معادلة الخبز والحرية


بدر الدين شنن
2005 / 8 / 30 - 10:28     

من الخطأ الفادح اعتبار أن الصراع ضد الاستبداد هو صراع سياسي فحسب ، يتمحور حول مسائل الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية ، التي تتضمن التعددية الحزبية ، واختيار الحكام عبر صناديق الإقتراع ، دون أن يطال محاور اخرى ، مثل مسائل البناء الاقتصادي بقطاعاته المختلفة ، ودور الدولة الاجتماعي -السياسي - الاقتصادي ، وخاصة فيما يتعلق بالعدالة الاجتماعية والكرامة وبالتوجهات الأساسية لتوفير قدرات التحديث والتقدم والرفاهية الشاملة . فالصراع السياسي إنما هو انعكاس للصراع الاجتماعي ، الذي يفضي حسب موازين القوى الاجتماعية والسياسية إلى توزيع الثروة وتوزيع الناتج الاجمالي العام

ولهذا نرى بعد خمس سنوات من السجال المنتدوي .. النخبوي ، التعارضي .. السلطوي ، رغم الاعتبارات المطروحة ، أن حقائق الصراع ألقت جانباً هذا السجال الخلافي الفوقي ، حول كيفية تحريك عربة "الاصلاح " ، هل بجر العربة من الأمام أم بدفعهامن الخلف ، وهل تسمى هذه الحركة " تحديثاً " أم ليبرالية ديمقراطية ، أم ليبرالية " حاف " ، أم شعبية ديمقراطية ، وأنها حافظت على تأكيدها على العلاقة الجدلية بين محاور وأبعاد هذا الصراع السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، وأنها تضع أمام قوى التغيير الديمقراطي خاصة حتمية التعبير في متون برامجها وتعبر في ممارساتها عن فهمها وتمسكها بهذه المحاور والأبعاد مجتمعة متكاملة ، سيما وأن النظام وقواه التحالفية والاحتياطية يتابع حثيثاً تطبيق سياساته وفق هذه الجدلية في بنيته الراهنة وتجديد بنيته المستقبلية ، وذلك على خطين متوازيين ، تشديد قبضة الاستبداد وإعادة برمجة الاقتصاد . ويتجلى ذلك بوضوح في الضربات الانتقائية الأمنية وفي الهجوم المتعدد الجهات والأشكال على القطاع العام

ووفق وجهة نظرنا الآنفة الذكر ، فإن معركة القطاع العام المفتوحة سوف تتحول إلى معيار حقيقي لمصداقية أي موقف معارض للاستبداد ومن الديمقراطية ومن مصالح ملايين العائلات العمالية والشعبية . ولن نذيع سراً إذا قلنا أن السكاكين تشحذ بلؤم لتمزيق القطاع العام ، ورمي معظم العاملين فيه وخاصة المؤسسات الصناعية والإنشائية إلى الشارع . فمن جهة ، إن مهندس الاقتصاد السوري الجديد الدكتور " الدردري " ، الذي يجهد لتكريس اقتصاد السوق " الاجتماعي " والإنخراط في منظمة التجارية العالمية وبرامج البنك الدولي ، وتكييف الاقتصاد السوري وفق إملاءات الجهات المذكورة لم ينف توجه الدولة لإلغاء القطاع العام في الخطة الخمسية العاشرة الراهنة ، وإنما " أكثر الله خيره " بعد الخطة المذكورة !! ..ومن جهة ثانية ، فإن المركز الاقتصادي السوري أصدر نتائج استفتاء أجراه أواخر حزيران الماضي زعم فيه أن ثمانية وستين بالمئة من السوريين يؤيدون الخصخصة ، أي تصفية القطاع العام ، وأن إثنين وخمسين بالمئة يؤيدون حصر هذا القطاع في الخدمات العامة ( كهرباء . طرق . مياه ) وأن أربعة وستين بالمئة يقولون إن إدارة القطاع الخاص أفضل . دون أن يقدم الأشكال التي صاغ بها الأسئلة ودون أن يحدد الشرائح الاجتماعية التي وجهت إليها الأسئلة . إلاً أنه يتبين من النسب الواردة أنه قدم أسئلة متحاملة على القطاع العام ، وأنه اختار من لهم مصلحة في معاداته ، ومن جهة ثالثة ظهور أصحاب أو ورثة أصحاب المعامل التي شملتها التأميمات الذين يطالبون باسترداد هذه المعامل ، والتعويض عليهم مما لحقهم جراء التأميم من أضرار أو دفع أثمان تلك المعامل وفوائدها منذ التأميم حتى الآن حسب القيمة الإسمية للسهم مقارنة مع سعر ليرة الذهب المعمول بها في تلك الأيام . طبعاً دون أن يذكروا أنهم قد نهبوا ثلاثة أرباع المبالغ المطالب بها من البنوك الحكومية وهي مستحقة الأداء عليهم مع الفوائد مع الأحكام الجزائية المترتبة على عملية النصب تلك التي لاتموت بالتقادم القانوني والأخلاقي

يضاف إلى الجهات الثلاث المذكورة أعلاه ، جنرالات المقاهي ومنظرو الصالونات ، الذي يتبرعون مجاناً بتسويد تجربة القطاع العام ويعددون الرذائل والمفاسد التي اكتنفتها ، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث عما قدمه القطاع العام من قيم اقتصادية أو اجتماعية ، ودون أي اعتبار أخلاقي لمصالح ملايين العئلات التي ارتبطت حياتها بهذا القطاع عمالة أو تجارة أو خدمات . وإذا كان لابد من كلمة ، موجزة تقارب الإنصاف ، عن القطاع العام فهي ، أن ليس كله أبيض ولاكله أسود ، أي أن له .. ما له .. وعليه .. ما عليه .. والمسؤولية عما تخلله من فساد وخسائر بهذا القدر هنا وذاك القدر هناك ، هي مسؤولية سياسية - أمنية قبل أن تكون مسؤولية إدارية ، وهي بالمطلق ليست مسؤولية عمالية

وبهذا المعنى ، ليس القطاع العام مسألة اقتصادية مجردة ، مجرد آلات وأبنية تباع وتشرى ، إنه بنية متكاملة " اقتصادية - سياسية - اجتماعية " لايجوز ولايمكن التفكير به إلاّ بهدف اصلاحه وتحسينه ودعمه وتوظيف طاقاته في العملية الاقتصادية الوطنية . وهذا لايمكن أن يحققه نظام ا ستبدادي لايفكر أهله إلاّ بتسخير هذا القطاع وغيره من المال العام في خدمة ثرائهم الشخصي والفئوي، وإنما نظام ديمقراطي يمثل أغلبية الشعب .. ويخدم أكثرية الشعب .. وكلما كان هذا النظام عادلاً كلما كانت نسبة الأكثرية التي تدعمه أعلى فأعلى

وعليه ، فإن مسألة الحفاظ على القطاع العام وتطويره هي مسألة من أولويات الديمقراطية .. ومهمة الديمقراطيين الحقيقيين بامتياز

ومثلما لايعيش الإنسان بالخبز وحده .. فإن الإنسان بالحرية وحدها لايعيش