بعد في نشر ثقافة حديثة وفكر التنوير والتحرر والديمقراطية والمساواة في كل من شمال اليمن وجنوبه. وتشكلت اللحنة التنفيذية لذلك المؤتمر من أبوبكر السقاف سكرتيرا عاما وعضوية ابراهيم صادق، سعيد الشيباني، عبده عثمان محمد، محمد أنعم غالب، محمد عبدالله العصار، ومحمد عمر اسكندر السقاف. ويوجد بين هؤلاء أربعة من رواد الشعر وهم ابراهيم صادق، سعيد الشيباني، عبده عثمان محمد، ومحمد أنعم غالب. كما أن ثلاثة منهم فرسان الشعر الغنائي الأكثر انتشارا في اليمن. وهم د. سعيد الشيباني. وهو خبير اقتصادي، والسفير عبده عثمان محمد، وابراهيم صادق رائد تجديد الشعر اليمني. كما كان محمد أحمد عبدالولي رائد الرواية اليمنية ضمن مجموعة الطلاب اليمنيين الماركسيين بالقاهرة ومن أعضاء المؤتمر. ولم يقتصر دور هؤلاء على التنوير. بل شاركوا أيضا بأدوار فاعلة في عملية بناء مؤسسات اليمن الحديثة سواء في الشطر الشمالي أو الجنوبي. وشمل ذلك الأحزاب والمؤسسات الاقتصادية والمالية والصحية والإعلامية والثقافية والتعليمية بما في ذلك الجامعات. لقد عبروا دوما عن أمل اليمن في الحرية والمواطنة المتساوية المفقودة.
القاهرة - 2014 د.أحمدالقصير، كاتب من مصر