استدراك بشأن الثورة الاجتماعية-السياسية والثورة الشعبية


خليل كلفت
2014 / 10 / 21 - 08:18     

1: لاحظتُ شيئا من الالتباس أحسّ به بعض قراء مقالاتى الأخيرة فيما يتعلق بالتمييز بين الثورة الاجتماعية-السياسية والثورة السياسية. والحقيقة أننى ظللتُ أتحدث منذ الثورة وحتى قبلها (فى مقدمتى لترجمتى لكتاب توكفيل: النظام القديم والثورة الفرنسية، الصادر عن المركز القومى للترجمة فى 2010) عن ضرورة التمييز بين الثورة الاجتماعية والثورة السياسية وكنتُ أقصد بالثورة السياسية ما أُطلق عليه الآن تسمية الثورة الشعبية، متوهِّما أن أعاصير ثورات الجماهير الشعبية ثورات سياسية، رغم تأكيدى أنها ليست ثورات اجتماعية، رأسمالية أو اشتراكية، وأنه ليس من شأنها تغيير النظام الاجتماعى القائم ولا نقل سلطة الدولة إلى قوى الثورة.
2: ونظرا إلى أننى اعتبرتُ ثورات ما يسمَّى بالربيع العربى ثورات سياسية على حين أنها لا تنقل سلطة الدولة من طبقة اجتماعية تنتمى إلى نمط إنتاج اجتماعى بعينه إلى طبقة اجتماعية تنتمى إلى نمط إنتاج اجتماعى آخر، أوضحتُ مرارا أن ثوراتنا ثورات سياسية عالم-ثالثية تدور فى غير سياق الثورة الاجتماعية فلا مجال لإحلال نمط إنتاج محل آخر، ولا لإحلال طبقة تنتمى إلى أحدهما إلى آخر، ولا لسلطة سياسية تنتقل من إحداها إلى أخرى. وكان هذا يعنى أن وصفها بالثورات لم يكن إلا لتمييزها عن الثورات الاجتماعية التى لم تحدث ولن تحدث عندنا فى مستقبل منظور.
3: ورغم أن هذا الالتباس المتمثل فى اعتبار ثوراتنا سياسية -جنبا إلى جنب مع اعتبارها ثورات شعبية- يرجع إلى التأثر بصياغات لكارل ماركس، إلا أن هذا لا يلغى مسئوليتى عن التأثر بتلك الصياغات بصورة غير نقدية كما ينبغى لكل ماركسى أن يفعل. وقد تمثل الالتباس الذى تنطوى عليه بعض صياغات ماركس فى نظره إلى ثورة 1789 الفرنسية العظمى على أنها ثورة اجتماعية وثورة سياسية فى آن معا، وفى تأكيده القوىّ على الفصل بينهما.
4: وقد استقرَّ عندى بعد معاناة طويلة أن التمييز الحقيقى يقوم بين الثورة الاجتماعية-السياسية من ناحية والثورة الشعبية من ناحية أخرى. ومع تكشُّف مفهوم الثورة الاجتماعية-السياسية باعتبار الاجتماعى والسياسى جانبين لعملية تراكمية طويلة بطيئة واحدة سابقة لقيام النظام الرأسمالى على أسس راسخة، تبيَّن أنه لا أساس للفصل بين الثورة الاجتماعية والثورة السياسية فهما مندمجتان فى نفس العملية الواحدة، وهذه التسمية نفسها اختصار لعملية أوسع من التحول تشتمل على ثورات تنويرية وعلمية تجريبية واجتماعية وجمالية وفنية وفلسفية. كذلك فإن هذه العملية الاجتماعية-السياسية لا تشتمل على ثورات أو انتفاضات أو هبَّات جماهيرية فى سياقها كعنصر ضرورى فى صميم عملية التحوُّل الرأسمالى؛ وإنْ كان لا يمكن استبعادها بصورة مطلقة كعنصر احتجاجى على الظلم الاجتماعى فى أىّ مرحلة من مراحل تطور هذه العملية.
5: ومع تكشُّف مفهوم الثورة الشعبية بوصفها انفجارا جماهيريا واسعا ممتدا لفترة قصيرة لا تتجاوز سنوات، احتجاجا على الظلم والقهر للمطالبة بإصلاحات اجتماعية واقتصادية وديمقراطية أو بالاستقلال الوطنى، فى حالة وجود احتلال استعمارى، تبيَّن أن هذه الثورات تتفجر فى ظل كل العبوديات الاجتماعية المتعاقبة: النظام العبودى الجريكو-رومانى أو المعمَّم، النظام الإقطاعى الأوروبى أو الشرقى، الرأسمالية المتقدمة أو التابعة. وبحكم طبيعتها الاحتجاجية الإصلاحية المحدَّدة، لا يمكن أن نتوقع تفجُّر مثل هذه الثورات إلا حيث تسود متلازمة الفقر والجهل والمرض، وهى مفاجئة دوما مهما كانت مقدماتها ملحوظة. وعلى هذا فإنه لا يمكن تصورها فى بلدان رأسمالية متقدمة اتخذ فيها النضال الاقتصادى والسياسى أشكالا منظمة مستقرة، وعندما تحدث فإن نطاقها يكون ضيقا ومحدودا وليس شاملا. على أن الثورات الاستقلالية السلمية (الهند، ثورة 1919 فى مصر) والمسلحة (الصين وفييتنام وكوريا؛ إلخ.) تحدث فى العالم الثالث، كما تحدث فى بلد رأسمالى متقدم كالاتحاد السوفييتى السابق أو الاتحاد اليوغسلافى السابق. ومن الأمثلة البارزة للثورات الشعبية، التى تحقق أو لا تحقق مكاسب دون الارتفاع إلى مستوى تغيير النظام الاجتماعى، ثورة الديمقراطية أو الانتفاضة الشعبية فى أثينا قبل ميلاد المسيح بأكثر قليلا من خمسة قرون، وحرب أو ثورة سبارتاكوس 71-73 قبل الميلاد، فى روما (فى ظل النظام العبودى الجريكو-رومانى)، وحرب الفلاحين فى ألمانيا 1524-1525 فى المناطق الناطقة بالألمانية فى أوروبا الوسطى، وقد ذُبح فيها مائة ألف من أصل ثلاثمائة ألف من الفلاحين والمزارعين، ولم تحقق تلك الثورة الشعبية التى كانت كبرى الثورات الشعبية قبل ثورة 1789 الشعبية الفرنسية الكبرى شيئا من أهدافها تقريبا (فى ظل النظام الإقطاعى الأوروبى)، أما ثورة 1789 الشعبية الفرنسية فتحتاج إلى مقال مستقل لبحث أسبابها ونتائجها (فى سياق مرحلة متقدمة من التشكل الرأسمالى).
6: وقد تنجح أو تفشل الثورات الشعبية. ونعرف نجاحها من فشلها بمعايير طبيعتها وما يمكنها تحقيقه وليس بمعايير ثورات توقعات وهمية. فقد تنجح فى إسقاط رؤساء أو ملوك أو أحزاب أو مجموعات أو قطاعات أو مجموعات طبقية حاكمة، وقد تنجح فى تحقيق حريات منتزعة من أسفل إذا لم تنحرف عن التركيز على تحقيقها، بل قد تنجح وفق حظوظ مواتية فى تحقيق إصلاحات ضخمة مثل التحرُّر الجارى فى مصر حاليًّا من الدولة الدينية الإخوانية، كما يمكن أن تنجح فى تحقيق الاستقلال الوطنى، ولكنْ فى حدود الاستقلال الدستورى وفقا للقانون الدولى، وليس مطلقا كتحرُّر من التبعية الاقتصادية الاستعمارية، أُمّ كل التبعيات الأخرى: السياسية، العسكرية، التكنولوجية، الثقافية؛ إلخ..
7: ومع أن الثورات الشعبية يمكن أن تنجح فى تحقيق أهدافها الحقيقية أىْ الملائمة لطبيعتها، فإنها لا يمكن مطلقا أن تنجح فى تحقيق أحلام وأهداف وغايات ثورة التوقعات الوهمية. حيث لا يمكنها إحلال نمط إنتاج اجتماعى محل آخر، ولا نقل سلطة الدولة من طبقة حاكمة لنمط إنتاج إلى أخرى. ولهذا فمن الممكن أن تتحقق مفارقة انتصار أو نجاح الثورة المضادة والثورة فى سياق ثورة شعبية، غير أن مجال انتصار أو نجاح هذه أو تلك مختلف تماما. فالثورة المضادة تنتصر بالضرورة فى مجال استعادة استقرارها، كما حدث عندنا، أما الثورة فقد تنتصر فى إقامة ديمقراطية شعبية منتزعة من أسفل فى حالة تركيز نضالها الثورى عليها بلا هوادة، وتفشل حينما تنحرف بعيدا عن هذا الهدف. ولهذا فإن انتصار الثورة المضادة ضرورى على حين أن انتصار أو إخفاق الثورة يكون أو لا يكون وفقا للمسار الثورى الفعلىّ. وقد لا تحدث هذه المفارقة عندما تدمر الحرب الأهلية النظام والشعب، فى سياق فوضى غير خلَّاقة.
8: وهنا تبرز مسألة دقيقة: الثورة الشعبية نعمة أم نقمة؟ ورغم أنه لا يجوز لأحد أن يلوم الجماهير على ثورتها ضد الظلم والقهر، لأن هذا الانفجار العفوى حق بديهى أصيل للشعوب، إلا أن الحساب الختامى للنتائج الفعلية لثورة تحيط بها أوضاع محدَّدة، مواتية أو غير مواتية، هو الذى يوضح ما إذا كانت ثورة بعينها نعمة أو نقمة. ويمكن القول إن ثورة 1789 الفرنسية الشعبية العظمى كانت نعمة ونقمة فى آن معا، وكانت ثورتنا الشعبية المصرية الراهنة نعمة حقا، رغم ويلات كابدها الشعب إلى الآن، ورغم مخاطر كبيرة ما تزال تُحدق بها، وكذلك الحال بالنسبة للثورة التونسية، أما الثورات الشعبية التى دمرت البلاد والعباد فى سوريا وليبيا واليمن فكانت نقمة خالصة بلا جدال. ولهذه النتيجة المأساوية أسباب وعوامل لعل أهمها ولاء الجيش والأجهزة المخابراتية والبوليسية لرئيس الجمهورية فى تلك البلدان. وليس المقصود أن الثورات الشعبية فى هذه البلدان هى المسئولة عن هذه المصائر، فالحديث يدور هنا عن صراعات معقدة متشابكة جعلت النتائج الفعلية نقمة مأساوية، ولا شك فى أن طبيعة جيوش هذه البلدان من حيث ولاؤها المطلق هى المسئولة عن إغراق قوى الثورة فى مستنقع قوى تشن، باسم الثورة على الديكتاتورية الحاكمة، حروبا بالوكالة تتواصل سواء استمر، أو تنحَّى، أو اختفى الديكتاتور. ولا يمكن مطلقا أن نتجاهل المسئولية الإجرامية المشينة للدول العربية (السعودية وقطر والإمارات وحزب الله اللبنانى) والإقليمية (إيران وتركيا) والعالمية (أمريكا وأوروبا وروسيا) عن تدمير شعوب وبلدان تلك الثورات الشعبية.
9: وتبقى مسألة مهمة مع أنها تتعلق بالتسميات وحدها لا غير. فكيف يمكن أن نُطلق تسمية واحدة وحيدة أىْ تسمية "الثورة" على ظاهرتين مختلفتين تماما: ظاهرة "عملية تحويل أسلوب الإنتاج الإقطاعىّ إلى أسلوب إنتاج رأسمالىّ"، وظاهرة "الثورة الشعبية"؟ وينبغى بالطبع فكّ هذا الاشتباك؛ فكيف يكون ذلك بعد تاريخ طويل من استخدام تسمية "الثورة" لهاتين الظاهرتين المتمايزتين تماما، لهاذين المسارين المختلفين تماما؟ وربما قدم تخصيص تسمية "عملية تحويل/تحوُّل نظام اجتماعى اقتصادى إلى آخر" للظاهرة الأولى، وتسمية "الثورة" للظاهرة الثانية، أىْ الثورة الشعبية، حلًّا، رغم التخلِّى الصعب على النفس عن التسمية الجميلة، أىْ الثورة بكل أصدائها، المرتبطة بقلْب المجتمع رأسا على عقب، بنقله إلى حضارة أحدث وأرقى. وقد يتمثل حلٌّ آخر فى تخصيص تسمية "ثورة" للظاهرة الأولى: "ثورة" عبودية، أو "ثورة" إقطاعية، أو "ثورة" رأسمالية، أو "ثورة" شيوعية، مع تخصيص تسميات مثل: الانتفاضة الشعبية أو الانفجار الشعبى أو العصيان الشعبى الشامل لما أسميه الآن بالثورة الشعبية، رغم التخلِّى الصعب على النفس عن التسمية الجميلة، أىْ الثورة، بكل أصدائها الجماهيرية المشهدية الهائلة الفريدة، التى تملأ الشوارع بكبرياء الشعوب وإصرارها النبيل على الانعتاق والتحرُّر!
21 أكتوبر 2014