هكذا تخرصتُ على ماركس : جوابي لسلام كبة


يعقوب ابراهامي
2014 / 10 / 13 - 16:28     

نشر السيد سلام ابراهيم كبة (نجل الدكتور ابراهيم كبة) سلسلةً من المقالات الممتعة في "الحوار المتمدن" عن والده الراحل تحت عنوان "عقد كامل على رحيل عالم اقتصادي متميز".
لم أقرأ المقالات في حينه. لكن زميلاً عزيزاً لفت نظري إلى جملةٍ تخصني وردت في إحدى مقالات السلسلة.
وهكذا كتب السيد سلام ابراهيم كبة في الحلقة رقم 14 من سلسلة مقالاته:
"يذكر ان الدكتور حسين علوان حسين كان يرد في دراسته القيمة هذه على يعقوب ابراهامي الذي وصف تبسيط الدكتور كبة اعلاه بالتشويه، وبعد ان تجاوز وتخرص كثيرا على ماركس نفسه!"
لا أعرف إذا كانت كلمة "كثيراً" في "تجاوز وتخرص كثيرا على ماركس نفسه " تنحصر فقط في "التخرص" على كارل ماركس أم إنها تشمل "التجاوز" عليه أيضاً. على كل حال واضحٌ أنني مُتَهمٌ (بوحي ربما من كتابات الدكتور حسين علوان حسين) بالتجاوز على كارل ماركس وبالتخرص عليه، إن كثيراً أو قليلاً. وأنا أريد أن أدافع عن نفسي تجاه هذه التهمة.
سأتطرق فيما بعد إلى "وصف تبسيط الدكتور كبة بالتشويه". أريد أن أبدأ ب"التخرص" على ماركس نفسه.
أنا أفترض طبعاً إن السيد سلام كبة يقيم وزناً للكلمات، يحترم الكلمة المكتوبة ولا يُلقي الكلام على عواهنه.
وفقاً لمعجم اللغة العربية - كلمة "تخرّص" تعني: أكذوبة، افتراء. يقول المعجم: التخرص هو ان تتبلى على احد او تقول عليه كلام كذب.
"تخرص يعقوب ابراهامي على كارل ماركس" تعني إذن باللغة العربية: إن يعقوب ابراهامي افترى على كارل ماركس وقال عليه كلام كذبٍ.
هل افتريتُ على كارل ماركس وقلتُ عليه كلام كذبٍ؟ متى واين؟
لا أعرف إذا كان السيد سلام كبة قد قرأ شيئاً مما كتبتُ أو إنه، في حكمه عليّ وإدانته لي، يعتمد كلياً على "الدراسة القيمة" التي أجراها الدكتور حسين علوان حسين. سلام كبة يشير إلى نقاشٍ جرى بيني وبين الدكتور حسين علوان حول موضوع "فائض القيمة" قبل أكثر من سنتين على صفحات "الحوار المتمدن". في هذا النقاش أصرّ الدكتور حسين علوان حسين، لأسبابٍ أجهلها (منها انقطاع التيار الكهربائي)، أن مصطلح Labour Power، الذي يستخدمه كارل ماركس في كتابته عن نظرية "فائض القيمة"، معناه "العمل" (أو "ساعات عمل") وأنا قلتُ له إن معناه "القوة على العمل" لا "العمل"، أي القوة على خلق ساعات عمل لا ساعات العمل نفسها. وقلتُ له أيضاً إن هذا هو أساس الخلاف بيننا في فهم نظرية كارل ماركس حول فائض القيمة، ومنه تنبع كل الخلافات الأخرى. لم نتفق. لكن أين هو الإفتراء على كارل ماركس؟ أين هو "التخرص" على كارل ماركس؟ أنا أطالب السيد سلام إبراهيم كبة أن يشرح ذلك. وضِّح واشرح.

ننتقل إلى التهمة الثانية.
التهمة تقول: يعقوب ابراهامي تجاوز على ماركس نفسه! (علامة التعجب هي جزء لا يتجزأ من التهمة نفسها).
لا أعرف ماذا يقصد سلام كبة بالضبط بعبارة "تجاوز على ماركس نفسه!". لديّ كل الأسباب التي تدعوني إلى الإعتقاد أنه هو نفسه لا يعرف على وجه الدقة ما المقصود بذلك. على كل حال إليكم ما جمعته من معاني كلمة "تجاوز" في اللغة العربية مما قد يناسب المقام والمقال:
تجاوز القانون : خالفه ، خرج عليه ولم يتقيّد به
تجاوز الضّوءَ الأحمرَ : مرّ دون التوقّف عنده
تجاوز حدودَه : خرج على الأعراف والتّقاليد
تجاوز سلطاته : تصرّف خارج السُّلطة الممنوحة له
تجاوزَ على القانون : تعدَّاه وخرجَ عليه
تجاوزَ في الأمور : أفرط فيها. تجاوز في اللعب حتى أهمل واجباته
عزيزي سلام كبة: أيٌّ من هذه التعاريف ينطبق عليّ؟

ليس سراً طبعاً أنني لا "أؤمن" بالماركسية كما "يؤمن" رجل الدين بكتابه المقدس. أنا لستُ ملزماً بالدفاع عن كل كلمة كتبها كارل ماركس في حياته. هل هذا "تجاوزٌ" على كارل ماركس؟
الماركسية في نظري هي مجموعة من الأفكار والنظريات والفرضيات (والأحلام) عن المجتمع والتاريخ البشري. وهي إضافة إلى ذلك (وأهم من ذلك) اسلوب في التفكير ودليل للعمل من أجل مستقبلٍ أفضل.
أجزاء كثيرة من الأفكار الماركسية لا زالت تحتفظ بصحتها وحيويتها (الزميل طلال الربيعي يحب أن يقول: لم تشخ)، إلى جانب أجزاءٍ أخرى فقدت صحتها أو بطل مفعولها.
ليس سراً مثلاً أنني أعتقد إن نظرية "فائض القيمة" التي وضعها كارل ماركس في عصر "الطاحونة البخارية" يجب أن يُعاد النظر فيها (أو تُستبدل بنظرية أخرى) في عصر "الطاحونة الروبوتية" (وشكراً لعلاء الصفار). كل محاولات الزميل جاسم الزيرجاوي لإقناعي بتغيير موقفي هذا لم تجدِ نفعاً حتى الآن.
ليس سراً أيضاً أنني أعتقد إن الجملة الشهيرة التي استهل بها كارل ماركس وفريدرك أنجلز "البيان الشيوعي"، وهي: "إن تاريخ المجتمعات حتى الآن ما هو إلاّ تاريخ صراعاتٍ طبقية"، لا تصمد أمام أبسط نقدٍ تاريخي. وأنا غير مقتنعٍ بالفكرة القائلة إن هذا الصراع قد ينتهي أحياناً ب"انهيار كل الطبقات المتصارعة". متى حدث ذلك؟ متى انهارت كل الطبقات المتصارعة؟ وماذا بقى بعد انهيارها؟ (وبالمناسبة: لا أعرف لماذا كل الترجمات العربية ل"البيان الشيوعي" تتحدث عن "انهيار الطبقتين المتصارعتين" لا عن "انهيار الطبقات المتصارعة"، رغم أن النص الإنكليزي ل"البيان الشيوعي" يتحدث عن The common ruin of the contending classes لا عن the two contending classes أو both contending classes. هل هذا الخطأ في الترجمة هو الذي أوحى لمكتشف "قانون فناء الضدين" باسمه فأطلق عليه اسم "فناء الضدين" بدل "فناء الأضداد"؟).

كذلك لم أخفِ أبداً إعتقادي الراسخ إن مجتمعاً شيوعياً يقوم على أساس "من كل حسب طاقته ولكلٍ حسب حاجته"، الذي يُقال إن كارل ماركس قد وعدنا به، هو حلمٌ (وبالنسبة لي: كابوسٌ - لكن هذا موضوعٌ آخر) لن يتحقق في يومٍ من الأيام (لا على كوكبنا الأرضي هذا على الأقل). هذه خرافة لا تقل وهماً عن "افيون الشعوب".

إذا كان هذا هو ما يقصده سلام ابراهيم كبة ب"التجاوز" على كارل ماركس – فأنا أعترف بالجريمة.
أما إذا كان يقصد غير ذلك فإن عليه (بل أنا أطالبه) أن يشرح لي وللقراء ما الذي يقصده. وضِّح واشرح.

كارل ماركس لم يأخذ بنظر الإعتبار قدرة الرإسمالية على التكيف للتغيرات – يقول سين ماك إيلفي، في موقعه على الإنترنيت، في مقالٍ ممتع عن "هذا المفكر الإنساني للغاية" (وشكراً للزميل طلال الربيعي) – ولم يطرح الكثير من البديلات. فكانت النتيجة أن القتلة والحمقى ملئوا الفراغ الذي تركه كارل ماركس.

كنتُ أريد أن أكتفي بهذا القدر لكنني أرى لزاماً علي أن أعلق على "يعقوب ابراهامي الذي وصف تبسيط الدكتور كبة أعلاه (أي تبسيطه لنظرية فائض القيمة) بالتشويه". أنا أرى هذا لزاماً عليّ إن لم يكن لسببٍ آخر فعلى الأقل احتراماً لذكرى الدكتورالعراقي الراحل ابراهيم كبة.
أولاً أريد أن أسجل إن السيد سلام كبة، الذي كتب بتفصيل كبيرعن كل شاردة وواردة تتعلق بمسيرة وحياة والده الدكتور ابراهيم كبة، في سلسلة مقالاتٍ بلغت خمسة عشر حلقةً حتى الآن، كان يستطيع أن يضيف، للحقيقة والتاريخ، خمس كلمات فقط للجملة موضوعة البحث بحيث تصبح كما يلي: "يعقوب ابراهامي الذي وصف تبسيط الدكتور كبة أعلاه بالتشويه ثم تراجع عن وصفه هذا". سلام كبة لم ير من الضروري أن يفعل ذلك رغم أن كل المواد كانت متوفرة لديه.
النقاش الذي احتدم بيني وبين الدكتور حسين علوان حسين دار، كما ذكرتُ سابقاً، حول نظرية كارل ماركس في "فائض القيمة" أو "القيمة الزائدة". رأيي كان (ولا زال طبعاً) إن ربح الرإسمالي، وبالتالي استغلال العامل، وفقاً للنظرية الماركسية، لا ينبع من سرقة الرإسمالي لقوة عمل العامل بل ينبع من طبيعة علاقات الإنتاج الرإسمالية نفسها. كل الأساس النظري ل"فائض القيمة" مبني على أساس أن الرإسمالي يربح (أي يستغل العامل) حتى في الحالة التي يدفع فيها صاحب العمل للعامل كامل قيمة قوة عمله. هذه ليست قضية أخلاقية (سرقة أو جشع أوما يشابه ذلك) بل قضية علاقات الإنتاج الرإسمالية نفسها. هذا في نظري هو كل المغزى الثوري لنظرية فائض القيمة. بدونه تفقد النظرية كل قيمتها وليس "فائض قيمتها" فقط. كارل ماركس يقول للعمال: إن المصدر الوحيد لربح صاحب العمل هو عملكم أنتم وصاحب العمل يربح على حسابكم (أي يستغلكم) حتى عندما يدفع لكم، بشكل إجور، كامل قيمة قوة عملكم.

(إنظروا كيف جند الدكتور حسين علوان حسين ضدي كل شهداء ومناضلي الحركة الشيوعية والعمالية العالمية، من روزا لكسمبورغ وكارل ليبكنخت إلى الرفيق فهد وسلام عادل، مروراً بإيرنست تلمان وأبو العيس و"غيرهم من الأساطين"، وكل ذلك لأنني قلتُ إن "السرقة" ليست مفهوماً إقتصادياً ماركسياً. أنا الآن أنظر إلى كل ذلك النقاش بضوءٍ آخر تماماً وأعتبره نقاشاً قد يكون ممتعاً لكنه نقاشٌ عبثيٌ لا طائل من ورائه، لاسيما على خلفية مجتمعاتٍ متأخرة تكاد تبلغ البطالة فيها 50% وهي تعاني لا من "فائض القيمة" بل من "إنعدام القيمة". وهكذا كتب حسين علوان حسين مدافعاً عن "فائض القيمة" ضد مسلفيها:
"ما دواعي وجود الحركة الشيوعية في العالم أجمع أصلاً إذا كانت " كل نظرية كارل ماركس في فائض القيمة مبنية على كون الرأسمالي لا يسرق شيئاً من العامل الأجير لديه" مثلما يكتشف يعقوب إبراهامي في آخر زمن ، و إذا كانت "العلاقة بين الرأسمالي والعامل هي علاقة تبادل سلع بقيمتها الحقيقية " ؟ من أين ليعقوب إبراهامي بكل هذه التخرصات بحق عمنا المسكين ماركس و التي تشخصه كمفكر رأسمالي الهوى و ليس شيوعياً للنخاع ! ثم هل ملايين الشيوعيين الذين أمضوا زهرة شبابهم في سجون الطغاة (و منهم الشيوعي العراقي يعقوب إبراهامي نفسه ) و ملايين شهداء الحركة الشيوعية العالمية الذين جادوا بأنفسهم أقصى غاية الجود كانوا كلهم أغبياء و مغفلين مخدوعين لا يفقهون الماركسية ، و كان نضالهم كان عبثاً و عبطاً لكونهم لا يمتلكون عقلية واعية مثل عقلية يعقوب إبراهامي لكي يفهموا ماركس و جوهر النضال الشريف لتحقيق الهدف النبيل المشروع لإنعتاق البشرية كلها من الإستغلال بإقامة الشيوعية ؟ هل يعقوب إبراهامي أفهم بالماركسية من الشهداء روزا لكسمبورغ و كارل ليبكنخت و غرامشي و أيرنست تلمان و غيرهم من الأساطين ؟ ماذا عن شهداء الحزب الشيوعي العراقي و عددهم بالآلاف و منهم فهد و صارم و حازم و ساسون دلال و سلام عادل و أبو العيس و الحيدري و العبلي و و و ؟ هل عاد ماركس للحياة على غفلة من ملايين الشيوعيين في العالم ، و لم يختر سوى الماركسي النحرير يعقوب إبراهامي ، فنفخ في صدره وحده بنص جديد لـ "رأس المال" يلقيه على مسامعنا على غرار الناسخ؟" – انتهى خطاب الدكتور حسين علوان.
وأنا كل ما أردتُ أن أقوله هو إن استغلال العامل وفقاً للمفهوم الماركسي هو عملية اجتماعية نابعة من علاقات الإنتاج الرإسمالية نفسها وليست عملية سرقة وفقاً للمعنى القانوني لكلمة "سرقة". أنا أقرأ هذا الكم الهائل من الكلام مرةً ثانية وثالثة ورابعة ولا أفهم حتى الآن، بعد مرور أكثر من سنتين، ماذا أراد مني حسين علوان ولماذا انهال عليَ بكل هذه الضربات الثوروية والشعارات الفارغة من كل معنى. ماذا جنيتُ وأي ذنبٍ اقترفتُ؟).

الغلطة التي ارتكبتها هي أنني ذهبتُ (كعادتي أحياناً) خطوة واحدة أكثر من اللازم. قلتُ إن السرقة ليست مفهوماً اقتصادياً ماركسياً (وهذا صحيح طبعاً) لكنني أضفتُ (وهنا كان الخطأ) انني لا أعتقد إن ماركس استخدم تعبير "سرقة" الرإسمالي لقوة عمل العامل في أيٍ من كتاباته وإن من يحاول أن يفسر "فائض القيمة" بأنها سرقة (كما فهمتُ من شرح الدكتور ابراهيم كبة) يشوه النظرية.
عندما واجهني حسين علوان بالحقيقة وهي إن ماركس استخدم حقاً تعبير "السرقة" في كتاب "رأس المال" كتبتُ له ما يلي:
"سأحاول أن أجيبك بالتفصيل بعد أن أقرأ ثانية الفصل المشار إليه من كتاب رأس المال. الآن أريد أن اسجل بسرعة الملاحظات التالية: 1. كان خطأً من جانبي أن أقول أن ماركس لم يستخدم كلمة سرقة أبداً. ربما كان هذا خطأً في التعبير أكثر مما هو خطأ في الفكرة نفسها
2. ما أردت أن أقوله هو أن ربح الرأسمالي (وفقاً لنظريه فائض القيمة) لا يأتي من سرقة الرأسمالي للعامل بل يأتي من طبيعة نظام تبادل السلع في النظام الرأسمالي
3. الرأسمالي يربح (وربحه ينبع من فائض القيمة) حتى إذا دفع للعامل كامل قيمة قوة عمله (أي لم يسرقه) وفقاً لقوانين تبادل السلع المتفق عليها في المجتمع الرأسمالي. الرأسمالي يربح أكثر كلما أطال يوم العمل أي كلما سرق العامل
4. أعتقد أن ماركس يتكلم في هذه الفقرة من وجهة نظر العامل نفسه إلى هذه العملية وهو يرى فيها سرقة. أنا تكلمت من وجهة نظر قوانين تبادل السلع
5. على كل حال كان من الخطأ (كما قلت) التأكيد على أن ماركس لم يستخدم تعبير سرقة البرجوازي لقوة عمل العامل الأجير لديه. على ضوء هذا يبدو شرح (تبسيط) الدكتور ابراهيم كبة لنظرية فائض القيمة معقولة (وعبقرية) أكثر مما رأيتها في الوهلة الأولى ".
والخلاصة عزيزي سلام كبة: شرح والدك الراحل الدكتور ابراهيم كبة لنظرية "فائض القيمة" ليس فقط أنه لا يشوه النظرية بل إنه شرحٌ عبقريٌ لها. هذا هو رأيي الآن.