الثورة العلمية التقنية والمتغيرات في التشكيلة الرأسمالية


تاج السر عثمان
2014 / 10 / 5 - 19:10     


احدثت الثورة العلمية التقنية العلمية متغيرات عميقة في التشكيلة الرأسمالية يمكن تلخيص جوهرها في الآتي:
*ارتبط العلم بالانتاج مباشرة،بحيث ادي ذلك الي زيادة انتاجية العمل الي حدود غير مسبوقة وانتجت للانسان قدرة هائلة في السيطرة علي مصادر الطاقة، بل واتسعت هذه السيطرة ليصبح الانسان قادرا علي السيطرة علي ظواهر كثيرة، وبالعقول الالكترونية، اصبح في الوسع اثبات أو نفي كثير من النظريات في فترة زمنية وجيزة. كما استندت هذه الثورة علي الاوتوماتية التي تعني ادماج المراحل الانتاجية المختلفة للسلعة في سلسلة متصلة تقوم بها الالات المتعددة دون تدخل من الانسان في اى من هذه المراحل. كما استندت هذه الثورة علي ( المعلوماتية) أو الاتصالات اللاسلكية بالراديو والتلفزيون والكمبيوتر(الانترنت)..الخ، والتي تم فيها الربط بين الالكترونيات الدقيقة وصناعة المعلومات، ليس فقط في مجال تخزين المعلومات ومصاعبها واسترجاعها ونقلها، بل في صنع أجهزة متنوعة تقوم بوظائف الادارة والمراقبة وتحليل المعلومات واصدار القرارات، ولم يعد وجود الانسان ضروريا في كل مراحل عملية الانتاج. كما تمكنت من خلال سيطرتها علي كل المعلومات المتعلقة بتصميم المنتج وصنعه وتسويقه من تقصير دورة الانتاج وتخفيض التكاليف.هذا اضافة للهندسة الوراثية والتي قامت علي أساس احداث تغييرات صناعية في النشاط البيولوجي للخلايا بهدف الحصول علي منتجات جديدة أو عمليات جديدة تضاعف انتاجية النبات والحيوان. هذا اضافة الي ثورة تكنولوجيا المواد والتي تعتمد علي الكيمياء لاستحداث مواد جديدة بهدف زيادة جودة المنتج. وهذه التحولات كما هو معلوم كانت بهدف وضع النتائج التي يصل اليها العلم مباشرة في عمليات انتاج صناعية عن طريق الوحدة العضوية بين العلم والتكنولوجيا وبسرعة بالغة، حتي اصبح الاكتشاف العلمي يعرف من خلال التطبيق الانتاجي، اذ لم يعد هناك فارق زمني كبير يمر بين الاكتشاف والتطبيق.
فماهي أهم المتغيرات التي احدثتها هذه الثورة في بنية المجتمعات الرأسمالية؟.
احدثت ثورة العلم والتكنولوجيا تحولات بنيوية في تركيب المجتمعات الرأسمالية المتطورة، علي سبيل المثال: احدثت تغيرا كيفيا شاملا علي العمل البشري. فكما قامت الثورة الصناعية الأولي باستبدال الجهد العضلي للانسان والحيوان بالالات، قامت الثورة العلمية التقنية باحلال اجهزة تحل محل العمل العضلي تلقائيا وذاتيا واوتوميا، وتقوم بوظائف العقل البشري. واذا كان نظام الرق كما هو معلوم يتطلب قوة عضلية كاملة، وكان نظام الاقطاع يحتاج الي مجهود عقلي يكفي للانتاج البسيط، والثورة الصناعية تطلبت عقلا كاملا، نلاحظ ان الثورة العلمية التقنية، لايمكن ان يوجد فيها العامل المناسب الا باستيعاب قدر هائل من العلم يكتسب بالتعليم والثقافة والتدريب، عموما الثورة العلمية التقنية تتطلب ارتفاعا كبيرا في رأس المال الثابت، اى زيادة في التركيب العضوي لرأس المال كما كان يقول ماركس.
من خلال الثورة العلمية التقنية، كما يقول د. فؤاد مرسي: استطاعت التشكيلة الرأسمالية ان تجدد نفسها وتجد متنفسا لتنشيط استثماراتها، واوجدت لنفسها فرصا جديدة للنمو، باتساع الحيز الذي اصبح متاحا لها استخدامه تكنولوجيا، كما استطاعت الرأسمالية ان ترفع المستوي العام للانتاج وتحدث تطورا هائلا في القوي المنتجة(أي وسائل الانتاج والعمل البشري).
منذ اندفاع الثورة العلمية التقنية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، نلحظ في كل المجتمعات الرأسمالية المتطورة، منذ أواسط الخمسينيات انخفاضا منتظما في عدد الشغيلة اليدويين ، وصعودا لذوي الياقات البيضاء والذهبية (قوي العمل الماهرة جدا التي تشمل العلماء والمهندسين ومبرمجي الكمبيوتر والاداريين والاقتصاديين..الخ، وهم ايضا عاملين باجر ويتعرضون للاستغلال الرأسمالي، وتستحوذ الطبقات الرأسمالية علي فائض القيمة منهم، رغم دخولهم الهائلة).وبالتالي اتسع مفهوم الطبقة العاملة الذي اصبح يضم العاملين بأجر يدويا وذهنيا، اى قوي الكدح العضلي والذهني.
ومنذ ذلك الوقت جرت مناقشات واسعة وسط الماركسيين وغيرهم تناولت المتغيرات في تركيب الطبقة العاملة، وعلي سبيل المثال: عالجت الأحزاب الشيوعية في غرب اوربا المتغيرات بعد الحرب العالمية الثانية، وعمقت ووسعت مفهوم الدور القيادي للطبقة العاملة، فالحزب الشيوعي البريطاني مثلا: منذ عام 1951م تخلي عن شعار (ديكتاتورية البروليتاريا)، وطرح شعار الاطار الديمقراطي للاشتراكية والوصول اليها عبر البرلمان والتعددية الحزبية.
كما طرح الحزب الشيوعي الاسباني شعار: وحدة قوي الثقافة والعمل في اتجاه الاعتراف بدور العاملين المهنيين والعلميين والمثقفين علي وجه العموم.
كما أشار غرامشي سكرتير الحزب الشيوعي الايطالي السابق الي ضرورة الموقف النقدي كما ورد في مؤلفه(دفاتر السجن) والتي تعتبر عملا فلسفيا عظيما، يؤكد فيه علي أنه من المستحيل صياغة نظرية فعّالة دون ممارسة نقد ذاتي. أشار الحزب الشيوعي الايطالي الي تحول المجتمع الرأسمالي المعاصر وتخلي البلدان الرأسمالية الصناعية عن الركض وراء فائض القيمة المطلق، وفي الوقت نفسه عن التمييز الجائر والحقوقي بحق الطبقة العاملة، واصبح الاتجاه الرئيسي للتطور هو الركض وراء فائض القيمة النسبي ورفع انتاجية العمل ، وبالتالي الاستخدام الأمثل للتقنية الجديدة وتوسيع مجال الخدمات، كما ترسخ الحق الانتخابي، وعوضا عن وضع (ديكتاتورية البروليتاريا) في مواجهة الديمقراطية البورجوازية الضيقة، ظهرت بهذا الشكل مهمة تطوير الطاقة الكاملة للديمقراطية، ويمكن أن تكون هذه الطاقة ثورية حقا، اذا ماحكم المجتمع علي أساس اجماع الأغلبية، واعتمد بالتالي علي قدرتنا بالظفر علي أساس (الهيمنة)، لقد تحدث غرامشي عن مثل هذا الاجماع وتلك (الهيمنة).
كما تحدث الحزب الشيوعي السوداني ومنذ دورة اللجنة المركزية في اغسطس 1977م والمؤتمر الخامس للحزب في يناير 2009م عن الوصول للنظام الوطني الديمقراطي بطريق ديمقراطي جماهيري تعددي.
كما اهتمم المفكرون والسياسيون من بلدان العالم الثالث بالتغيرات البنيوية التي تمت في المجتمعات الرأسمالية المتطورة بسبب الثورة العلمية التقنية، وبسبب ادخال تكنولوجيات جديدة، ولاحظوا شدة استغلال بلدان العالم الثالث في ظروف ثورة العلم والتكنولوجيا، واثرها علي اعادة انتاج التخلف الاقتصادي والاجتماعي في تلك البلدان، والتي ترسف تحت اغلال ديون ثقيلة(علي سبيل المثال بلغت ديون السودان 43 مليار دولار في حين أن اصل الدين 12 مليار دولار، أي كل دولار يربح اكثر من 2 دولار!!).
ومن الجانب الاخر تعمق التناقض الرئيسي في المجتمعات الرأسمالية وهو التناقض بين الطابع الاجتماعي للانتاج والتملك الخاص لوسائل الانتاج، اضافة لدخول الرأسمالية في مرحلة الشيخوخة التي تتجلي في تدمير البيئة، والبطالة وتشريد الملايين من العاملين، وخلق بؤر من الصراعات الاقليمية لترويج تجارة الأسلحة، اضافة للشراسة التي اصبحت تتميز بها امريكا كما يتجلي في التدخل المباشر واحتلال بعض البلدان كما حدث في العراق تحت مظلة فرية اسلحة الدمار الشامل، وصرف اكثر من ترليون دولار علي حرب العراق في الخمسة اعوام الماضية.
كما تتلخص الأزمة البنيوية للتشكيلة الرأسمالية في الاتي:
أ- التباطوء الشديد في معدل وتائر ونمو الانتاج الصناعي.
ب- ضعف الفروع التقليدية في الصناعة الثقيلة وانحطاطها الأمر الذي يعوض عنه بصورة جزئية فقط عن طريق توسيع مجمع الكمبيوترات الالكتروني.
ج- عدم التوازن في التجارة والمدفوعات الدولية.
د- الحمي المالية والافراط في المضاربة والتي كان نتائجها الأزمة المالية الراهنة.
ه- الاشكال الجديدة لنهب البلدان النامية وأزمة الدين العالمي المزمنة.
و_ نزعة انخفاض الأجور الحقيقية ومستوي حياة الطبقة العاملة الي جانب اغتناء القلة الرأسمالية بشكل فاحش لامثيل له في السابق .
ز- الأزمات المالية الحادة (مثل الأزمة المالية الراهنة) والاقتصادية العميقة في عدد من البلدان.
ح- عسكرة الاقتصاد التي تميز قبل كل شئ الولايات المتحدة الامريكية، اضافة الي نمو قدرة المجمع الصناعي العسكري المالي.
ط- تعمق الفوارق الطبقية ، اصبح 85 ملياردير يحكمون العالم ، ويزداد الاغنياء غني والفقراء فقرا.
ولاشك أن التراكم الكمي للتغيرات البنيوية في المجتمعات الرأسمالية المتطور سوف تؤدي الي تحولات نوعية تؤدي الي نفي الرأسمالية نفسها ، اي ان الاشتراكية التي تتخلق الان في احشاء النظام الرأسمالي سوف يقوم بنفيه، بعد ان وصل مرحلة الانحطاط التي تشكل خطورة علي الحضارة البشرية، وهذا الانحطاط نابع من صراع الوحوش بين اقطاب الدول الرأسمالية من اجل السيطرة العسكرية والاقتصادية علي العالم.