نهايات الاتحاد السوفياتي العديدة


ياسين الحاج صالح
2002 / 12 / 14 - 03:52     

 

أخبار الشرق - 13 كانون الأول 2002

بات من المعتاد أن تمر ذكرى انفراط عقد الاتحاد السوفياتي رسمياً دون أن تلفت الانتباه المستحق، وكأن الأمر لا يتعلق بواحد من أهم الأحداث التاريخية في القرن العشرين. يستمد هذا الحدث أهميته العظمى من قيمته التفسيرية للأوضاع العالمية الراهنة التي نشأت بكيفية مباشرة عنه، إضافة إلى الدروس المستقبلية التي يمكن الإفادة منها إن كنا من المعنيين بعالم إنساني متصالح مع ذاته ومكون من فاعلين أخلاقيين أحرار. وليس أقل دواعي الاهتمام به هو أن عدداً غير قليل من الدول العربية لا تزال تستند إلى نموذج إلى النظام الاجتماعي المستلهم من المثال السوفياتي إلى حد بعيد رغم التباين أو حتى العداء العقدي.

تلتقي في تاريخ 9/12/1991 ثلاثة أشياء مختلفة قلما نال التمييز بينها اهتمام المحللين. الشيء الأول والذي حظي بالاهتمام الأكبر هو انتهاء الحرب الباردة بهزيمة أحد القطبين الدوليين أو ما كان يسمى إحدى القوتين العظميين، وانتصار القوة العظمى الأخرى الذي دشن نظام القطب الأوحد الذي نعيش في ظله اليوم. الشيء الثاني هو انهيار دولة ذات سلطة إمبراطورية وتفككها إلى 16 دولة واستمرار دينامية التفكك مهددة روسيا، الوريث الأكبر للإمبراطورية. أما الشيء الثالث فهو سقوط مشروع تاريخي كبير للتحرر الإنساني والمساواة بين بني البشر، أو تدشين ملكوت الحرية حسب عبارات ماركس النبوئية وذات الرنين الطوباوي.

ثلاثة أحداث كبرى متداخلة إذاً: هزيمة قطب دولي، انهيار دولة كبرى، إخفاق تطلع للتحرر والعدالة وتآكل القيمة المعنوية لأيديولوجيته، إن لم نقل لشرعية قيم المساواة والثورة على الاستغلال والقهر التي نادى بها. هذا التمييز المفهومي مفيد من أجل التغلغل في ظاهرة مركبة بهدف فهمها، أو تفريقها بهدف السيادة عليها واستيعابها عقلياً. لكن ألا يخفي هذا التمييز طبيعته التحليلية فيحجب عنا حقيقة أن الدولة السوفياتية هي حامل القطب الدولي من ناحية والمشروع التاريخي من ناحية أخرى، وهذا يعني أن علينا أن نبحث عن جذور هزيمة القطب وسقوط المشروع في انهيار الدولة الحامل. سنخصص هذا المقال التمهيدي للتدقيق في هذا التمييز ولاستعراض سريع للنظريات التفسيرية الأهم لسقوط الاتحاد السوفياتي، على أمل أن نتناول كل هذه النظريات بقدر من التفصيل في مقالات مستقلة.

لماذا انهار الاتحاد السوفياتي؟
هناك ثلاثة نظريات أساسية متداولة لتفسير هذا السقوط. تركز النظرية الأولى (وسنسميها نظرية العوامل الخارجية) على ما تعرض له الاتحاد السوفياتي من مقاطعة اقتصادية وتقنية من قبل دول الغرب المصنعة واستنزاف موارده في سباق تسلح مرهق، فضلا عن جره إلى حروب وكالة في مناطق متعددة من العالم. بينما ترى النظرية الثانية (النظرية الاقتصادية) أن العوامل الحاسمة في السقوط هي التشوه العميق لنموذج التنمية السوفياتي سواء من حيث سوء تخصيصه للموارد (التركيز على التصنيع الثقيل وإهمال الزراعة ..) أو من حيث اهتمامه بالبنيان لا بالإنسان، وبهذا يكون الاتحاد السوفياتي قد انهار لأنه فشل في المهمة التي نذر نفسه لها، أي تحرير القوى المنتجة أكثر مما في البلدان الرأسمالية المنافسة. أما النظرية الثالثة (النظرية الديمقراطية) فترى أن السر في تداعي الاتحاد السوفياتي يعود إلى غياب الديمقراطية في نظامه ومصادرة الحريات السياسية لمواطني الدولة عبر تجريدهم من صفتهم ككائنات سياسية.

ويمكن أن نضيف نظرية رابعة قد تكون الأكثر تداولاً، لكنها الأكثر عامية أيضاً وخلواً من القيمة العلمية. ترى هذه النظرية أن الاتحاد السوفياتي سقط بسبب سوء عقيدته الرسمية التي تتصف من وجهة نظر هذه النظرية بأنها شريرة (ملحدة أو استبدادية مضادة للحرية أو عدوانية حسب تفضيلات مطلقي هذه الأحكام) ومعادية للطبيعة الإنسانية. من الواضح أن هذه النظرية تصادر على أن المصير التاريخي للنظم السياسية مرهون بمضمون دعاواها العقدية التي تقدم لنا صورة صادقة عن هذه النظم وعلاقاتها وتطورها التاريخي. بعبارة أخرى إن حقيقة هذه النظم وتاريخها موجودان في عقائدها التي يكفي الاطلاع عليها لمعرفة مستقبل ومصير النظم المهتدية بها. فيما عدا أن هذه النظرية تبالغ في وزن العوامل الأيديولوجية فإنها تستسلم لوهم سائر الأيديولوجيات عن نفسها، أعني أنها شاهد عدل على التاريخ، بل صانعة التاريخ ومولدته. لا شيء في التاريخ القديم والحديث يؤكد صواب أيديولوجية المنتصرين هذه التي تحابي نفسها حين تتصور التاريخ حكما عادلا بين العقائد ونظم الفكر.

نعود إلى التمييز الذي ابتدأنا به المقال بين الاتحاد السوفياتي القطب والدولة والمثال المساواتي التحرري. بقليل من التفكير نجد أن مثال "ملكوت الحرية" الموعود لم يسقط في عام 1991، بل وقد نرى أنه لم يوجد في يوم من الأيام إلا كحماسة ومثال في السنوات الأولى التالية لثورة أكتوبر عام 1917. وإذا كان قد بقي التوهم ببقائه على قيد الحياة حتى وقت متأخر من القرن العشرين فلأنه كان قد تحول إلى القيام بوظيفة أخرى هي إضفاء الشرعية على الدولة السوفياتية وعلى سلطة النخبة العسكرية والحزبية الحاكمة لها، وقد كانت أشبه بطبقة من الإقطاع العسكري، فضلا عن تأمين رسالة سامية للتنظيمات الشيوعية المنتشرة في معظم بلاد العالم. لا نريد من ذلك الإيحاء بأن الأمر يتعلق بتدليس واع، وخاصة بالنسبة للأحزاب الشيوعية التي ظلت في المعارضة ولم تستفد يوماً من مكاسب السلطة ومفاسدها. فالحقيقة أن الإيمان بالمثال الشيوعي قد ألهم الملايين في شتى أنحاء العالم ودفعهم إلى تضحيات كبرى تتعارض - وهنا المفارقة المؤسية - تعارضاً تاماً مع النزعة المحافظة العميقة والكلبية (الاستهتار بالقيم والتكالب على المتع والملذات) وانعدام العقلانية السياسية والاقتصادية الذي أظهرته الأطقم الشيوعية الحاكمة في كل مكان تقريباً.

السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: لماذا لم يجر أحد هذا التمييز الذي يبدو بدهياً؟ السبب بسيط، وهو لا يتعلق بنقص في المعطيات الموثوقة ولا بعدم توفر أدوات تحليلية مناسبة. فبالنسبة لأنصار التوجه السوفياتي يستحيل التمييز بين هذين الوجهين، المثال الشيوعي والدولة الشيوعية، لأنهم يستمدون وعيهم الذاتي وشرعية دورهم التاريخي المفترض من التوحيد بينهما. إنهم لا يستطيعون الجمع بين إجراء هذا التفريق والحفاظ على هويتهم وإيمانهم. ولا مصلحة لخصوم هذا التوجه الذين لا تعوزهم الأغراض أيضاً في التمييز بين الدولة السوفياتية والنسخ المماثلة لها وبين المثال المساواتي التحرري لأنهم بدورهم يريدون المماهاة والتوحيد بين سلطة استبدادية محافظة ونظامها الاجتماعي اللاعقلاني والمولد للاغتراب العام وأيديولوجيتها الغثة وبين أي تطلع للتحرر الإنساني والمساواة بين بني البشر. يريد الأنصار التوحيد بين مختلفين لتكريمهما معاً، بينما يريد الخصوم التوحيد بين المختلفين نفسهما لتجريمهما معاً. وكما هو واضح فإن سبب عدم التمييز يعود إلى مجال سوسيولوجيا المعرفة والسياسة لا إلى مجال الاطلاع وتوفر المفاهيم الملائمة. لذلك بالضبط لا قيمة للأدب السياسي والتاريخي والنظري الذي أنتجه الشيوعيون السوفيات ومن والاهم، ولا للكتابات النضالية المضادة التي أنتجها دعاويون غربيون .. وعرب يصدرون عن دوافع عقدية معاكسة.

الماركسية والأيديولوجيا الشيوعية
بالطبع أنتج الاتحاد السوفياتي كدولة ونظام اجتماعي، وكقوة مهيمنة على معسكر دولي، وكقطب دولي منافس على السيطرة العالمية، أيديولوجيته (نسميها الأيديولوجية لشيوعية) التي تلحم هذه الوجوه المتعددة وتنكر شرعية التمييز بينها. ترى ما العلاقة بين هذه الأيديولوجية وبين الماركسية؟ هل هي كما يريد الخصوم والأنصار على اختلاف أسبابهم؟ أم أن العلاقة بينهما علاقة تعارض وتنافٍ، وهذا الموقف هو الموقع الحصين الذي لجأ لاحتلاله الكثير من الشيوعيين بهدف إنقاذ الماركسية والتخفيف عن أنفسهم بإسقاط ما سقط أصلا؟

الجواب يتعلق بمفهومنا للأيديولوجية. فإذا كنا نعني بها نظم الفكر التي تنتسب إليها مختلف أنواع السلطات لتطبيع نفسها وتسويغ ممارساتها فستكون أيديولوجية الاتحاد السوفياتي هي الفكر الماركسي، وأيديولوجية الغرب هي الديمقراطية الليبرالية المأخوذة من فكر جان جاك روسو وآدم سميث ..، وأيديولوجية هذه الدولة العربية أو تلك هي العقيدة الإسلامية ودستورها هو القرآن والسنة النبوية كما تحب هي أن تصور نفسها، أو هي الوحدة العربية وتحرير فلسطين حسب الصورة التي تعكسها لبعض الدول العربية الأخرى مرآتها الخاصة. بيد أننا بهذا التوحيد نجازف بأن نقع في أسر أيديولوجية هذه الدول وصورتها المفضلة عن ذاتها وهي صورة نرجسية دائماً بطبيعة الحال وسنضطر بالتالي إلى أن نرفض الإسلام مثلاً ونحن نعترض على سياسات الدول التي توظفه لاكتساب الشرعية، أو أن نوالي هذه الدول لأنها تعبير أصيل وأمين عن الدين الإسلامي. هذا ما يفعله الكثيرون منا عن هوى أو سذاجة حيال أحابيل اللعبة الأيديولوجية للسلطات المعنية. وكذا الأمر بالنسبة للديمقراطية الليبرالية التي رفضها الشيوعيون لأنهم ماهوا بينها وبين السياسات الاستعمارية والاستغلالية للطبقات الحاكمة في الغرب. وكذا بالنسبة للفكر الاشتراكي الماركسي والفكر القومي العربي. هل من المعقول مثلاً أن نتخلى عن مطامح التوحد العربي وتحرير فلسطين أو تحجيم إسرائيل على الأقل لأن بعض أعتى الأنظمة العربية طغياناً وإساءة إلى القضايا العربية تنتحل الفكر القومي لتشريع نفسها؟

نسأل القارئ أن يتأمل في المثال التالي لاستيعاب مفهوم الأيديولوجية واختلافه عن نظم الفكر أو العقائد المعلنة رسمياً: الأيديولوجيا الشيوعية وأيديولوجية الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في الغرب تصدران عن جذع فكري مشترك هو الماركسية، وقد تباعد هذان الفرعان حين اختار لينين اتجاهاً آخر عام 1917 مما لا مجال لتفصيله. ومع ذلك فإن الأيديولوجية الاشتراكية الديمقراطية تشبه في هيكليتها العامة وفي خياراتها السياسية، وخصوصاً في علاقتها مع معتنقيها ومع الأيديولوجيات الأخرى، الأيديولوجية الليبرالية الغربية وتتعارض مع الأيديولوجية الشيوعية المسيطرة في الشرق الاشتراكي؛ ومن جانبها تشبه هذه الأخيرة من حيث النموذج الاجتماعي الذي تزكيه وبنيتها الداخلية وعلاقتها بأنصارها كلا من الأيديولوجيتين القومية العربية والإسلامية.

هذه الحقيقة لا يمكن إنكارها فكيف نفسرها؟ ببساطة وإيجاز نقول إن الأيديولوجية صعيد اجتماعي فرعي يعكس بشكل غير مباشر لكنه ليس اعتباطيا صورة النظام الاجتماعي الإجمالي، أي علاقات السلطة وموقع النخب السياسية والثقافية والاقتصادية فيه وسويته الحضارية والثقافية، إضافة إلى آفاق تطوره المرجحة والمهام التي يفترض إنجازها من وجهة نظر النخبة المسيطرة. بعبارة أخرى إن النظام الاجتماعي هو الذي "يفرز" الأيديولوجيا وليست الأيديولوجية هي التي تنتج النظام الاجتماعي.

لذلك تتشابه الأيديولوجيات في النظم الاجتماعية المتخلفة والاستبدادية رغم اختلاف منابعها الفكرية وقيمها ودعاواها النوعية والجذور التاريخية والثقافية لمجتمعاتها. ولذلك أيضاً فإن أكثر ما هو أيديولوجي أي مضلل ومزيف للواقع هو الإحالة إلى الأصل الكريم (الإسلامي، الديمقراطي، الاشتراكي، القومي التوحيدي ..) لتمويه الوظيفة الراهنة التي تقوم بها الأيديولوجيا في تشريع نظام السلطة والمراتبية المادية والمعنوية القائمة وإضفاء البداهة والطبيعية عليه.

سقط الاتحاد السوفياتي وسقطت معه الأيديولوجية الشيوعية ولم تسقط قيم المساواة والتحرر رغم محنتها وبلبلتها الراهنة؛ لم تسقط هذه القيم لأنه ما من نظام أو مرحلة تاريخية أو هيكل أيديولوجي يستطيع أن يستنفدها حتى لو نجح في ارتدائها لبعض الوقت. هذا على كل حال هو الرهان الذي لا يمكننا التخلي عنه دون أن نخسر أهليتنا الإنسانية؛ لا شيء يضمنه كما لو كان حتمية تاريخية، لكن لا شيء يمنع الكفاح من أجله إلا الأنانية ووهن الإنسانية. هذا ما يجعله رهاناً قلقاً، وفي كثير من الأحيان مأساوياً.

__________

* كاتب سوري - دمشق