الصين..الإنتقال السلمى للرأسمالية


رياض حسن محرم
2014 / 9 / 30 - 18:55     

(إذا أمسك التحريفيين مستقبلا قيادة الصين فعلى الماركسيين- اللينينين فى كل البلدان أن يفضحوهم بصرامة وأن يناضلوا ضدهم وأن يساعدوا الطبقة العاملة والجماهير الصينية فى قتال هذه التحريفية) "ماو تسى تونج" – 1965
فى مطلع الشباب كنا نتدارس كتاب ضخم صادر عن جمهورية الصين الشعبية بعنوان "مناظرة حول الخط العام للحركة الشيوعية العالمية" يرصد الخلاف الصينى السوفييتى بعد المؤتمر العشرين الذى شن فيه خروشوف حربا شعواء على ستالين واصفا اياه بالمجرم والقاتل بينما استمر الصينيين فى الدفاع عن الرجل واتهام خروشوف بالتحريفية والارتداد عن الماركسية اللينينية، ولكن حدث فى الصين ما هو أسوأ بعد رحيل ماو.
بعد وفاة ماو تسى تونج فى اكتوبر 1976 وصعود نجم "دنج هيسياو بنج" الذى تم إبعاده من الحزب أثناء "الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى" ، وفى مطلع السبعينات إستطاع هؤلاء الحريفيون السيطرة على مقاليد الحزب والدولة وسط حملة دعائية غوغائية مسعورة حول ما أطلقوا عليه "عصابة الأربعة" والتى فى حقيقتها عصابة الخمسة إذا أضفنا اليهم الزعيم ماو، وكان مصير الذين تمسكوا بخط ماو عن الثورة البروليتارية القتل والسجن والطرد من الحزب، تم ذلك فى الوقت الذى أعلن فيه التحريفيين بقيادة " هوأو كوفينج" أنه يسير على خطى ماو!!، رافعين راية الماوية لإسقاط الماوية ومنفذين برنامجا معاديا لها على طول الخط على جرعات آخذين فى الاعتبار موازين القوى منطلقين من ادعاء اتباع الإرث الماوى بينما يواصلون السير على خطه بالأستيكة مستمرين فى اتباع إقتصاد السوق خطوة خطوة ولا مانع من خداع الجماهير بتسمية ما يحدث "إقتصاد السوق الإشتراكى" وكم من الجرائم يمكن ارتكابها باسم الاشتراكية.
بالاستعانة برأس المال الأجنبى فى إطار واسع والإعتماد على الرأسماليين الصينيين خاصة ممن تركوا الصين خلال الثورة الثقافية ورفع كل القيود أمام النشاط الرأسمالى دون حد أقصى للأرباح مستفيدين من الأيدى العاملة الرخيصة مع الإحتفاظ بالقوانين الإقتصادية الصارمة ضد الإختلاس أو تعطيل الإنتاج الموروثة من زمن الثورة الكبرى، بينما تلك الشركات تمارس إفسادها للحزب الحاكم وجهاز الدولة، ويبقى فى الأخير إدعائها أن نسبة النمو الإقتصادى العالية ستسقط ثمار النمو على الجميع ولكن فى الحقيقة من يتساقط هم جموع ملايين الصينيين الفقراء الذين يلهثون من أجل الحفاظ على حياتهم برغم الشتات فى جميع دول العالم فقيرها قبل غنيها لتوزيع منتجات تلك الشركات بينما يزداد امتلاء جيوب الرأسماليين وشريحة صغيرة من أعضاء الحزب، واطلقت تلك المجموعة التطلعات البرجوازية لدى الجماهير العريضة فى الثراء السريع والخلاص الفردى بينما تتسع الفروق سريعا بين الأغنياء والفقراء وتتزايد تلك الهوة يوما بعد يوم.
الصين لا تعتبر شركاتها خطوة على طريق الرأسمالية الحرة بل تعتبر أنها أعادت تصميم الرأسمالية لجعلها تعمل بشكل أفضل واجبرت الشركات الصغيرة على الإندماج فى كيانات أكبر، وحذت حذوها دول أخرى كالبرازيل، صانعة نموذجا متقدما من رأسمالية الدولة متجاوزا الشكل القديم لرأسماليات الدولة وبدلا من الإعتماد على النمط البيروقراطى القديم والشخصيات ذات الثقة فى قيادة الاقتصاد الى شركات يديرها مدراء على درجة عالية من المهنية والكفاءة، وهذا النمط من تدخل الدولة فى الاقتصاد يتطلع أن يسود فى دول أخرى عديدة كجنوب إفريقيا وكثير من دول أمريكا اللاتينية وأخرى آسيوية وربما تحاول مصر فى نظامها الجديد حذو هذا النوع من الرأسمالية ذات الطابع الإجتماعى التى تعطى أفضلية لرجال الأعمال المحليين ونوع من الحمائية لهم بحيث لا يؤثر ذلك على تدفق الرساميل العالمية بضمانات تحميها من التحركات العمالية وتشريعات تمكنها من تحويل أرباحها بسهولة للخارج وحتى الخروج من السوق بأقل الخسائر مع مرونة إقتصادية تمكن الدولة من تحديد أولوياتها العملية ورسم خطة النمو الاقتصادى، لقد أدى تطبيق هذا النوع من الرأسمالية أن تنمو الصين على مدى ثلاث عقود بحوالى 10% سنويا مع زيادة تجارتها الخارجية بحوالى 20% سنويا، وفى العقد الأخير فقط استطاعت الصين أن تضاعف دخلها القومى ثلاث مرات ليصل الى 11 ترليون دولار سنويا منتزعة المركز الثانى من اليابان كثانى أكبر إقتصاد عالمى والمركز الأول من أمريكا كأكبر سوق مستهلك فى العالم، وتأتى ثلاث شركات صينية مملوكة للدولة من بين أكبر 10 شركات فى العالم وتعتبر الصناديق السيادية الصينية حاليا من أكبر الصناديق السيادية فى العالم.
لقد تناقل فى الميديا العالمية خبر شراء ملياردير صينى لقطعة من الخزف ترجع الى مملكة مينج قبل 1500 عام بمبلغ 22 مليون جنيه استرلينى مما يعبّر جليا على مدى تغلغل الرأسمالية فى الصين التى تنتج أكبر عدد من الملياديرات فى العالم الآن وتشهد أكبر هجرة على مستوى العالم من الريف الى المدن بحثا عن فرص أفضل للوظائف والدخول، كما تتميز الصين أيضا بوجود أكبر جاليات صينية فى معظم دول أوروبا وأمريكا خصوصا بعد سلسلة الهجرات الكبرى هروبا من الثورة الثقافية والتى شملت كثير من الأغنياء والمثقفين، وصنعت لها فى تلك البلدان مجتمعات مغلقة نسبيا تميزت بالدأب والمثابرة والإنفاق الرشيد مما مكنها من مراكمة ثروات ضخمة ساعدت مع عودة المنهج الرأسمالى بالبلد الأم من إستثمار ثرواتها ومضاعفتها بسرعة.
معظم الصينيين حاليا " عدا بعض القطاعات كالمثقفين والطلاب" لا يهتمون بالسياسة كثيرا وليس لديهم مشكلة أنه لا يوجد ببلدهم تعدد حزبى وأن يكون الحزب الوحيد والحاكم هو الحزب الشيوعى " يضم فى عضويته 80 مليونا" ولا غضاضة لديهم ان تكون لهم عضوية به طالما يحقق ذلك لهم طموحهم الرأسمالى وإمكانيات النمو الفردى، وأيضا لا يضيرهم كثيرا غياب الحريات والديموقراطية على النمط الليبرالى، وبالعودة الى النظام الرأسمالى تكون السياسة المعادية للشيوعية قد حققت أهدافها وتحققت للرأسمالية العالمية حلمها بعد 4 عقود من التطبيق الإشتراكى فى الصين وبعد عقود طويلة من الحصار الإقتصادى والسياسى والدور البطولى لقادتها التاريخيين فى النضال من أجل إنتصار الثورة الإشتراكية وتحرير الطبقة العاملة والفلاحين من نير الرأسمالية، فالبروليتاريا الصينية تعمل حاليا فى ظروف سيئة لساعات أطول بأجور أدنى وتساعد حتى الدول الامبريالية فى مد عمرها، فلولا المال الصينى لأعلنت الولايات المتحدة إفلاسها، لقد تحولت الصين الى جزء من الإقتصاد الرأسمالى العالمى تتقاسم معه الأرباح وتنافسه فى الأسواق العالمية بل "وهو الأسوأ" فى تجارة الجنس والبغاء، وبعد أن تأكدت الولايات المتحدة من انتهاج الصين للمبدأ الرأسمالى أنعمت عليها بعضوية صندوق النقد الدولى والبنك الدولى ومنظمة التجارة العالمية.
مازالت الفجوة تتنامى فى الصين بين الأغنياء والفقراء وبين الريف والمدن مع إنهيار منظومة الأمان التقليدية من الرعاية الصحية والتعليم والضمان الاجتماعى وامكانية فرص العمل وتم بيع الأساس المادى للنهضة الذى بنته التجربة الإشتراكية الى الرأسمالية لتبنى عليه نظامها الإستغلالى الجديد، متمثلة فى ذلك بمقولة مهندس التحول الرأسمالى فى الصين "دنج هيسياو بنج" ( لا يهم لون القط أبيض أم أسود طالما قادر على إصطياد الفأر)، لقد نجحت الصين فعلا فى الإنتقال السلمى للرأسمالية دون أن تمر بهزات عميقة كالتى حدثت فى الإتحاد السوفييتى والمنظومة الإشتراكية أو الأزمة الإقتصادية العالمية التى مرّ بها الإقتصاد الرأسمالى، لكن هل تستطيع الصين أن تخافظ على هذا المستوى من النمو؟ وهل تستطيع أن تتجاوز أزمات الرأسمالية والإشتراكية معا؟ سؤالان صعب التنبؤ بإجابتهما، وكما قال مؤلف كتاب "الرأسمالية الحمراء" (من الواضح أن الصين تمثل حيزا مهما من الاقتصاد العالمى يفوق واقعها الحالى، لكن هذه القوة خادعة)
يبقى أخيرا أن كثير من أنصار اليسار فى العالم "وفى منطقتنا تحديدا" يصعب عليهم أن يعترفوا بفشل بناء الإشتراكية فى الصين "حصوصا بعد إنهيار الاتحاد السوفييتى" ويحاولون التباهى بإنجزاتها الإقتصادية كمثال على نجاح النموذج الإشتراكى، لكن يبقى البون شاسع بين الأحلام النبيلة والواقع الصادم، ولهذا حديث آخر.