ثورة 23 يوليو 1952 تحالف وصراع بين منظمة حدتو وجمال عبدالناصر


أحمد القصير
2014 / 11 / 19 - 00:02     

تاريخ وطني يتغافل عنه مؤرخون ومغرضون:
لعبت منظمة حدتو أدوارا محورية في تاريخنا الوطني. لكن لم يتم تسجيل هذا التاريخ على نحو شامل كامل. وثمة إشكالية متعددة الجوانب والأبعاد في هذا الصدد. كما ترتبط بأكثر من طرف. فإن بالمختصين بالدراسات في المجالات السياسية والتاريخية الاجتماعية بالجامعات المصرية غير معنيين بتناول هذه الموضوعات ودراستها. ويبدو أنهم يرون أن دراستها من المحرمات. وهنا يضيع ويتلاشى الفارق بين رجل الأمن ورجل البحث العلمي. فكل منهما شريك في جريمة إخفاء حقائق التاريخ والتعتيم على مسار حياة مصر السياسية والثقافية. فقد قام البوليس السياسي بمحاربة تنظيمات فاعلة في الحياة المصرية خاصة منظمة حدتو. فمن جانب عمل على تضييق الخناق على نشاطها السياسي والفكري والثقافي. وقام من جانب آخر بمصادرة وثائقها وتقاريرها وأخفاها. وبذلك أوجد حالة من التعتيم على صفحات في تاريخنا الوطني والاجتماعي الثقافي. وبكل أسف يقوم الأكاديميون بنفس دور البوليس السياسي ويشاركون في عملية التعتيم بابتعادهم عن تناول هذا التاريخ الذي يتم طمسه عن عمد.
علاوة على ذلك فإن الأجيال الجديدة من اليساريين الماركسيين تبدو غائبة هى الأخرى عن ذلك التاريخ. كما أنها تجهل إنجازات الماركسيين المصريين أو تتلقاها مشوهة. وهو ما يشكل أكبر خطايا هذه الأجيال. فإن انقطاعها عن التاريخ النضالي لليسار الماركسي يحرمها من خبرات ذلك التاريخ. ومن جانب آخر تعثرت وانهارت واندثرت سريعا منظمات ماركسية تأسست في نهاية ستينات وأوائل سبعينات القرن العشرين، وذلك لآنها عزلت نفسها عن التاريخ النضالي للشيوعيين المصريين.
ومع ذلك لا يريد الذين أسسوها أن يعترفوا بفشلهم الذي تمثل في الانهيار الكامل لتنظيماتهم وعلى أيديهم، وبشكل سريع ومأساوى. وقد عاشوا جميعا بعد ذلك الانهيار في حالة بطالة سياسية لعدة عقود. وبعد ثورة 25 يناير 2011 بدأوا في مواصلة تجاربهم الفاشلة وأسسوا أحزابا جديدة سرعان ما خرجوا منها بشكل انتهازي وقفزوا إلى احزاب وليدة تشكلت بنفس الطريقة وشاركوا في انقسامها وتمزيقها.
وعلاوة على ذلك انهار"التيار الثوري" بالرغم من أنه استمر من 1965 حتى بداية التسعينات. وكان تأسيسه بداية للمرحلة الثالثة للحركة الشيوعية المصرية. كما كان إعلانا عن استمرار النشاط الشيوعي وعدم توقفه بعد انتهاء المرحلة الثانية للحركة الشيوعية المصرية في أوائل عام 1965. انهار التيار الثوري لأن قادته الجدد ابتعدوا به عن المنبع إلى نشأ منه وهو منظمة حدتو.
لم يستمر من تنظيمات المرحلة الثالثة سوى الحزب الذي اعتمد في تأسيسه على الشيوعيين القدامى في المحل الأول ومعظمهم من أبناء حدتو. ونعني هنا الحزب الشيوعي المصري. لكنه أخذ هو الآخر ينحسر ويضعف لعدة أسباب من بينها أنه ابتعد تماما عن نهر النضال للشيوعيين المصريين الذي شقته حدتو في المحل الأول. وانقطع عمليا وفكريا عن مجرى هذا النهر. بل يقوم بتشويه بعض الأفكار التي انسابت فيه ويقدمها على عكس حقيقتها.
أظهرت التجربة صعوبة تأسيس نشاط يساري ماركسي منقطع الصلة بالتراث النضالي السابق خاصة تراث المرحلة الثانية للحركة الشيوعية في أربعينات وخمسينات القرن العشرين. وقد فشلت كل التنظيمات التي تأسست انطلاقا من العداء لتلك المرحلة. وقد تمثل ذلك العداء أساسا في انتقادهم الخاطئ لمنظمة حدتو ومعارضتهم تعاونها مع عبدالناصر قبل ثورة 23 يوليو وبعد قيامها. ولا يريد هؤلاء أن يدركوا أن حدتو كانت القلب النابض للمرحلة الثانية من الحركة وصاحبة الإنجازات الباقية في التاريخ. وإن القطيعة مع ذلك القلب يحرم الاجيال الحالية من الخبرة المتراكمة ويمنع عنها شريان النضج.
إن الاجيال الراهنة من اليسار الماركسي تحتاج أن تعرف هذا التاريخ على حقيقته دون أن تتأثر بمحاولات التشويه المغرضة. وهي محاولات قامت وتقوم بها جهات رسمية ودوائر رجعية البعض منها يتدثر بالإسلام. والبعض الآخر ينتحل صفة اليسارية. ويتدثر البعض الثالث بتوجهات دوائر غربية تصور تاريخ الحركة الوطنية المصرية بشكل خاطئ. ومن الغريب أن يتبنى بعض الذين ينتمون للأجيال الحالية من اليساريين رؤية بعض تلك الجهات عن تاريخنا الوطني خاصة تاريخ اليسار الماركسي وعلاقته بثورة 23 يوليو. وهي رؤية مغلوطة ومغرضة تروجها دوائر استعمارية. وتستخدم في هذا السبيل مراكز ومنظمات محلية ومراكز بحث ومؤسسات اكاديمية غربية. وتحاول تلك الدوائر المشبوهة تشويه مراحل تاريخنا الوطني. وتحاول على سبيل المثال حشر جماعة الإخوان المسلمين زورا في هذا التاريخ. وتروج زورا أنها جماعة وطنية. والمأساة أن بعض القوى السياسية ومن بينهم شباب ماركسي انخدعو وقالوا إن الإخوان المسلمين فصيل وطني. وتجاهلوا بذلك تاريخهم الإرهابي وأنهم كانوا دوما في خدمة القصر الملكي والمستعمر. وقد كانوا آداة المخابرات البريطانية في تنفيذ مؤامرة حريق القاهرة في26 يناير 1952.
إن بعض تلك الدوائر المحلية منها والأجنبية تنكر على سبيل المثال أن ثورة 23 يوليو1952 كانت جزءا عضويا من تاريخ الحركة الوطنية. وتتجاهل أنها ثمرة تطور تلك الحركة. كما تنكر ثانيا أن ثورة يوليو كانت حصيلة تعاون وثيق بين عبدالناصر وتنظيم الضباط الأحرار من جانب ومنظمة حدتو الشيوعية من جانب آخر. وتنكر ثالثا أن علاقة حدتو وعبدالناصر كانت عبارة عن تحالف وصراع في آن واحد. وعلاوة على ذلك تعمل تلك الدوائر على إخفاء أن حدتو كانت القوى السياسية الرئيسية التي عارضت سياسة كبت الحريات وإيقاف الحياة البرلمانية. ودفعت غاليا ثمن مطالبتها في1953 بعودة الحياة البرلمانية. ومن المفارقات أن عض الذين ينتحلون صفة اليسار يتبنون هذه الأراء المغلوطة. كما أن البعض الآخر ينتقد حدتو لأنها تعاونت مع عبدالناصر وأيدت ثورة 23 يوليو.
كان خالد محي الدين وهو من كوادر حدتو منذ عام 1947 أحد الضباط الخمسة الذين أسسوا تنظيم الضباط الأحرار. كما كان ضباط حدتو في سلاح الفرسان أي سلاح المدرعات يشكلون كتلة رئيسية في التنظيم. وكان محور التعاون بين عبدالناصر وحدتو يستند إلى عدة أهداف تحددت في برنامج تنظيم الضباط الأحرار. وكانت بنود ذلك البرنامج تتوافق مع الأهداف التي كانت حدتو تسعى إلى تحقيقها من خلال جبهة وطنية ديمقراطية. والجدير بالذكر أن الرفيق الشهيد شهدي عطية كان قد وضع في أربعينات القرن العشرين بالاشتراك مع زميله عبدالمعبود الجبيلي برنامجا تفصيليا للحركة الوطنية. وقد دعا ذلك البرنامج إلى تحقيق حريات ثلاث سياسية واقتصادية واجتماعية وإلى إلغاء الطائفية ومساواة المرأة بالرجل. كما تضمن البرنامج توزيع أراضي الاقطاعيين على الفلاحين وضرورة أن تمتلك الدولة للمشروعات الكبرى.
من الضروري أيضا الإشارة إلى وضع حدتو ودورها في الحركة الوطنية. فقد قامت بأدوار رائدة ورئيسية في تاريخ مصر الحديث. وتركت بصماتها على صفحاته. فهي التي وضعت جدول أعمال الحركة الوطنية في أربعينات وخمسينات القرن العشرين، وأنجزت الكثير من بنوده. كما كان قادتها وكوادرها أبرز الرواد في مجالات عديدة السياسية منها والأدبية والفنية والفكرية. وفي واقع الأمر جسدت حدتو حالة فكرية نضالية مستمرة في التاريخ حسبما أوضحنا في كتابات سابقة. وعلى الرغم من ذلك واجه أصحاب تلك الإنجازات التنكيل والتنكر لأدوارهم لا من أعداء الشعب فحسب بل ومن قوى وطنية مفترض أنها حليفة علاوة على بعض من يدعون بأنهم ينتمون لليسار.
برز دور حدتو في مجالات نشر الفكر الوطني والدعوة إلى الاستقلال والمساواة والحرية ومحاربة الصهيونية. وقام قادتها وكوادرها بتأسيس اللجنة الوطنية للطلبة والعمال وقيادة الهبة الشعبية عام 1946، كما برز دورهم في مجال تأسيس النقابات وخلق حركة عمالية نشطة في المناطق العمالية الشهيرة مثل شبرا الخيمة والمحلة الكبرى وكرموز بالاسكندرية وبورسعيد. وفضلا عن ذلك انفردت حدتو بالعمل وسط الفلاحين وداخل الجيش. وفضلا عن ذلك برز بشكل ساطع دور أبناء حدتو في مجالات النشر والإبداع الفكري والأدبي وفنون الصحافة والسينما الروائية والتسجيلية والفن التشكيلي. فإن المبدعين من أبناء حدتو أوجدوا حركة أدبية وثقافية وفنية شكلت ثقافة جديدة في المجتمع المصري. وكانوا طلائع مغردة بالوطنية وحب الوطن. وعلى الرغم من كل ذلك تعرض هؤلاء الرواد للاضطهاد ومحاولة إنكار دورهم. ويمكن أن نشير في هذا الصدد إلى أن دور حدتو قي ثورة 23 يوليو 1952 تعرض لمحاولات التجاهل والإنكار. كما حدث نفس الشئ بالنسبة لدورها البطولي في المقاومة الشعبية في بورسعيد وتوحيدها في جبهة متحدة أثناء الاحتلال الأنجلو- فرنسي للمدينة عام 1956.
حدتو وتنظيم الضباط الأحرار وثورة 23 يوليو 1952:
شاركت حدتو بدور أساسي في تأسيس وبناء تنظيم "الضباط الأحرار" الذي قام بثورة 23 يوليو 1952. وتم ذلك في تعاون وثيق مع جمال عبدالناصر. كما كانت حدتو هي التي وضعت برنامج ذلك التنظيم. فقد قام بصياغته كل من القاضي أحمد فؤاد والضابط خالد محي الدين وهما أعضاء في حدتو. وكان الأول عضوا باللجنة المركزية لحدتو ومندوبها للاتصال بجمال عبدالناصر وتنظيم الضباط الأحرار. كما كان خالد محي الدين علاوة على ارتباطه بحدتو أحد الضباط الخمسة الذين أسسوا تنظيم "الضباط الأحرار" وعضوا في لجنته التنفيذية. والضباط الخمسة هم جمال عبدالناصر، خالد محي الدين، حسن ابراهيم، عبدالمنعم عبدالرؤوف، وكمال الدين حسين. وتم بعد ذلك استبعاد عبدالمنعم عبدالرؤوف لأنه طلب انضمام التنظيم لجماعة الإخوان. وقد أوردنا من قبل بنود برنامج تنظيم الضباط الأحرار في فصل سابق. لكن ينبغي التنويه بأن هذا البرنامج كان يتوافق تماما مع أهداف الجبهة الوطنية التي دعت إليها حدتو خاصة فيما يتعلق بمحاربة الاستعمار والقصر الملكي، ورفض الأحلاف العسكرية، وإقامة عدالة اجتماعية وحياة برلمانية.
علاوة على ذلك فإن ضباط الجيش المنتمين إلى حدتو هم الذين كانوا يتطوعون للقيام بالأعمال الخطرة في نشاط الضباط الأحرار. وكان هؤلاء ينتمون أساسا لسلاح الفرسان الذي كانت تسوده أفكار وتوجهات يسارية بتأثير خالد محي الدين ورفاقه في السلاح الأعضاء في منظمة حدتو. كما تحملت حدتو مسئولية طباعة منشورات الضباط الأحرار قبل ثورة يوليو 1952. وكان خالد محي الدين هو صاحب فكرة إصدار المنشورات. وألح على تنفيذها. وعلاوة على ذلك كان لحدتو دورا حاسما في قيام الثورة. فإن يوسف صديق ابن حدتو ومصر البار هو الذي احتل قيادة الجيش ليلة 23 يوليو 1952. كما لعب ضباط حدتو بسلاح الفرسان أدوارا هامة ليلة الثورة علما بأن الضباط الأحرار في ذلك السلاح كانوا يشكلون وحدهم ما يقرب من 35% من مجموع الضباط الأحرار في كافة أسلحة الجيش. ولا يجب أن ننسى أن أحمد حمروش المسئول السياسي عن قسم الجيش بحدتو كان هو المكلف من قبل عبدالناصر لتأمين حامية الاسكندرية ليلة قيام الثورة ضمانا لعدم استخدام قوات تلك الحامية ضد الثورة. ولم يكن عبدالناصر يعلم آنذاك أن حمروش عضوا في حدتو. وقد تم استدعائه يوم 22 يوليو من الاسكندرية وأبلغه عبدالناصر بموعد الثورة وطلب أن يقوم هو وزملاؤه الضباط الأحرار بالاسكندرية بتأمين الحامية العسكرية هناك. وقام حمروش قبل عودته إلى الاسكندرية بإبلاغ أحمد فؤاد عضو اللجنة المركزية لحدتو وطلب منه إبلاغ سيد سليمان رفاعي سكرتير حدتو كي تكون المنظمة على استعداد للتصرف تجاه الحدث.
على الرغم من كل ذلك يحاول البعض إنكار هذه الأدوار الرئيسية لحدتو في تأسيس تنظيم الضباط الأحرار وفي نشاطه وفي قيام الثورة. وهناك البعض الآخر الذي يشير إلى دور حدتو ولكن بطريقة تحاول التقليل من أهميته. هذا ما فعله على سبيل المثال سامي شرف الوزير السابق وسكرتير الرئيس عبدالناصر للمعلومات. كما عمل من قبل في المخابرات تحت قيادة زكريا محي الدين. فقد ذكر سامي شرف في كتابه "سنوات وأيام مع جمال عبدالناصر" الآتي: "يقول شيوعيو حدتو، وهم فصيل من التيار الشيوعي في مصر أن الضباط وبعض المدنيين في هذا الفصيل هم الذين قاموا أو بمعنى أصح هم الذين صنعوا ثورة يوليو".
قامت حدتو بأعمال محددة سواء في بناء تنظيم الضباط الأحرار ونشاطه أو في التحرك ليلة الثورة وتنفيذها. والسجلات التاريخية تذكر ذلك. كما ينبغي توضيح أن حدتو كانت طرفا رئيسيا في الصراعات السياسية داخل مجلس قيادة ثورة 23 يوليو. من جانب آخر كانت حدتو تتعاون مع المجلس في عدة قضايا وفي بعض الإنجازات. ومن بينها المشاركة في إصدار قانون الإصلاح الزراعي في سبتمبر 1952، وقانون العمل الفردي وقانون النقابات العمالية في ديسمبر1952، وقانون منع الفصل التعسفي في أبريل 1953.
أما الصراع فقد دار حول قضايا مثل المحاكمة الارهابية لعمال كفر الدوار. وهي تشبه في الواقع محاكمة الانجليز للفلاحين بقرية دنشواي في بداية القرن العشرين إن لم تكن أبشع. وقد صوت يوسف صديق وخالد محي الدين في مجلس قيادة الثورة ضد إعدام خميس والبقري زعيمي العمال. وينبغي أن نؤكد أن محمد نجيب أيد حكم الإعدام عند التصويت داخل مجلس قيادة الثورة ثم استدعى خميس أحد المحكوم عليهم لمقابلته ووجه له عدة أسئلة. وعلى إثر تلك المقابلة قام نجيب بوصفه رئيسا لمجلس قيادة الثورة بالتصديق على تنفيذ الحكم بإعدام خميس والبقرى. لكن البعض يحاول الآن تزوير ذلك التاريخ.
كما شمل الصراع بين حدتو ومجلس قيادة الثورة قضية الديمقراطية وعودة الحياة النيابية ومستقبل الحكم في مصر. وقد وقف يوسف صديق وخالد محي الدين في مجلس قيادة الثورة مع عودة الحياة النيابية وتطبيق كافة بتود برنامج الضباط الأحرار. ورفضا الاستمرار في الحكم عندما سار بقية أعضاء المجلس في الاتجاه المضاد لذلك. فإن ثورة يوليو تخلت بعد قيامها بحوالي ستة أشهر، أي في منتصف يناير1953، عما جاء في برنامج الضباط الأحرار بشأن الحريات العامة والحياة النيابية. وقد استقال آنذاك يوسف صديق من مجلس قيادة الثورة احتجاجا. أما خالد محي الدين فقد استمر في المجلس واستقال في بداية أبريل 1954 بعد أن قام مجلس قيادة الثورة بإلغاء قرارته التي أصدرها في 5 مارس و 25 مارس 1954 والتي كانت تقضي بعودة الحريات والحياة النيابية.
بدأ مجلس قيادة ثورة يوليو في اتخاذ إجراءات ضد حدتو بمجرد إلغائه الأحزاب السياسية في منتصف يناير 1953. وشمل ذلك اعتقال أعضاء حدتو وتعذيبهم ومحاكمتهم. وصدرت ضدهم أحكام جائرة أصدرتها محاكم عسكرية. وفي سياق تلك الحملة تم إلقاء القبض على أعضاء حدتو الذين كانوا يطبعون قبل الثورة منشورات تنظيم الضباط الأحرار ومعهم الرونيو الذي استخدموه في طباعتها. وجرت محاكمتهم وصدرت ضدهم أحكام بالسجن.
ضباط حدتو وأزمة مارس 1954 حول الديمقراطية:
اتخذ ضباط حدتو خاصة في سلاح الفرسان مواقف شجاعة ضد سلوكيات خاطئة لبعض ضباط الثورة. كما أصروا على عودة الحياة البرلمانية. وتم يوم 24 مارس 1954 عقد اجتماع عام لضباط السلاح بدعوة من ثلاث ضباط من بينهم اثنين أعضاء في حدتو. والضباط الثلاثة هم النقيب أحمد المصري والنقيب فاروق الأنصاري والملازم أول محمود حجازي. والأول والثاني كانا أعضاء بمنظمة حدتو. انعقد الاجتماع يوم جمعة وحضرة 200 ضابط. ولم يكن حسين الشافعي مدير السلاح آنذاك وعضو مجلس قيادة الثورة على علم بالاجتماع.. وعندما ذهب للاجتماع لم يستطع إثناء ضباط السلاح عن وجهة نظرهم التي تطالب بمحاسبة ضباط الثورة على سلوكياتهم المنفلتة. كما أصروا على عودة الحياة النيابية وإقامة جمهورية برلمانية. وطالبوا بعودة محمد نجيب رئيسا للجمهورية. وعندما فشل حسين الشافعي في إثناء الضباط عن وجهة نظرهم ذهب وأحضر جمال عبدالناصر.
لابد أن نشير هنا إلى أن هؤلاء الضباط أعضاء حدتو بسلاح الفرسان كان من بينهم: أحمد المصري، أحمد قدري، أمال المرصفي، جمال علام، حسني الصاوي، صلاح السحرتي، عبدالله فهمي، وعزت الألفي. أما عثمان فوزي عضو حدتو الذي لعب الدور الأساسي في تأسيس تنظيم الضباط الأحرار بسلاح الفرسان فلم يكن في مصر وقت تلك الأزمة. فقد ذهب إلى موسكو للعمل في السفارة هناك.
عندما حضر عبدالناصر ذلك الاجتماع وجد تمسكا شديدا من الضباط بموقفهم. فخرج من الاجتماع وعقد اجتماعا لمجلس قيادة الثورة يوم 25 مارس 1954. واتخذ المجلس قرارات بشأن الحريات العامة وعودة الحياة النيابية وإقامة جمهورية برلمانية. كما قرر المجلس عودة محمد نجيب لرئاسة الجمهورية وأن يشكل خالد محي الدين وزارة مدنية لإجراء الانتخابات النيابية. لكن عبدالناصر، الذي اضطر إلى اتخاذ تلك القرارات، عمل من جانب آخر على عدم تنفيذها. واستخدم في ذلك عددا من ضباط الصف الثاني من الضباط الأحرار . فمن جانب دفع مجلس الثورة لاتخاذ قرار آخر بحل مجلس قيادة الثورة على الرغم من أن ضباط سلاح الفرسان لم يطالبوا بذلك. وكان هدفه من ذلك إثارة بعض أسلحة الجيش الأخرى لكي تتصدي لسلاح الفرسان. ومن جانب آخر عمل بعض ضباط الصف الثاني من رجال الثورة الذين خافوا من عودتهم للثكنات على عدم تنفيذ القرارات التي قضت بعودة الحياة النيابية. واستخدموا بعض أسلحة الجيش لتحقيق غرضهم. وقامت قوات من تلك الأسلحة بمحاصرة دبابات سلاح الفرسان، كما حلقت الطائرات العسكرية فوق سلاح الفرسان لإرهابه. وتم منع إذاعة قرارات المجلس المشار إليها والتي قضت بعودة الحياء النيابية. وكاد القتال أن ينشب بين أسلحة الجيش. وتم وضع خالد محي الدين فيما يشبه الاعتقال وقتا قصيرا. وبعد أيام معدودة ثم إلغاء قرارات 25 مارس ومعها قرارات 5 مارس 1954. وكانت هذه الأخيرة تعني أيضا عودة الحياة النيابية. فقد نصت على ما يلي:
1- اتخاذ إجراءات فورية لانتخاب جمعية تأسيسية على أن تنعقد في شهر يوليو 1954 لوضع دستور للبلاد؛
2- إلغاء الرقابة على الصحف؛
3- إلغاء الأحكام العرفية قبل إجراء الانتخابات.
لم يحضر خالد محي الدين اجتماع مجلس قيادة الثورة الذي تم فيه إلغاء قرارات 5 مارس وقرارات 25 مارس 1954. فقد كان يتوقع ذلك. لذلك اختفى عدة أيام في الاسكندرية. ثم جاء للقاهرة وقابل عبدالناصر وقدم استقالته من مجلس قيادة الثورة. وتم بعد ذلك اعتقال ضباط حدتو في سلاح الفرسان. وصدرت أحكام ضد البعض منهم وهم أحمد المصري، أحمد قدري، حسني الصاوي وعزت الألفي. وكانت عقوبة أحمد المصري ثلاث سنوات سجن. وهي العقوبة الأشد. كما تم طردهم جميعا من الجيش. من الأمور التي تدعو إلى الاستغراب أن تتجاهل شخصية مثل محمد حسنين هيكل كل ذلك التاريخ. فقد تهكم على موقف سلاح الفرسان وضباط حدتو ودعوتهم لإعادة الحياة النيابية.
حول الفترة الانتقالية :
بعد قرار مجلس قيادة ثورة 23 يوليو في منتصف يناير 1953 بحل الأحزاب السياسية وتحديد فترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات ظهر على السطح الصراع بين حدتو ومحلس قيادة ثورة يوليو. وكان قد تقرر في ديسمبر1952 إلغاء دستور1923 وتشكيل جمعية لإعداد دستور جديد. وقد ترتب على كل ذلك إلغاء الانتخابات النيابية التي كان من المفترض أن تجري في فبراير1953. ولم يتصدى لتلك القرارات ويعارضها بوضوح سوى منظمة حدتو. لم يوافق حزب الوفد على تلك القرارات لكنه لم يتحرك ضدها. أما جماعة الإخوان المسلمين فقد رحبت بإلغاء الانتخابات والدستور وحل الأحزاب. بل رفعت شعار "لا أحزاب في الإسلام". والجدير بالذكر أن جماعة الإخوان تم اسثتناءها آنذاك من قرار الحل تحت ذريعة أنها ليست حزبا سياسيا. وبمجرد صدور قرار حل الأحزاب بدأت على الفور حركة اعتقالات لقيادات حدتو قبل أن تعلن حدتو معارضتها لتلك القرارات. وربما رأى مجلس قيادة الثورة في احتجاج يوسف صديق واستقالته الفورية من مجلس قيادة الثورة مؤشرا لطبيعة الموقف الذي سوف تتخذه حدتو. وتم اعتقال يوسف صديق. كما تم اعتقال أحمد حمروش المسئول السياسي للقسم الذي كان تابعا لحدتو في الجيش.
وجاء رد حدتو في منشور يوم 25 يناير1953. قال عن اللواء محمد نجيب رئيس مجلس قيادة الثورة ما يلي: إن نجيب تخلى عن تعهداته للشعب. "فقد أعلن حمايته للدستور ثم أسقطه. وأعلن إعادة الحياة النيابية فألغاها. وأعلن احترام الحريات فأعدم خميس والبقري. وأعلن احترام الأحزاب السياسية ثم حلها". كما طالب المنشو بالإفراج عن البكباشى يوسف صديق واليوزباشى أحمد حمروش وبقية المعتقلين، وإعادة الدستور والحياة النيابية.
الميثاق الوطني للجبهة الوطنية الديمقراطية :
دعت حدتو إلى تشكيل جبهة وطنية ديمقراطية لإعادة الحياة البرلمانية. ووضعت ميثاقا لها. ونصه كالآتي: "الموقعون على هذا من مختلف طوائف الشعب المصري وهيئاته يعلنون أن المطالب العاجلة للشعب المصري في المرحلة الراهنة من أجل إنقاذ قضاياه الوطنية ومستقبله السياسي والاقتصادي ومن أجل تحقيق رخائه ومن أجل استمرار تقدمه وتطوره ومن أجل تجنيب بلاده وحضارته ويلات حرب مدمرة، هذه المطالب تتلخص في الآتي:
1- إلغاء الأحكام العرفية وإلغاء جميع السلطات الاستثنائية الاستعمارية التي تقيد حريات الجماعات والأفراد.
2- إعادة الحياة النيابية فورا بإرجاع دستور سنة 1923 التي عليها البلاد بتضحيات الأجيال بعد الأجيال وترك الأمر للبرلمان الجديد المنتخب لإضافة وحذف وتعديل النصوص بما يؤكد سلطات الشعب ويبسط رقابته الكاملة على جهاز الحكم.
3- نبذ سياسة المفاوضات مع الأعداء الغاصبين الأمر الذي أجمعت عليه البلاد إجماعا حاسما لا شك فيه وإعلان المقاومة الإيجابية بكل الوسائل.
4- رفض الدخول في أي نوع من أنواع الأحلاف العسكرية مهما كانت الأسماء التي يتسمي بها والأشكال التي يتنكر تحتها.
5- عدم الاعتراف بمنطقة السويس كقاعدة عسكرية تلزم مصر بالمحافظة عليها لحساب أية دولة ومجموعة من الدول التي تدعي حقوقا خاصة فيها. ونحن ندعو جميع طوائف الشعب وهيئاته إلى توقيع صور من هذا الميثاق الوطني إرسالها بالمئات والألوف إلى حضرة رئيس الحكومة".
وفي أعقاب صدور بيانات ومنشورات الجبهة في كل من القاهرة والاسكندرية تصاعدت عمليات البطش بمنظمة حدتو وكوادرها. وقد تناولت هذا الأمر في موضوع مستقل عن تعذيب كوادر حدتو وقادتها.