من المشاعية البدائية إلى الرأسمالية


محمد عادل زكي
2014 / 10 / 6 - 00:45     

الفرضية الرئيسية الَّتي يُعتمَد عليها في سبيل شرح الإنتقال من حالة البدائية/المشاعية إلى مرحلة العبودية، هي: حينما كانت الحروب تنشب بين المجموعات البدائية الأولى، يكون من لوازم هذه الحروب ليس فحسب وقوع جرحى وقتلى، إنما أسرى أيضاً. والمنتصر يستعبد المهزوم. ويفترض المتخصصون أن المنتصرين كانوا في البداية يأكلون المهزومين، في مرحلة أولى. ثم وجدوا، في مرحلة ثانية، أنه من الأفضل تكليفهم بالعمل بدلاً من أكلهم. ومن هنا تبدأ المرحلة الثانية: أيْ مرحلة العبودية، وربما تكون هذه الفرضية الَّتي تُحاول شرح الإنتقال من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية مقبولة بحكم تحليل مصادر الرق، ومنها الأسر في الحرب.
ويمكننا أن نستخلص، عند درجة معينة من التجريد، تسع خصائص جوهرية تميز النشاط الاقتصادي في هذه المرحلة من التاريخ الَّتي يرتكز فيها الإنتاج على عمل العبيد، ليس في آثينا قبل المسيح، له السلام، فحسب وإنما في العالم الشرقي القديم بأكمله:
1- إنتاجية منخفضة، نسبياً، لقوة العمل، مع ظهور الفائض، والهدر الاجتماعي.
2- إمكانية ظهور العامل الحر، ومن ثم قوة العمل المأجورة، أَيْ بيع قوة العمل، إلى جوار العمل العبودي.
3- ظهور إمكانية اقتصاد المبادلة النقدية.
4- ظهور إمكانية الإنتاج من أجل السوق.
5- حرمان المنتِج المباشر"العبد" من ملكية وسائل الإنتاج.
6- تملك المستغِل لشخص المنتِج المباشر.
7- تملك المستغِل لوسائل الإنتاج.
8- الإكراه المباشر على العمل.
9- استيلاء المستغِل على كُل الناتج الفائض، وفي بعض الأحيان الاستيلاء على الناتج الضروري الَّذي يُمثل حد كفاف الطبقة المستغَلة.
كما يمكننا، ابتداءً من هذه الخصائص، تحليل البنية الطبقية للمجتمع العبودي على النحو التالي:
1- طبقة العبيد، المحرومون من ملكية وسائل الإنتاج، والمكرَهون على العمل بالقهر المباشر.
2- المنتِجون المالكون لوسائل إنتاجهم. الَّذين يُنتِجون قيماً استعمالية وقيماً تبادلية. أَيْ الَّذين ينتجون من أجل الاشباع المباشر، أو من أجل مبادلة هذا الإنتاج في السوق.
3- مُلّاك العبيد، وهم الطبقة الأرستقراطية. ويتمثلون في الحكام، ورجال الدين، وكبار التُجار، ورجال المال والأعمال.
وفي المرحلة الثالثة: سوف تتحلل العبودية ويظهر الإقطاع، ونلاحظ: أن الأبحاث في هذه المرحلة عادةً ما تبدأ وتنتهي من قلب أوروبا، الغربية تحديداً؛ فجُل المؤرخين، الأوروبيين وغير الأوروبيين، في حقل تاريخ الفكر الاقتصادي بوجه خاص، يصنفون مؤلفاتهم لحكي ما الَّذي حدث في أوروبا جَعلَ (العالم!) يَنتقل من عصر العبودية إلى عصر الإقطاع؛ الأمر الَّذي يعني جعل باقي الأجزاء المكونة للعالم القديم والوسيط خارج التاريخ؛ لأن هذه الأجزاء، ببساطة، خارج التأريخ الأوروبي!
وبالإضافة إلى هذه المركزية الأوروبية، نجد فرضية رئيسية مؤداها أن سقوط الإمبراطورية الرومانية فى غرب أوروبا في القرن الخامس، أدى إلى انعدم الأمن بانتشار الفوضى والخراب في الولايات الَّتي كانت تحت السيادة الإمبراطورية. وحينما أصبحت أعمال السلب والنهب الَّتي ترتبت على هذه الفوضى من مظاهر الحياة اليومية المعتادة، وفي ظل هذه الجو العام من الخوف المستشري بين الناس والتماس الأمن، لجأت المجموعات الضعيفة من الناس لأحد الأشخاص الأقوياء رغبة في حمايته، وفي مقابل هذه الحماية له عليهم الولاء والسمع والطاعة، وزراعة أرضه، وملء خزائنه بالمحصول بعد الحصاد. وحينما تبلورت هذه العلاقات الاجتماعية القائمة على الحماية في مقابل الخدمة والسمع والطاعة؛ نشأ الإقطاع كنظام اجتماعي يدور برمته حول الأرض والملكيات الزراعية الكبيرة.
لقد كان الإقطاع، في أوروبا الغربية تحديداً، يقوم على أساس واجبات والتزامات متبادلة، فلم يعد الإنسان، ظاهرياً، محلاً للتملك من قبل شخص آخر؛ فقد تحطمت الأغلال والسلاسل، وصارت العبودية متخذة شكلاً آخر. وكان على رقيق الأرض، أدنى الأشخاص مرتبة وفقاً لنظام الإقطاع، أن يظل مرتبطاً بالأرض الَّتي يحوزها لإنتاج ما يكفيه من طعام وأن يقدم خدماته في الأرض مقابل ما يَحصل عليه من حماية سيده. وحينما ينشأ الإقطاع وفقاً لهذه الفرضية (الحماية/الخدمة) يتم استكمال الصورة الكُلّية، وفقاً للمركزية الأوروبية أيضاً، بفرضية رئيسية ثانية وهي افتراض انعدام التبادل النقدي، وانعزال المجتمعات الإقطاعية.
وهذه الفرضيات على الرغم من مركزيتها الأوروبية المفرطة إلا انها قد تمثل صورة تقريبية شبه مقبولة، مؤقتاً، في سبيل تكوين التصور المدرسي عن الإنتقال من العبودية إلى الإقطاع في أوروبا الغربية على وجه التحديد. بيد أن استكمال الصورة الكُلّية يكون مطلوباً بالتعرف على الإقطاع في الشرق الإسلامي في نفس الفترة التاريخية تقريباً، وسوف نرجيء استكمال هذه الصورة لحين الذهاب إلى دولة الخلافة الإسلامية في العصر الوسيط. وإن جَاز لنا، منهجياً، أن نرى بإيجاز بعد قليل شكل الملكية في أوروبا والمشرق الإسلامي.
بوجه عام يمكننا استخلاص الخصائص العامة للإقطاع كنظام اجتماعي واقتصادي عالمي ساد العالم في الفترة التاريخية الَّتي تمتد من القرن الخامس حتى القرن التاسع عشر، على النحو التالي:
1- الارتفاع النِسبي في مستوى تطور قوى الإنتاج بالمقارنة بالنظام العبودي.
2- بما أن المستغلين في الإقطاعية يتركون للمنتِجين المباشرين، بوجه عام، كُل المنتَج الضروري، فيمكننا أن نرى ظهور بعض الاهتمام المادي لدى المنتجين الصغار بنتائج عملهم وتظهر المبادرات الاقتصادية، وما يمكن تسميته بالاستثمارات. إذ في النظام الإقطاعي يُعد الفلاح مالكاً للماشية، ولوازم الزراعة، والأدوات، والمخزون، والأبنية، وكُل شيء إلا الأرض. إن للفلاح على الأرض حق الاستعمال والاستغلال، دون حق التصرف، وذلك في مقابل أن يدفع للإقطاعي الريع، العيني في مرحلة أولى، والعيني والنقدي في مرحلة ثانية، والنقدي في مرحلة ثالثة.
3- قد يتبدى الاختلاف بين الإقطاع في غرب أوروبا والإقطاع في المشرق الإسلامي في الشكل الَّذي تتخذه الملكية للأرض، إذ في أوروبا الغربية لا يستطيع الإقطاعي، عادةً، اِنتزاع استثمارات الفلاح أو الحرفي، ولا يرجع ذلك فقط إلى الأصول الحقوقية واعتبارات النبالة أو الأعراف الإقطاعية الَّتي تدعم الملكية الفلاحية، وإنما يرجع جوهر المسألة إلى أن للإقطاعي، سواء كان الملك أو النبيل، مصلحة اقتصادية أكيدة في الابقاء على ملكية صغار المنتجين المباشرين على استثماراتهم كَيْ يَضمن استمرار تدفق الريع إلى خزانته. أما في المشرق الإسلامي، وسوف نناقش الأوضاع فيه لاحقاً، فقد كانت الأرض بوجه عام مِلك الخليفة يقطعها لمن شَاء، وينزعها ممن يَشاء. فلم تكن الأرض محلاً للتوارث، على النقيض من أوروبا الَّتي كانت الأرض تنتقل ملكيتها إلى الورثة (تحديداً أكبر الأبناء الذكور، وسيكون لذلك الأثر الحاسم في انهيار النظام بأكمله) ولكن، في الحالتين، أو الشكلين، تظل الأرض، ويظل النشاط الزراعي، محورا الحركة في المجتمع وتطوره. كما يظل قهر المنتِج المباشر السمة العامة للإقطاع في الشكل الأوروبي وفي الشكل الإسلامي دون كبير خلاف.
ويمكننا أن نُحلل طبقات المجتمع الإقطاعي على النحو التالي:
1- الإقطاعيون، الَّذين يملكون الأرض، وهم الَّذين يمثلون الطبقة العليا في المجتمع وتشتمل هذه الطبقة على الملك وكبار رجال القصر والكنيسة والنبلاء والفرسان. أو الخليفة وعماله في الأمصار المنضوية تحت لواء الخلافة الإسلامية، ويلحق بالخليفة أو السلطان كبار رجال الدولة والقادة العسكريين وكبار فقهاء السلطة.
2- الفلاحون التابعون إقطاعياً، وتشتمل هذه الطبقة على العبيد، والفلاحين الأحرار، وأقنان الأرض.
3- الطبقة العقيم، كما يسميها فرنسوا كينيه، وتشمل الصناع والتجار وأصحاب المهن والحرف.
وفي المرحلة الرابعة: تَنتقل (أوروبا! ومعها العالم المعاصر بأسره، إنما تدريجياً) من التنظيم الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي، ويمكننا أن نلاحظ أن الفرضية الرئيسية، المدرسية أيضاً، عند الكُتاب في هذا الصدد، ولا بأس بها أيضاً مؤقتاً، تعتمد على حزمة أحداث، تمتد عبر ثلاثمئة سنة تقريباً، أدت إلى هذا الإنتقال؛ فقد اتصل الشرق الإسلامي بالغرب اللاتيني، تجارياً، ومعرفياً، عن طريق الحروب الصليبية، ونشأت المدن، وتشكلت الطبقة الوسطى، واشتد الصراع بين كبار الإقطاعيين والملك والكنيسة، وظهرت الدولة القومية، واللغة القومية، والروح القومية، وانهارت النقابات الحرفية، وتحولت الأراضي الزراعية إلى مراعي من أجل الصوف، ونُهبت الأراضي، وفر الأقنان من الإقطاعيات، وانتشرت النقود في المعاملات اليومية، وتوسعت القوى الاستعمارية الأوروبية في اكتشاف العالم الجديد ونهب ثرواته. كتب ماركس، ابتداءً من المركزية الأوروبية أيضاً: "إن اغتصاب أملاك الكنيسة، وانتزاع عقارات الدولة بالنصب، وسرقة الأملاك الإقطاعية بالقهر وفي ظل ارهاب لا يرحم، وتحويل الأملاك الإقطاعية وأملاك العشيرة إلى ملكية خاصة حديثة، تلك هي الأشكال المتعددة، اليسيرة، الوديعة، الَّتي استخدمت لتحقيق التراكم الأوَّلي، وقد اتاحت فتح ميدان رحب للزراعة الرأسمالية، ووضع الأرض تحت سيطرة الرأسمال، وخلق التدفق الضروري لأجل الصناعة في المدينة من البروليتاريا الَّذين هم خارج حماية القانون".

إن الملاحظة الرئيسية الَّتي يمكن اضافتها هنا، إلى جانب الملاحظة الخاصة بالمركزية الأوروبية الَّتي لا تنشغل بتحليل انتقال الشرق أيضاً، بخصوصيته التاريخية والاجتماعية، من الإقطاع إلى الرأسمالية، هي أن معظم هذه الأسباب تقدم عادة، في مؤلفات الحكي التاريخي، كمعطى دون إثارة الكيفية الَّتي تحقق بها السبب!