الثورة الشعبية: داية أم احتجاج؟


خليل كلفت
2014 / 10 / 25 - 12:58     


1: في معرض حديثه، في رأس المال، عن "عملية تحوُّل أسلوب الإنتاج الإقطاعيّ إلى أسلوب إنتاج رأسماليّ" يقول كارل ماركس: "العنف داية/قابلة كل مجتمع قديم حامل بمجتمع جديد". وتنطوى هذه الصيغة على ما يلى: عند وصول "عملية تحوُّل أسلوب الإنتاج الإقطاعيّ إلى أسلوب إنتاج رأسماليّ" وهى، بالطبع، عملية تاريخية تراكمية طويلة كشف ماركس شتى أبعادها فى كتابه رأس المال، إلى مرحلة متطورة من التشكل تأتى ثورة يسميها هنا داية/قابلة/ مولِّدة فتقوم بوظيفتها المعهودة، إذْ تقوم بتوليد المجتمع القديم "الإقطاعى" فيخرج المجتمع الجديد "الرأسمالى" إلى النور.
2: ولا جدال بالطبع فى أن ماركس هو الذى اكتشف سر تحول المجتمعات من نمط إنتاج اجتماعى إلى آخر، والسر ببساطة هو هذه العملية التراكمية الطويلة التى تنقل من كل مجتمع قديم "حامل بها" (والمهم هنا بالطبع هو هذا الحمل وطريقة حدوثه ومراحل ومستويات نضجه) إلى مجتمع جديد: من النظام المشاعى إلى العبودى، ومنه إلى الإقطاع، ومن هذا إلى الرأسمالية. وكان هذا الانتقال لغزا مستعصيا على الحل قبل ماركس. ومنذ ذلك الحين صار الحل النظرى الذى قدَّمه كارل ماركس لعملية تحول المجتمعات أىْ "العملية التراكمية الطويلة" أساس كل تفكير عقلانى فى هذه المسألة الكبرى.
3: وتعنى "العملية التراكمية الطويلة"، بطبيعة الحال، تراكم عناصر ووسائل إنتاج مجتمع جديد واكتمال تشكله، أىْ التطور التراكمى الاجتماعى-السياسى الاقتصادى التقنى العلمى الفكرى الجمالى الذى من شأنه تغيير المجتمع من أسفل بصورة جذرية؛ والسؤال: هل تحتاج هذه العملية إلى داية/قابلة أو عنف أو ثورة شعبية لكىْ تكتمل؟
4: ولا شك فى أن ثورة 1789 العظمى كانت حدثا تاريخيا كبيرا وكانت لها أصداء منها الإيحاء لماركس أو غيره بأنها عنصر ضرورىّ لعملية التحوُّل من مجتمع إقطاعى إلى مجتمع رأسمالى. فما معايير اختبار هذا التصور عند ماركس؟ والمعيار الأساسى بسيط للغاية: هل كان كل تحوُّل من مجتمع إقطاعى إلى مجتمع رأسمالى، وناهيك بمثل هذه التحولات طوال التاريخ، مرتبطا بثورة شعبية، وهل كانت كل ثورة شعبية مرتبطة باكتمال عملية تحول تاريخية من هذا النوع؟ والإجابة على السؤالين: لا! فقد انتقلت مجتمعات عديدة من الإقطاع إلى الرأسمالية دون أىّ ثورات شعبية مرتبطة بها، وتمثل الياپان أبرز أمثلة الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية بفضل "عملية التحول التراكمية" دون أن نرى مطلقا شيئا من قبيل ثورة شعبية.
5: ولم ترتبط مئات وآلاف الثورات الشعبية طوال التاريخ بانتقالات تاريخية من نمط إنتاج اجتماعى إلى آخر، وهذه حقيقية تاريخية لا يمارى فيها عاقل، ولكنْ لماذا؟ بالطبع لأن الانتقال من نوع من المجتمع البشرى إلى آخر يقتضى بالضرورة تراكما متشابكا طويلا وواسع النطاق لعناصر المجتمع اللاحق داخل نطاق المجتمع السابق، وليس من شأن تفجر ثورة شعبية تستغرق عدة أيام أو عدة سنوات أن تخلق من العدم عناصر مجتمع جديد لم تتطور مقدماته بعد. وكمثال واضح فإن ثورة شعبية فى القرون الوسطى الإقطاعية، فلم تشهد بطبيعة الحال عملية تراكم رأسمالى، لن تمنحنا فجأة نظام الصناعة الكبيرة بكل نتائجها الاقتصادية والاجتماعية والديمجرافية. فالثورة الشعبية مقاومة شعبية للاستغلال والاستبداد والظلم الطبقى وقد تُحقق مكاسب كبيرة أو صغيرة، غير أنها بالبديهة لا تقوم وليس من شأنها أن تقوم بخلق مجتمع جديد لم توجد عناصره بعد. أما عندما يكتمل حمل مجتمع قديم بمجتمع جديد فلا حاجة إلى ولادة أو توليد أو داية لأن الجنين سيكون قد خرج بالفعل إلى النور.
6: وينطبق هذا على التاريخ كله الذى لا تحتاج عمليات انتقال المجتمع فيه إلى ثورات شعبية، ولا تؤدى ثوراته الشعبية إلى تحولات تاريخية للمجتمعات البشرية. وفى هذه العبارة المجنحة، يكون إثبات الجزء الثانى سهلا للغاية بحكم بديهيته. ففى حياة كل بلد أو شعب، مثل مصر والشعب المصرى، فى تاريخه الطويل مئات الثورات الشعبية ولكنه لم يشهد مئات التحولات التاريخية فى نمط الإنتاج الاجتماعى، فنحن نتحدث هنا، منطلقين من كارل ماركس، عن بضع أنماط أو نظم اجتماعية-اقتصادية هى المجتمع المشاعى القديم، والمجتمع العبودى، والمجتمع الإقطاعى، والمجتمع الرأسمالى، والمجتمع الشيوعى الذى لم تشهده البشرية بعد. وسار كل بلد أو شعب، من الناحية الجوهرية، فى نفس الطريق.
7: ولا شك فى أن الصراع الطبقى ماثل ليس فقط فى كل ثورة شعبية، فهو ماثل كذلك فى صميم الآليات الكبرى لكل تحول اجتماعى تاريخى. ورغم أن للصراع الطبقى دوره الكبير فى التحولات الاجتماعية التاريخية إلا أن العلاقات المتبادلة بين هذين الجانبين للتطور الاجتماعى قد تجعل كلًّا منهما سببا ونتيجة للآخر فى نفس الوقت. ولكن الصراع الطبقى هنا لا يتطابق مع الثورة الشعبية بل هناك تطور يؤدى إلى تحوُّل اجتماعى تاريخى فى قلب مجتمع خالٍ من الطبقات ومن الصراعات الطبقية هو المجتمع المشاعى القديم الذى أنجب المجتمع العبودى ( بشكليه العبودى والعبودى الآسيوى المعمَّم)، أو "الثورة" العبودية، وفقا للتعبير الماركسى.
8: وفيما وراء الصراعات الطبقية تؤدى القوانين التقنية التصاعدية إلى تطوير إنتاجية العمل التى تقف وراء التحولات الاجتماعية-السياسية التاريخية. وبصورة عامة تتواصل هذه القوانين التقنية التصاعدية بلا انقطاع ودون توقف، لتضيف المزيد من التحسين والصقل تلو التحسين والصقل على أدوات العمل والإنتاج بما يؤدى إلى التطوير الدائم لإنتاجية العمل بصورة تراكمية تؤدى على مدى طويل إلى التحول الاجتماعى-السياسى الشامل أىْ إلى ما يمكن أن يُسمَّى أيضا بالثورة الاجتماعية أو الثورة الاجتماعية-السياسية. وبفضل تطوُّر إنتاجية العمل يكون الاستغلال الاقتصادى ممكنا، ويكون خلق الفائض الاجتماعى ممكنا، ويكون ظهور الطبقات الاجتماعية ممكنا، ويكون التحول الاجتماعى-السياسى من نمط إنتاج اجتماعى إلى آخر ممكنا، ويكون الصراع الطبقى ممكنا مؤديا إلى مئات وآلاف الثورات الشعبية دون إحداث التحول من نمط إنتاج اجتماعى إلى آخر. والثورة الشعبية لحظة خاصة من الصراع الطبقى المتعدد المستويات التى تمثل كل ثورة شعبية ذروة من ذرواتها. وهناك مثال بارز لدور الصراع الطبقى فى التطور الاجتماعى-السياسى يتمثل فى أزمات فيض الإنتاج التى تؤدى إلى دورة اقتصادية جديدة وتركيب عضوى جديد لرأس المال، كما أن من شأن العمل على تفاديها تكبيل قوى الإنتاج فى المجتمع الرأسمالى.
9: وفيما كنتُ أتحدث ذات مرة مع صديق عزيز ومثقف كبير عن الثورة الاجتماعية بوصفها عملية تراكمية طويلة بطيئة على العكس من الثورة الشعبية الانفجارية المفاجئة، عبَّر عن اعتقاده أننى بهذا أجعل التاريخ كله ثورة، وبذلك أسمِّى كل تطور ثورة، وكان علىَّ أن من ناحيتى أن أوضِّح أن الثورة الطويلة البطيئة التى أتحدث عنها ليست كل التاريخ بل هى على وجه الدقة فترة التحول من نمط إنتاج اجتماعى إلى آخر.
10: وتعرف الدراسات الماركسية تمييزا بالغ الأهمية بين نوعين من الانتقال إلى الرأسمالية: الانتقال الفوقى الپروسى اليونكرى إلى الرأسمالية والانتقال "الديمقراطى" من أسفل إلى الرأسمالية. والپروسى أعلاه يشير إلى پروسيا فى شرق ألمانيا أما اليونكر فيشير طبقة النبلاء الإقطاعيين هناك، ويشير الانتقال الفوقى الپروسى اليونكرى طريقا سلكته ألمانيا إلى الرأسمالية انطلاقا من استثمارات هذه الطبقة فى القرن التاسع عشر، غير أن النموذج الأنقى لهذا الانتقال (كما فى الكتاب) يتمثل فى انتقال الياپان إلى الرأسمالية دون داية/قابلة/مولِّدة من الثورات الشعبية. أما الانتقال "الديمقراطى" من أسفل إلى الرأسمالية، وهو النموذج الأوسع انتشارا كما تحقق فى بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها فى الغرب، وحتى فى روسيا القيصرية، فإنه ينطلق من تطور الرأسمالية الصغيرة من أسفل فى أواخر العهود الإقطاعية. ولا يحتاج هذا النموذج أو ذاك للانتقال إلى الرأسمالية مطلقا إلى ثورة شعبية سلمية أو مسلَّحة.
11: وفيما وراء اختلاف الثورات الشعبية فى مدى اتساع نطاقها المكانى وامتدادها الزمانى ومدى نجاحها أو فشلها بالمعايير الملائمة لنجاح أو فشل ثورة شعبية، هناك تمييز يفرض نفسه بين ثورة شعبية وثورة شعبية أخرى: الثورة الشعبية الخالصة، أىْ تلك التى تحدث فى الأزمنة العادية المستقرة لنظام اجتماعى-اقتصادى، والثورة الشعبية التى تأتى فى سياق الانتقال إلى نمط إنتاج اجتماعى جديد. وتأتى الثورة الشعبية الخالصة فى سياق استقرار نظام اجتماعى نقىّ مستقر للعبودية (ثورة سپارتاكوس مثلا) أو العبودية الآسيوية/المعمَّمة (الثورات الاحتجاجية الداخلية والاستقلالية فى مصر القديمة مثلا)، أو الإقطاع (حرب الفلاحين فى ألمانيا مثلا فى القرن السادس عشر الميلادى) أو الإقطاع الآسيوى/المعمَّم (مثل الثورات الشعبية الاحتجاجية ضد الظلم الاجتماعى أو الاستقلالية، ومثل ثورة الپشموريين التى جمعت بين الثورة الاجتماعية والاستقلالية فى القرن التاسع الميلادى)، أو الرأسمالية (ثورة 1968) أو الرأسمالية المعمَّمة أو رأسمالية الدولة (ثورات 1989 فى روسيا وأوروپا الشرقية).
12: أما الثورة الشعبية فى سياق تحوُّل فى نمط الإنتاج الاجتماعى، وهى المسئولة فيما يبدو عن تصوُّر أن الانتقال إلى الرأسمالية يحتاج إلى داية/قابلة/مولِّدة، وعن تصوُّر أن الحديث عن التراكم الرأسمالى البدائى على أنه يعنى أنه سابق لثورة شعبية مثل ثورة 1789 الشعبية الفرنسية الكبرى مع أنه يعنى فقط أنه سابق لاكتمال تطور النظام الاجتماعى-الاقتصادى الرأسمالى، ولا ينبغى أن ينطوى على معنى أنه سابق للثورة الشعبية. على أن الثورة الشعبية فى سياق الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية أو بالتزامن أو التوازى أو بالتقاطع معه، مثل الثورات الشعبية الإنجليزية والأمريكية والفرنسية والبلشفية فإنها تختلف عن الثورات الشعبية فى مجتمع ليس فى حالة انتقال من نمط إلى آخر. ذلك أن الثورة الشعبية فى سياق الانتقال، مثل ثورة 1789 الفرنسية الشعبية، يمكن أن تكون قد حملت إلى الانتقال الجارى عوامل إيجابية وأخرى سلبية، عوامل ساعدت على إزالة عراقيل بعينها من طريق تطورها مثل بقايا الإقطاع والإقطاع الكنسى وبقايا القرون الوسطى وكذلك خلق بيئة ثورية تساعد على تركيز الجماهير الشعبية على تحقيق الديمقراطية الشعبية من أسفل المنتزعة خلالها، بالإضافة إلى ما تم انتزاعه منها قبل وبعد الثورة. غير أنها كانت تنطوى على عوامل سلبية ضد الجماهير الشعبية الفرنسية وغير الفرنسية مع تكثيف الاستغلال والاستبداد وبدء الحركة الاستعمارية فى إطار خلق إمپراطورية فرنسية واسعة فى أفريقيا وآسيا تتنافس مع الإمپراطورية البريطانية على نطاق الكوكب.
13: ويتألف نمط الإنتاج الاجتماعى عند ماركس من البنية التحتية المادية أو الأساس (من أسفل) والبنية الفوقية القانونية المؤسساتية (من أعلى). وقد يدفع هذا إلى تصوُّر مقابلة بين الانتقال من نمط إنتاج إلى آخر بوصفه البنية التحتية، وصانعها بالفعل، والثورة الشعبية بوصفها خالقة البنية الفوقية القانونية المؤسساتية. ومثل هذا التصوُّر خاطئ تماما لسبب بسيط وهو أن تحوُّل البنية الفوقية إنما يحدث كجزء لا يتجزأ من، ويدًا فى يدٍ مع، تحوُّل البنية التحتية المادية فى مجرى تحوُّل كامل نمط الإنتاج الاجتماعى-السياسى، أىْ ما يمكن أن يسمَّى بالثورة الاجتماعية أو الثورة الاجتماعية-السياسية. وعلى هذا النحو فإن نمط الإنتاج الاجتماعى أو النظام الاجتماعى-الاقتصادى كلٌّ شامل ناشئ بكل عناصره بصورة تراكمية متشابكة مندمجة بين ماهو مادى، وماهو سياسى، وما هو روحى. ولا يحول هذا دون إسهام الثورة الشعبية التى تأتى فى سياق تحوُّل اجتماعى-سياسى فى إجراء عدد من التحسينات والإصلاحات لقوانين ومؤسسات الدولة. ومهما يكن من شيء فإننا هنا إزاء مساريْن متمايزين منفصليْن لظاهرتين متمايزتين منفصلتين يمنح تقاطعهما فى فترة ما سمات تميِّز الثورة الشعبية فى سياق تحوُّل نمط الإنتاج الاجتماعى عن الثورة الشعبية فى سياق استقرار نمط الإنتاج الاجتماعى. ولهذين النوعين من الثورة الشعبية حدودهما الصارمة فى مجال التطور وينطوى كل منهما على النعمة والنقمة، على الحلم والكابوس.
25 أكتوبر 2014