علم الجمال (aesthetics)، اسسه العلمية ومراحله التاريخية


اللجنة الاعلامية للحزب الشيوعي الاردني
2014 / 11 / 19 - 11:47     

مقال الكاتبة، سعاد محمد خضر

علم الجمال (الاستاتيك)، هو جزء من الفلسفة وتاريخه متصل بتاريخ الفلسفة، وعلم الجمال يتناول موضوع الفن، والجمال الفني، ودور الفن في المجتمع وعلاقة الفنان بالواقع وبالطبيعة، كما أنه يوضح كيف أن الأساس الاجتماعي في فترة تاريخية معينة يخلق أنواعاً من العلاقات الاجتماعية المعينة التي تحدد تصرفات وأعمال وتفكير الفرد وترسم له قيمته الفكرية والجمالية. وتشغل قضية المثال الجمالي-المثل الأعلى للجمال-مكاناً هاماً في موضوعات علم الجمال لأن هذا المثال يعبر عن نوعية صلة الانسان بواقعه وبحياته وعن نوعية ثقافته وعن انتمائه، كما أن المثال الجمالي في الأدب والفن يعبر عن العلاقة الدياليكتيكية بين الفرد والمجموع، بين الفرد والحياة، والطبيعة والكون.
والمثال الجمالي يجيب على الأمثلة التي تطرحها الحياة على الأدب والفن والمثال، ونراه وهو يجيب على تلك التساؤلات لا يعطي شيئاً لا يوجد في الحياة نفسها. فتحقيق مثال الحياة الحرة الجميلة يبرز بين امكانية تحديد العلاقة المتبادلة بين الواقع الموضوعي للحقيقة والانسان.
ولعلم الجمال صلة وثيقة بتاريخ الفن وتاريخ الثقافة والتاريخ القومي والعلوم التي تدرس المشاكل النظرية، وتاريخ اشكال الوعي الاجتماعي الأخرى، كالأخلاق وتاريخ المفاهيم الأخلاقية وتاريخ الأديان، كما أنه يتصل بعلم النفس الذي يطرح مشاكل وقوانين وأشكال نشاطات الناس وتطورهم. وصلة علم الجمال قوية متينة بالأخلاق. ففي ظروف التحول الاشتراكي مثلاً ترى من الأهمية بمكان وجود الانسان في وحدته المتكاملة مع المجتمع وأن الخروج من تناقضات واقع معين، هو في تغيير ذلك الواقع واعادة بناء الحياة.
والمثال الجمالي في الجمال المادي، يعبر عن اسمى ما يصل اليه الانسان في حياته لسعيدة على الأرضش، وكشف قواه الطبيعية واشباع جميع متطلباته الحقيقية.
والمثال الجمالي العلمي هو الواقع، هو تصور العقل والخيال الذي يستطيع بناء هذه الظاهرة أو تلك في الأدب والفن، مستجيباً لتساؤلات ومتطلبات أوسع أوساط الشعب وأذواقهم الفنية.
وظهور علم الجمال الماركسي-اللينيني يعتبر مرحلة جديدة من مراحل علم الجمال. فهو الى جانب تقبله النقدي وتهذيبه الابادعي لانجازات الأفكار الجمالية التقدمية، وتقييمه العلمي لخبرة التطور الفني للانسانية واغناءه لخبرة التطور الفني للفن الاشتراكي فهو تعبير علمي عن مصالح وتساؤلات ومثل أوسع طبقات الشعب.
وعلم الجمال، أو الجماليات هو علم يبحث في موضوع الجمال الفني ويعبر فيه عن تلك النظم العلمية التي تدرس القوانين العامة لتطور علاقات الانسان بالواقع في ميادين الأدب والفن. وتسمى عملية تقبل الفنان والأديب لموضوع الجمال ب (الشعور الجمالي) كما أن علاقتهما بهذا الموضوع أو ذاك تسمى بالعلاقة الجمالية. ولا تحدد العلاقات الجمالية فقط بالفن رغم أنها تجد بالفن تعبيرها الكامل المتعدد الجوانب بل وكذلك في جميع ميادين الحياة الأخرى المتنوعة. والشعور الجمالي للفرد لا يبرز فقط عند اتصاله بالنتاجات الفنية أو الأدبية وانما يتولد لدى الانسان عند اتصاله بمختلف ظواهر الأحداث والحياة الطبيعية والحياة الاجتماعية.

علم الجمال القديم
لقد ظهر علم الجمال في مجتمعات الرق في الشرق القديم، مصر وبابل والهند والصين. وقد بدأ تطور علم الجمال مع ظهور مجتمعات العبودية. فالسيد في هذه المجتمعات ليس فرداً مستقلاً بذاته، ولكنه منظم للانتاج ومالك لكل ادوات ووسائل هذا الانتاج. والعبد بدوره يتصرف كفرد منتج وكقوة مستغلة، لا تنفصل عن صاحبها، والعبد هنا ليس سوى شيء غير حي. ومن الواضح أن العلاقات بين افراد وبيثن اشياء مجردة لا يمكن أن تكون تماماً علاقة بين افراد متساويين أو بين انسانين على قدم المساواة. والعبد يفهم كل شيء في العالم حوله على أنه (شيء) أو (جسد حي) خالي من العقل خالي من العقل والتفكير وبدون شخصية فردية. واذا ما سئل العبد عن وجود الأشياء والحيوانات وعن اهدافها وعن اتجاهات ومغزى الحياة كلها بشكل عام، فلا بد له ان يلجأ للتعبير عن ذلك بتعابير تتعلق بحياته ومستقاة من واقع تلك الحياة. اذن العبد في نظام الرق لا ينظر له كانسان حي يؤثر ويتأثر بالمجتمع الحي. وذلك شيء لا يصعب تقريره، ولكن الصعوبة تبرز عند استخدام هذه الحقيقة لتحليل البناء الفوقي لنظام الرق، مثلاً لتحليل فن النحت القديم والذي لا يتعرض مطلقاً لحياة الرق؟ أو عند استخدامنا تلك الحقيقة للتعبير عن المثل الجمالية والمشاعر الجمالية الأخرى.
والعبد الذي يتكون في فترة نظام الرق لن يستطيع فهم ماهية المجتمع الانساني بمعناه الاجتماعي الأصيل وفي وجوده الحقيقي، فهو لا يملك أي تجربة حياتية أخرى وهو لا يعرف غير هؤلاء الناس، وهو لا يعي ولا يدرك وجود شكل اخر من اشكال العالاقات بين الناس والأشياء في العالمغير شكل تلك العلاقات القائمة في المجتمع الذي يعيش فيه. والسيد بدوره يعيش في نطاق نفس تلك العلاقات ولا يعي شكلاً اخر غيرها.
ان هذا التوضيح يساعدنا على كشف تطور الثقافات المنبثقة عن نظام الرق وتطور ذلك البناء الفوقي وتبيان وتوضيح علاقاته الأساسية على اساس نظام الرق. وعليه فيجب أن يكون هناك شيء ما يميز الفن في عصر الرق عنه في عصر الاقطاع أو في عصر الرأسمالية؟ وبعبارة اخرى، يتمتع الفن في كل نظام اجتماعي معين بميزات خاصة واسلوب خاص لا يتكرر، كالتشكيلة الاجتماعية نفسها التي تهيء له، وتوجهه.
ونحن عندما نتوصل الى الوجود الحتمي في العالم القديم (للشخص الشيء) أو (الشخص الجسد) فاننا نقرر انذاك أن الانسان وحياته لروحية والثقافية انما كانت تبنى على هيئة الأشياء وعلى اشكال مأخوذة من الجسد الانساني. ومن يدرس الاراء القديمة عن عودة الروح، فسيواجهه التصور المادي الجسدي للروح ومصيرها. وقد امن الانسان القديم بالالهة، ولكن الهته هي أجساد جميلة صحيحة رائعة وخالدة.
وهكذا ف(الشيئية) أو(الجسدية) هما محور وجهة النظر القديمة وخصائص الدين والفلسفة والفن والعلم بل والحياة الاجتماعية والاقتصادية كلها.
ومن هنا نستخلص أن موضوع علم الجمال القديم هو الوجود المادي، الشيئي والعضوي الذي يتطور ويتكون بصورة غير مباشرة وفي حدود الامكانات الجسدية الممكنة. انه الوجود الذي يمكنك أن تراه أو تسمعه وتشعر به والذي يعتبر قانوناً له الابقاء على الأجساد الحية والماديات الحية. انه ذلك الوجود الذي لا يختلف عن الكون المادي المحسوس. والخطأ في الحديث التقليدي عن المادة القديمة والاستاتيك القديم هو انهما لا يدرسان عادةً كمادة في ضوء تكوين نظام الرق وانما في ضوء الفلسفة البرجوازية. ويعتبر فلاسفة البرجوازية أن المادية القديمة تتخلص من كل ما يتعلق بخصائص العبودية عادةً. اذ طالما أن الماديين الغربيين لا يعترفون بالالهة فعليه يجب في نظرهم أن تكون كذلك المادية القديمة، فقد اعتبروا ابيقور ملحداً متغافلين عن جميع المصادر التي تتحدث عن الهة ابيقور، بل انهم صنعوا من لوكريتس شخصاً لا تنسجم تعاليمه مع وجهة نظره الفلسفية متغافلين عن تعاليمه التي تتحدث عن الموت الشامل.
فالهة ابيقور مثلاً ليست سوى مثاليات السكون وعدم القدرة واللذة والمتعة الذاتية وعدم الاهتمام بما يدور حولها، ونفس هذه المثاليات هي محور (فلسفة الأخلاق) عند ابيقور والتي بدونها تكون تلك الفلسفة شيء غير معقول، وتلك الالهة لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تؤثر في العالم او تشترك أو تساهم فيه.
فالشيئية الجسدية، خصائص وجهة النظر القديمة هي نفس المفاهيم التي اغرقت لدين.
فالشيئية خلقت للدين شكلاً خاصاً ولكنها لم تتعرض له من حيث الأساس، وعدم تفهم كل ذلك يدفع بالباحثين الى الباسها ثوب المادية الليبرالية الأوروبية. فالمادية البرجوازية قامت على اساس علاقة اصحاب العمل بالطبيعة والحياة على اساس الوعي الفردي.
وأخيراً علينا أن نذكر مفهوماً اخر يعمل على تبيان مدلول علم الجمال القديم. فكما انه لم يكن بد من وجود العبد فانه لم يكن الطرف الوحيد لنشوء الثقافة القديمة وعلى وجه الخصوص علم الجمال القديم. وبنفس المستوى لم يكن السيد كذلك هو الطرف أو المبدأ الوحيد للعالم القديم. فالعبد والسيد يكونان وحدة لا تنفصم، لا وجود لأحهما بدون الاخر. وفي العالم القديم كما هو الحال في كل فترة من فترات التاريخ الاجتماعي يوجد عامل ثالث أعلى من هذين العاملين، يوجد الطبقات وتنبعث منه الطبقات ولكنه لا يمكن أن ينبثق هو نفسه منهما. انه الشعب خالق المثل القديمة، والفن والدين القديم.
اذن ما هي خصائص ومثاليات جماليات العالم القديم؟ يعتقد فيثاغورس وأتباعه ان تناسق الأعداد هو قانون موضوعي بوجه جميع مظاهر الحياة. وهذا المفهوم نفسه نراه في اساس التعاليم الجمالية.
واراء فيثاغورس حول اتفاق (المتناقضات) قد وضعت اسس مفهوم الجمال الدياليكتيكي رغم انه قد ارتكز على مبدأ توافق التناقضات. بينما نرى ان هيروقليطس يرى ان بداية الوجود (النار الخالدة الحية). وتسود في العالم قوانين صارمة الا انه لا يوجد شيء دائم، فكل شيء يتدفق ويتغير. وعلى عكس فيثاغورس نرى هيروقليطس يؤكد لا على توافق الأضداد بل على صراعها. فالجمال كما يراه هيروقليطس هو خصائص العالم المادي. وهو خاصية سلبية، وتلك السلبية تبحث عن تبعية المخلوقات.
وأجمل انواع القرود هو لا شيء تجاه أجمل الناس ولكن اجمل مخلوق هو لا شيء تجاه جمال الاله. ويرى هيروقليطس كذلك ان للجمال اساسه الموضوعي اي في نوعية الأشياء المادية. ويتطور الجمال في نظره كما تتطور خصائص المواد وينطلق ديموقريطس من أن الجمال يحوي اساساً موضوعياً في العالم المادي، وجوهر الجمال في نظره هو النظام المتناسق في الأشياء وتناسق اجزاء المرسوم بدقة الأعداد. كما انه يعتقد أن الموسيقى لم تتولد من الحاجة اليهابقدر ما هي نتيجة لتطور رفاهية الحياة. ومن هنا نتلمس ما توصل اليه ديمقريطس من ان الفن هو نتاج الظروف الاجتماعية القائمة.
في حين نرى ان سقراط يبتعد عن مبدأ المادية الساذجة ويتركز اهتمامه بقضايا الأخلاق كأساس لتعاليمه الجمالية. فالانسان في نظره يكون جميلاً بقدر ما هو طيب وجماله يتركز في تفهمه لماهية الطيبة وماهية ما هو احسن.
ويعتبر سقراط الفن تعبيراً عن الطبيعة والانسان الكامل روحياً وجسدياً. وليس الشعر وحده كما يرى سقراط هو الذي يمكنه ان يعبر عن (حالة الروح) بل النحت ايضاً، وأكثر من ذلك نرى أن (الجسدية) لديه يجب ان تخضع (للروحانية).
وجاء أفلاطون ليطور تعاليم استاذه الجمالية، وقضية الجمال التي كانت محور اهتمامه هي الجمال (النافع)، (المفيد) وما يريح النظر والسمع، وليس الجمال الذي يلائم الحس فقط. وجمال كهذا لا يوجد في عالم الواقع بل في عالم الفكر.
والجمال كفكرة لا يولد ولا ينمحي ولكنه يوجد خارج نطاق الزمان والمكان، وغريبة عنه كل حركة وغريب عنه كل تغيير، وهو كفكرة لا يغزو الحس بل يغزو العقول. وكما نرى فان المفاهيم الجمالية لدى افلاطون تطورت على اساس مثالي غيبي.
ويرى أفلاطون أن الفنان يعيد خلق الأشياء المحسوسة، ولكن الأشياء هي مظهر للفكرة وفي هذه الحالة فهو لا يخلق شيئاً جديداً وانما ينقل نسخةً من نسخه، وتعبيراً عن تعبير ومظهراً من مظهر. وبما أن الفن ترديد أو تعبير التعبير فهو محروم من القيمة الواعية، وأكثر من ذلك فهو تصوير خادع ويعرقل الوعي الصادق الحقيقي بالعالم القائم.
فمن هو الذي يستحق أن يقوم بانتاج الفن؟ تتوضح ارستقراطية وجهة نظر افلاطون بهذا الصدد اذ يقول: (ان الهة الشعر الملهمة يجب الا تلهم أول من يقابلها وانما عليها ان تلهم احسن الناس الذين تلقوا تربية خاصة وبهذا فهم جديرون بهذا العمل).

لقد انتقد ارسطو فلسفة وتعاليم افلاطون الجمالية كلها، ورغم ان ارسطو نفسه حسب وجهة نظره واتجاهه كان يتأرجح بين المادية والمثالية فانه في نهاية أمره يعود ليخضع للمثالية.
والشعر لدى ارسطو هو ارفع انواع النشاط الجمالي. (فهو وحده يحوي التعميم التطبيقي الفني في عصره كما انه اساس الأسس للخلق الفني). ويضرب امثلة على وجهة نظر بهوميروس وسوفوكليس. وهو يعرف تماماً الملحمة اليونانية والمعمار اليوناني والموسيقى والمسرح والرسم. ويرى افلاطون ان حل المشاكل الاستاتيكية يجب ان ينطلق من حقائق ملموسة (فالشعر) لديه ليس مجرد وثيقة نظرية هامة وانما شاهد هام على تطور الفن اليوناني.
وكما فعل سابقوه فقد حاول ارسطو ايجاد قانون موضوعي للجمال ولكنه على عكس أفلاطون لم يكن يبحث عنه في عالم ما وراء الحس وانما في العالم الواقعي الملموس. والجمال لديه هو قيمة موضوعية قائمة بل هو خصائص الأشياء نفسها ايضاً والأسس الرئيسية للجمال هي (النظام) في (الكون)والتجديد الى جانب الكمال والوحدة للمجموع المختلف. وهو يحاول فيما بعد ان يحدد علاقة الجمال بالطبيعة. ويقول أن الواقع هو تعبير عن الطبيعة ولكن الجمال يوجد الى جانب ذلك في الأشياء غير المتحركة. وهو لذلك يتحدث عن جمال الكون وجمال الحركة. اي انه يهتم بالخصائص الشكلية للجمال. اما جوهر الجمال فيراه هو في خصائص الأشياء نفسها وعلاقاتها الحقيقية، ولذا نراه وهو يبحث مشاكل الجمال ينطلق من موقف المادية.
وهو يرى ان منبع الشعور والرضا الجمالي لا يوجد في عالم الأفكارةانما في اهتما الناس بالمعرفة والوعي، والفن لديه هو أحد اشكال النشاط الواعي للناس. ومن هذا المنطلق استطاع ارسطو ان يوضح قضية الحقيقة الفنية.
وكانت قضية الدور التربوي للفن مثار اهتمامات الفيلسوف اذ انه يتصل بحياة الناس الشعورية ويلتزم بواجبات ضرورة (اكمال صفات الناس).
ويواصل تطور الأفكار الجمالية والمبادئ الجمالية والمثاليات الجمالية في روما الطريقالذي قطعه علم الجمال في اليونان.
وكان الفهم المادي لعالم في اساس المشاكل الاستاتيكية التي تحدث عنها لوكريتس، العالم الذري القديم. ففي قصيدته (طبيعة الأشياء) يتحدث عن فكرة عدم تغيير تغيير قوانين الطبيعة عن تدخل الالهة. ويرى لوكريت أن المثال الجمالي في الفن جاء نتيجة (الحاجة)، اي جاء استجابةً لمتطلبات الانسان.وللفن في نظره دور تربوي توجيهي فهو وسيلة لنشر المعرفة.
وع بداية انهيار نظام الرق وتحلل الثقافات لمنبثقة منه بدأت الأفكار الجمالية ولمثل الجمالية المعروفة في العالم لقديم والتي قامت على اساسها الاجتماعي ومقوماتها الثقافية. ومع انهيار وسائل الانتاج القديمة، انهارت العلاقات الاجتماعة القديمة الخاصة بها وبالتالي انهارت المثل الجمالية التي كانت تعبر عن ماهية تكامل علاقة الفرد بالمجموع في ميدان الفن، والتي كانت تعبر عن المثل الألى الروحية لتلك المجتمعات.
ويعاصر القرن الثالث قبل الكميلاد فترة انهيار نظام الرق، وهي مرحلة انتقالية سبقت نشوء العلاقات الاقطاعية في مجتمعات القرون الوسطى. وقد وضح أنجلز الأساس الأيديولوجي لهذه الفترة بقوله: (ززز لقد واكب ذلك التاريخ فترة زمنية تميزت بانتشار الخرافات والسحر والعجائب والمعجزات في روما واليونان وخاةً في اسيا الصغرى وسوريا ومصر... ولم تنتشر فقط الخزعبلات بل استغلت في خداع الشعوب فقد كان تقبلها يتم دون مناقشة. وقد لعب لسحر وكشف الغيب والمعجزات دوراً ملحوظاً في تلك لمجتمعات).
وقد انعكت خصائص تلك الفترة ومبادئها الفكرية في اراء وتعاليم أفلوطين (204-270). وعالم افلوطين هو عالم تحلل الجمال والكمال الالهي. فالكمال المبدئي اذي ظهر في البداية قد أخذ يتحلل وأخذ كماله ينتاقص بالتدريج شيئاً فشيئاً. وذلك المثال هو أحسن ما يعبر عن انهيار القيم لقديمة وحيرة الناس في التعبير وفي تفهم ما يمور في مجتمعهم من أفكار جديدة وحركات دينية جديدة هزت مثلهم وقوضت اسس ثقافاتهم وتقاليدهم... ولكي يبتعد الانسان عن ماسي وبؤس واقعهم، يرى أفلوطين أن هدفه يتمركز في الرجوع الى الله وهو نفس المنطلق في حله لقضية الجمال والمثل الجمالي. فالجمال يتقبله الشعور، والشعور هو أدنى مستويات مظاهر الجمال. وكلما تحررت الروح من الجسد كلما زاد جمالها، كما أن الطيبة هي أعلى مراحل الجمال. لقد لعبت تلك الأفكار الجمالية دوراً هاماً في مراحل تطور علم الجمال المقبلة.

المثل الجمالية والجماليات في القرون الوسطى

حلت محل الامبراطوريات القديمة دويلات صغيرة تميزت بتطور ملكية الأرض وبداية عصر الاقطاع. وقد توضحت فيها تطورات اقتصادية وسياسية واجتماعية ادت الى ظهور علائق جديدة واكبت تطوراً جديداً في ميادين الحياة الثقافية والروحية ومفاهيم الأديان. وقد ساعدت تلك الظروف الاجتماعية الجديدة وانهيار المثل والثقافات القديمة وانتشار الخرافات وتفشي الأمراض الاجتماعية المختلفة التي تواكب دائماً فترات الانهيار، ساعدت على ظهور المسيحية. واستغل مفكروا المسيحية الأول انتشار الخرافات والايمان بالمعجزات لتصبح اساسً ومنطلقاً للتبشير بالدين الجديد. وساعد على انتشار المسيحية ان تعاليمها جائت لتستجيب لالام وبؤس الناس، ولكن مثاليات المسيحية لم تحاول ايجاد حل لذلك البؤس ولتلك الالام في تغيير الواقع القائمـ، بل بالابتعاد عن الحياة الدنيوية والفناء في الله، في الذات العليا.
وترتكز المثل الجمالية المسيحية على تعاليم افلوطين التي تنادي بتحرر الروح من الجسد وزيادة جمالها كلما ابتعدت عن الجسد الفاني. وزادت المسيحية من افاق ذلك المثال، فزيادة جمال ونقاء الروح وتكاملها مرتبط بابتعادها عن الجسد الفاني وفي احتقاره وفي الغيبوبة في ملكوت الله. وجوهر المثال المسيحي هو أن الخلاص يأتي بالتضحية بالذات من أجل الله والذي يأتي كأعلى مرحلة من مراحل الجمال تماماً كما فعل المسيح الذي ضحى بحياته عن وعي من أجل مصلحة الناس ومن أجل ان تبقى مملكة السماء الملاذ الوحيد للانسان. وظل ذلك المثل، يكبل عقول مفكري المسيحية المتزمتين، ورغم التطورات التي سنراها تستجد على ذلك، سيظل المثال الجمالي كما كان عند ظهور المسيحية.
وقد تلا انهيار وسائل الانتاج القديمة في اوروبا انهيار للاقتصاد والتكنيك والتجارة والمدن والمراكز الثقافية اي انهيار حضاري تحطمت فيه جميع القيم الحضارية والثقافة مما أورث العصور الوسطى مجتمعات شبه بدائية تبدأ من العدم. ولنذكر ما قاله انجلز في هذا الصدد: (تطورت العصور الوسطى على اساس بدائي تام، فقد انمحت الحضارة القديمة والفلسفة القديمة وكل ما كانت العصور الوسطى في اوروبا تملكه: المسيحية وبعض حضارات في المدن على طريقها للانهيار بعد ان فقدت مقومات مراحل تطورها القديمة واحتكر البابوات التعليم الثقافي والتوجيه الفكري).. وقد ادى ذلك الى صبغ جميع مناحي وميادين الفكر الاتجاه الديني، بل كان الدين هو المنطلق لجميع الفنون والفكر الجمالي والمثل الجمالية. فقد لعبت الكنيسة بمركزها الاقتصادي القوي وبمركزها الثقافي الأقوى دوراً هاماً في جميع مجالات الحياة. وكثيراً ما كانت تلعب دورها في مجال توجيه سياسة الدولة، وبالتالي كان تأثيرها على الفكر والفن لا ينكر. فالفن الذي نشأ في ظل التسلط الكنسي وسيادة الفكر الديني ينطلق من التصور الديني المسيحي للحياة، اي ان الحياة على الأرض ليست سوى لمحة ضعيفة عن الحياة السماوية وأن الانسان والانسانية كلها لا تساوي شيئاً، بل هي العدم بمقارنتها بعالم السماء. وذلك لا يعن عدم وجود فن شعبي الى جانب الفن الديني ولكن الواقع هو أن الفن الشعبي لم يجد له تقييماً نظرياً في استاتيك العصور الوسطى.

ويعتبر اوغسطس بلاجيني 345-430 (أب الكنيسة) من أكبر نظريي الفن الرسمي الديني. ومن يدرس وجهة نظره وأفكاره يجد امتداداً وانعكاساً لوجهة نظر وتعاليم أفلوطين. وفي الواقع، لا توجد حدود واضحة بين العصور، اذ ان اثر العصور القديمة في العصر الجديد يظل قائماً الى ان تتبلور مفاهيم واسس العصر الجديد الثقافية وبعد ان تتبدل تماماً العلاقات الاقتصادية القديمة. حيث يمكن للجديد انذاك ان ينتصر على القديم وتبدأ مرحلة مرحلة تطور الجديد في ظل الظروف الاجتماعية الجديدة.. وبما أن العلاقات الاقطاعية بمفهومها العلمي المعروف لم تتحدد تماماً في بداية العصور الوسطى فان المفاهيم والقيم الجمالية القديمة ظلت باقية الأثر بل انها كانت ذات اثر فعال على تكوين المثال الجمالي المسيحي. والمثال الجمالي المسيحي يتركز في ان الله منبع كل جمال، والعالم جميل لأنه من صنع الله الذي هو وحده منبع كل جمال بل هو أعلى مستويات الجمال. والفن لا يقدم لنا المظهر الحقيقي لهذا الجمال وانما يقدم لنا فقط مظاهره المحسوسة ولذلك لا يجب ان يكون نتاج الفن نفسه هو الأساس وانما الأساس هو تلك الفكرة التي يحتويها.
والجمال في نظره هو مثال لوحدة ميتافيزيقية ينسجم افكارها في تناسق رتيب. فالجمال في جوهره العميق هو الطيبة والحقيقة وهو في حد ذاته لا يحمل اي مغزى وانما الفكرة التي يحتويها النتاج الفني هي الأساس. ومحتوى النتاج الفني في تلك الفترة هو الفكرة الميتافيزيقية المجسدة لجمال الله. ومع ذلك فالفرق واضح من اراء اوغسطس ووجهات نظر أفلوطين الذي يرى الجمال فوق الحس ولكنه مع ذلك يوجد في الأشياء الكاملة، اي في قوة الحقيقة. فاغسطس يرى ان التناسق في العالم المحسوس القائم للأشياء لا يتحقق الا بارادة الله.
ان مثال الجمال هذا المنادي بالتفاني في الله واحتقار الحياة الدنيا كان الوقود الذي اذكت به الأوساط الحاكمة وحليفتها الكنيسة انذاك شعور الجماهير الديني واستطاعت به ان تسيطر على شعور التمرد على البؤس المتعظم في نفوس الناس ضد حكامه ليتحول الى هجير ينصب نقمةً على (المعتدين) على (موطن الله) ودفاعاً عن (شرف الله).

وكان تجسيد ذلك المثال الجمالي في الفن والأدب في مثل البطل الشجاع (الفارس) المطيع طاعة عمياء لسيده (لحاكمه) ولأاوامر الكنيسة والمتمسك بشعور الشرف والمتشبع بالدين وبحب الله. ان لذك الفارس الذي يستطيع ان يتغلب على ضعفه الدجنيوي ويدافع عن ملكوتن الله ويجسد صفات الشجاعة والمروءة والتقوى والشرف. وكان الشعر (شعر الفروسية) اكثر ما يدين الأدب امكانية للتعبير عن ذلك المثال الجمالي. مع تطور الظروف الاجتماعية اخذت تخف رويداً رويداً بعض نواحي محتوى ذلك المثال الجمالي وأصبح مجرد موضوع في الأدب يعكس نحاولات الأوساط الحاكمة في تغطية الفوضى والانهيار والمذابح وأعمال النهب والسلب التي تتميز بها المرحلة الثانية من العصور الوسطى والتي تستوعب القرون (13-14-15). وتعاصر تلك الفترة من مراحل تطور مجتمع القرون الوسطى تغيرات ملموسة تميزت في نمو قوى الانتاج وتطور الحرف وازدهار التجارة وما ترتب عليه من ازدهار المدن، وقد اثر ذلك بالتالي، على مسير التطور الثقافي وجميع مناحي النشاط الفني. وأصبحت الفلسفة ميداناً للصراعات الفكرية بين المثاليين والواقعيين، والتي سنجد لها امتداداً يستمر الى ما بعد عصر النهضة، حيث تصل هذه الصراعات الى المرحلة الحاسمة، التي تحدد تماماَ مواقف الأطراف المتعارضة، خاصة في فترة الحروب الدينية التي سوف تمزق المجتمعات الأوروبية في تلك الفترة. وفي تلك المرحلة التاريخية الهامة، أخذ المثال الجمالي يفقد رويداً رويداً بعضاً من محتواه الديني ليتصل بالحياة الواقعية، واصبح بدوره يمثل تلك الصراعات المختلفة والتناقضات التي بدأت تظهر في نفس الفرد وهو يعيش في خضم التطورات الاجتماعية السريعة المتلاحقة، وبعد ان اصبح المثال الجمالي المثالي السابق لا يعطي اجابة شافية عن جميع الأسئلة التي تطرحها الحياة اليومية.
وقد جاء المثال الجمالي السائد في تلك الفترة معبراً بوضوح عن افاق مثل هذا التطور يواكبه تطور كذلك في المفاهيم الجمالية. وتعتبر اراء (فوما اكفينسكي) الايطالي محددة لماهية ذلك الجمال، وقد ذهب فوما الى ابعد ما ذهب اليه اوغسطس عندما حاول تقييم الجمال بالعالم المحيط المحسوس. وهذا ينطلق كذلك من مفهوم المثل الأعلى للجمال هو الله. ولكن الجمال يمكن وجوده كذلك في الأشياء المحسوسة. ولكي يكون ذلك الجمال في الشيء المحسوس كاملاً، يجب ان يحوي شروطاً ثلاثة: الكمال، والكل الكامل ثم التناسب او التناسق، وبعد ذلك السطوع أو الوضوح. ثم تطور المثال الجمالي بعد ذلك لدى دانتي فرغم انه كان تحت تأثير اراء فوما، الا انه اعطى المثال الجمالي المحسوس ذا الصلة بالواقع ابعاد اكثر وضوحا وشمولا.وفي معرض كلامه عن الكوميديا الالهية نراه يقول "لم يكن ذلك العمل سهلا بالنسبة لي بل انه يمكن ان يسمى نتاجا يحوي بعض المعاني والاهداف".ومع ذلك فيمكننا القول بان نظريات الجمال (الاستاتيك) في العصور الوسطى لم تكن بنفس المستوى الذي وصل اليه الفن .