محاور الخلاف في الحركة الاشتراكية الروسية (الجزء الثاني)


جاسم ألصفار
2014 / 10 / 11 - 23:41     

محاور الخلاف في الحركة الاشتراكية الروسية
(الجزء الثاني)
الدكتور جاسم الصفار
11/10/2014
اعتبر لينين، منذ انفضاض اعمال المؤتمر الثاني للحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي، ان افكاره نابعة من صلب البروليتاريا وان انداده (المناشفة) لا يمثلون في افكارهم سوى " النزعة الذاتية للمثقف البرجوازي". ورغم عزلته الحزبية، بعد مغادرته لهيئة تحرير"للشرارة" فان لينين بقى امينا للتوجه الفكري والسياسي الذي مثله. وفي اطار مسعاه لبلورة تيار منظم ومتميز داخل الحزب، دعا لينين 22 من اقرب انصاره للاجتماع في جنيف في اب/اوغسطس عام 1904 لتشكيل هيئة حزبية تدير شؤون البلاشفة في الحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي. وفي نهاية عام 1904 خطا لينين خطوة اخرى واسعة نحو الانشقاق بإصداره صحيفة غير خاضعة لقيادة الحزب، اسماها "الى الامام"، لتكون ناطقا رسميا باسم البلاشفة، تنشر افكارهم وسياستهم، ليقطع الطريق على أي محاولة للتقارب مع المناشفة يكون ثمنها تراجعا عن بعض من افكاره. ودعى لينين، في ذات المسعى، بإصرار في مراسلاته الحزبية مع انصاره بالعمل دون كلل من اجل تحقيق الانشقاق التام عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي. وفي هذا السياق، شن البلاشفة حملة تشويه اعلامية لاندادهم، ووسعوا من استخدامهم لمصطلح (مناشفة) كتهمة او شتيمة تلصق بمخالفيهم الفكريين والسياسيين داخل الحزب بهدف عزلهم وتحقيرهم في الشارع الروسي اليساري الهوى.
وفي عام 1905 عقد البلاشفة مؤتمر خاص بهم في لندن، دون موافقة اللجنة المركزية للحزب التي كانت تهيء في ذلك الوقت لعقد مؤتمر للحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي في جنيف. فكان مؤتمر لندن عن حق، مؤتمر للأقلية الحزبية المعارضة لسياسة الحزب، وخطوة متقدمة في طريق الانشقاق.
واذا كانت الماركسية، كعلم اقتصادي اجتماعي وسياسي يدرس قوانين تطور المجتمعات، تفترض الانتقال الواعي من التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية الرأسمالية الى التشكيلة الاشتراكية. فإنها لا تحدد اسلوب التغيير بالعنف، بل وتجيز لهذا التحول ان يكون سلميا بشرط ان يساهم النشاط السياسي والاجتماعي للقوى الطليعية في المجتمع في تهيئة اشتراطاته كما اشار الى ذلك انجلز عام 1891، في معرض شرحه لأفكار ماركس في "نقد برنامج إيرفورت". ومن هنا، فان البلاشفة، من وجهة نظر المناشفة، قد تجاوزوا الفهم الماركسي لفعل قوانين التطور الاقتصادي الاجتماعي وتمسكوا بفهما احاديا لوسيلة التغيير، معتمدين التغيير الثوري العنفي للنظام السياسي القائم ومضيفين الى ذلك تجاوزا فكريا اكبر، بافتراضهم امكانية انجاز مهام التحول في التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية دون الحاجة لنضج اشتراطات وعوامل هذا التحول. لتكون الثورة السياسية العنفية، وفقا لذلك، وحدها عصا سحرية يتم بواسطتها تجاوز قوانين التطور الموضوعية التي تشكل اساس العلم الماركسي. هذا، بينما اعتمد المناشفة، العمل الجماهيري الواعي، الذي يفترض ان يكون عاملا مسرعا لتراكم اشتراطات التحول ونضج اسبابه، اساسا لفكرهم السياسي.
وبالتالي فان الموضوع الاهم في الخلاف بين المناشفة والبلاشفة هو ان الهدف المرحلي لنضال المناشفة قد اتجه صوب التغيير في روسيا لصالح البرجوازية الديمقراطية وانجاز مرحلة التطور الرأسمالي بقيادتها وتهيئة الاشتراطات اللازمة للتحول نحو الاشتراكية فيما بعد في ظل نظام اقتصادي اجتماعي تقوى فيه البروليتاريا ويشتد عودها ويترسخ وعيها الطبقي لتكون بصدق بعدئذ "حفار لقبر الرأسمالية"، اما البلاشفة فقد اختاروا ان يكون هدفهم الثورة الاشتراكية التي تتبنى انجاز مهام مرحلة التطور الرأسمالي في روسيا والانتقال الى الاشتراكية بقيادة البروليتاريا وحزبها الطليعي.
ولم يكن المناشفة في آرائهم تلك معزولين عن مسار تطور الفكر الاشتراكي الاوربي، لا بل انهم كانوا جزء من الفكر الاشتراكي الاوربي والاقرب الى فكر كارل ماركس. ولكنهم في نفس الوقت لم يحصلوا على نفس القدر من التعاطف بين احزاب المعارضة في روسيا، فالشعبويين الذين تصدى لفكرهم مرارا بليخانوف كانوا يرون مثل البلاشفة ان لروسيا خصوصيتها وانها يجب ان تتجنب المرور بالمرحلة الرأسمالية. اما على الصعيد العمالي فان المناشفة كانوا يحضون بدعم العمال المهرة في الصناعات الكبرى كعمال الحديد والصلب وعمال المطابع وسكك الحديد في المدن الروسية الجنوبية التي تتمركز فيها الصناعات الكبرى بينما ايد البلاشفة اغلب العمال غير المهرة العاملين في كبريات المصانع الثقيلة التقليدية غير المتطورة تقنيا في بيتربورغ وعمال النسيج في موسكو وبيتربورغ كما سيطر المناشفة على اغلب النقابات العمالية. وتجاوزا لهذا الواقع، اعتبر لينين ان طروحات المناشفة موجهة ليس للعمال المهرة الصناعيين، بل للفئات الدنيا من الطبقة العاملة، لأن الاصلاحات الاقتصادية في جسد النظام الرأسمالي، كما يرى ويتوقع لينين، سوف لا تعني سوى فئات دنيا غير مؤثرة في التشكيلة الاجتماعية للنظام الرأسمالي.
على ان هذا الافتراض وما بناه عليه من توقعات لموقف الطبقة العاملة وطموحاتها في النظام الرأسمالي لم تكن تعكس واقع الحال في اوربا الغربية ولا تجربتها، فمع تطور الرأسمالية في انكلترا منذ القرن التاسع عشر وطليعة العمال الانكليز في "تريد يونيون" كانت تتفاعل مع المطالب الاقتصادية في نضالاتها اليومية اكثر بكثير من تفاعلها مع المطالب السياسية. وحتى العمال المهرة الصناعيين في روسيا، نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كانوا اكثر تفهما لشعارات النضال من اجل تحسين وضعهم الاقتصادي، ولم يتجاوبوا الا بصعوبة مع الشعارات السياسية الثورية. بينما العمال غير المهرة والعاملين باجر يومي وغيرهم من الشغيلة الذين كانوا يعملون في ظروف اسوأ بكثير من ادنى فئات العمال الاوربيين الغربيين والذين يصدق فيهم قول ماركس، بان "ليس لديهم ما يفقدونه غير قيودهم"، كانوا اكثر تقبلا لشعارات التغيير الثوري التي كان يرفعها البلاشفة، ويرون فيها سبيلا وحيدا لتحسين وضعهم الاقتصادي.
للفكر قوة هائلة في تأثيره على حركة المجتمع، وهذا ما لم تدركه على ما يبدو الحركة الاشتراكية في روسيا، فوحدها الشعارات المبكرة للثورة الاشتراكية في روسيا كان من شأنها فل عزيمة البرجوازية الروسية، الناشئة والضعيفة، للمشاركة في ثورتي 1905 و 1917 . فعدم وضوح الموقف من الثورة البرجوازية الديمقراطية والتهديد بمرحليتها، اي بوصفها على انها مرحلة مؤقتة، والمناداة بتجاوزها، قلل كثيرا من حماس البرجوازية الروسية في التحالف مع قوى التغيير الثوري للإطاحة بالنظام القيصري القائم آنذاك. وان كان في ذلك تقصير من قبل المناشفة فانه خطأ تكتيكي كبير من قبل البلاشفة.
وعموما، فان مسار التطور التاريخي للمجتمعات حتى بداية القرن الواحد والعشرين قد تجاوز ليس فقط افكار البلاشفة والمناشفة، بل وتجاوز الكثير من افكار معلمي الاشتراكية الاوائل. فالافتراض بان الصراع الطبقي سيحتدم مع تطور الرأسمالية بحيث يجعل من الثورة او التغيير الثوري نتيجة حتمية لهذا التطور، لم يتحقق حتى يومنا هذا. فالأنظمة الرأسمالية المتطورة اليوم هي منظومة مستقرة وشائكة من العلاقات المالية والمادية المحمية بقوانين تنظم مصالح جميع طبقات وفئات المجتمع المختلفة. بينما كانت النظم الرأسمالية الاكثر عرضة للتغيير الثوري هي النظم الرأسمالية الضعيفة التطور من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
ختاما، فان الحياة كما نردد عادة، خضراء اما النظرية فرمادية وان من يريد تغيير الحياة وفق نظرية ما، مهما كانت عظمة هذه النظرية سوف لا يضيف الى التاريخ سوى تجارب محبطة تعطل امكانيات التطوير الواعي الجماهيري للمجتمعات والتقدم صوب مجتمع الاشتراكية المنشود عبر مجتمع الرفاه الاقتصادي والحريات الاجتماعية والفردية الواسعة على قاعدة العدالة الاجتماعية. اما التراث الفكري للاشتراكية وفي مقدمته افكار كارل ماركس العملاقة فإنها تبقى صالحة وضرورية كمنصة انطلاق لفهم حركة التاريخ، لا كنهاية مطاف في الفكر الاشتراكي.