أسطورة الامبريالية (2)


محمد المثلوثي
2014 / 9 / 21 - 15:15     

الجزء الثاني: كائن خرافي اسمه الرأسمال المالي

نعود في هذا الجزء الثاني لميزة أخرى يسبغها لينين في كتابه (الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية) على الامبريالية، والميزة الثانية بحسبه هي: [fusion du capital bancaire et du capital industriel, et la création, sur la base de ce « capital financier », d’une « oligarchie financière » (impérialisme…p37)
]اندماج الرأسمال البنكي مع الرأسمالي الصناعي، وخلق "طغمة مالية" على أساس هذا الرأسمال المالي]
وبمثل ما يضع لينين مرحلتين منفصلتين للرأسمالية، الأولى هي القائمة على المنافسة الحرة والثانية على الاحتكار، فإنه يعين المرحلة الأولى لرأسمالية المنافسة باعتبارها مرحلة هيمنة الرأسمال الصناعي، بينما الثانية فيعينها باعتبارها مرحلة هيمنة الرأسمال البنكي واندماجه مع الرأسمال الاحتكاري الصناعي، ليكونا معا ما يسميه الرأسمال المالي، حيث تسيطر المؤسسات المالية على الإنتاج الفعلي لصالحها. وبما أن الحالة الاحتكارية ستصل أيضا إلى الرأسمال البنكي، فإن هذا الوضع سيخلق ما يسميه "الطغمة المالية" التي تتحكم في كلية الاقتصاد الرأسمالي، وهي تمثل الطبقة الجديدة للمرحلة الاحتكارية الجديدة التي وصلت إليها الرأسمالية، معوضة بذلك الطبقة البورجوازية الكلاسيكية القائمة على الرأسمال الصناعي "المستقل" في المرحلة القديمة للمنافسة الحرة.
إن الانفصال بين الرأسمال الصناعي والرأسمال البنكي هو المصادرة الأولية التي يبني عليها لينين تحليله. ليصل إلى كون اندماجهما هو مرحلة خاصة جديدة للرأسمالية.
لكن المصادرة التي ينطلق منها لينين خاطئة تجريبيا. فهل سيعود هناك معنى لاستنتاجاته اللاحقة؟
من المعلوم تاريخيا أن النظام المصرفي قد سبق وجوده الرأسمال الصناعي. فالبنوك كانت قد نشأت منذ القرن الرابع عشر والخامس عشر في إيطاليا خاصة. وكانت تلعب دورا هاما في مسك حسابات التجار، والتصرف في الكمبيالات التجارية، كما تم إنشاء أولى أشكال الأرصدة البنكية لتسهيل المعاملات بين الأسواق والتجار المنفصلين بعضهم عن بعض، والذين يتقابلون في إطار المعارض والأسواق غير الدائمة....الخ
أما تطور المصارف وتشكل النظام الائتماني المعاصر فقد ارتبط بظهور الصناعات الحديثة وبداية إقامة المشاريع الضخمة التي تستوجب رأسمال كبير، في القرن الثامن عشر وخاصة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولقد قامت بريطانيا، بصفتها القطب الرأسمالي العالمي الأعظم بتوحيد هذا النظام الائتماني وتحويله إلى نظام عالمي، وكنتيجة حتمية لدخول الرأسمال مرحلة الإنشاءات الكبيرة (إنشاء خطوط السكك الحديدية، صناعة وسائل النقل الضخمة...) فقد تحولت عملية مركزة الرأسمال النقدي من خلال البنوك، وتنظيم عملية التسليف، بما في ذلك المشاركة في الدين الحكومي وكل أنواع المضاربة وتجارة الأسهم...الخ. يقول ماركس بهذا الصدد (وقد اندمجت في إنكلترا، نحو أواخر القرن السابع عشر، في مجموع منتظم يشمل معاً نظام المستعمرات، ونظام الاقتراض الحكومي، ونظام الضرائب الحديث، ونظام الحماية الجمركية. واعتمدت هذه الطرائق، في جانب منها، على العنف الوحشي، كالنظام الاستعماري مثلاً. ولكنها جميعاً تستخدم سلطة الدولة، أي العنف المنظم والمركز في المجتمع، بغية إنماء عملية تحويل الأسلوب الإقطاعي للإنتاج إلى أسلوب رأسمالي، وتقليص مراحله الانتقالية – ماركس- رأس المال). وهكذا فمنذ البداية كان الرأسمال البنكي والنظام الائتماني مندمج مع تطور وازدهار الرأسمال الصناعي وتلبية لهذا التطور المتعاظم في الصناعة والتجارة الدوليين. بل إننا في الواقع لا نستطيع أن نتحدث عن رأسمالين منفصلين أحدهما عن الآخر. فالرأسمال الصناعي، إضافة لكونه هو نفسه يمثل عملية تسليف للرأسمال النقدي، فإنه لا يمكن أن يتقدم خطوة واحدة بدون وجود الرأسمال البنكي، لا من ناحية كون التطور الرأسمالي ذاته يجعل من الحجم الواجب تسليفه من الرأسمال للدخول في دورة التراكم الرأسمالي أعظم فأعظم، متجاوزا قدرة الرأسماليين المنفردين على توفير ذلك بأنفسهم، وبالتالي اعتمادهم على التسليف البنكي، بل من ناحية ضمان تواصل عملية الإنتاج نفسها، من نوع الاحتفاظ بجزء من الرأسمال لتسديد الأجور أثناء عملية الإنتاج التي قد تطول في الزمن، أو في انتظار بيع البضائع في السوق، أو التصرف في فائض القيمة المستخلص سواء في شكل رصيد للاستهلاك الشخصي، أو في إطار توظيفه من جديد...( ولا يمكن التفصيل هنا في كل العمليات البنكية الضرورية لسير الإنتاج الرأسمالي).
أما الرأسمال البنكي فهو بطبيعته لا ينشأ إلا بغاية "الاندماج" في العملية الإنتاجية، من خلال النظام الائتماني. فلا وجود لبنوك ولا لنظام بنكي إذا لم يكن ذلك موجها للتسليف المنتج في الصناعة والتجارة بأشكال متنوعة مختلفة. والرأسمال البنكي ليس رأسمالا (أي قيمة تزداد ذاتيا، أو بمعنى آخر : تسليف مال من أجل جني مال أكثر) إلا من خلال مشاركته في الإنتاج. وأرباحه (التي تمثلها الفائدة) ليست سوى اقتطاع من فائض القيمة المستخلص من دائرة الإنتاج.
لهذا فعندما نتحدث عن رأسمال صناعي ورأسمال بنكي، فإننا لا نتحدث عن جسمين منفصلين أحدهما عن الآخر، بل عن الرأسمال الاجتماعي ككل. وليس الرأسمال الصناعي والبنكي، والتجاري... سوى أقسام من هذا الرأسمال الاجتماعي. لذلك فلا معنى للقول بأن هناك مرحلة محددة في الرأسمالية "يندمج" فيها الرأسمال الصناعي والرأسمال البنكي. بمثل ما لا نستطيع الحديث عن انفصال أو اندماج الرأسمال المنتج والرأسمال التجاري. فكلاهما يمثل مرحلة من مراحل دورة تراكم رأس المال. فالرأسمال الصناعي والرأسمال التجاري (والأمر نفسه بالنسبة للرأسمال البنكي) حتى وإن كانا ملكية حقوقية بيد رأسمالي واحد، فإنهما يلعبان دورين مختلفين وكأنهما ملكية حقوقية لرأسماليين اثنين. وهما يلعبان في نفس الوقت الدور نفسه، بصفتهما رأسمال، حتى وإن قاما بأدوار متباينة، أو بالأحرى متكاملة.
أما تغيير الملكية الحقوقية للرأسمال من يد الرأسمالي المنتج (المتصرف المباشر في عملية الإنتاج) إلى يد الرأسمالي التاجر أو البنكي... فإنه لا يغير من طبيعة الرأسمال، ولا ينهي انقسامه إلى رأسمال منتج فرأسمال تاجر فرأسمال بنكي حتى وإن كانت كل هذه الأقسام من الرأسمال "مندمجة" في يد واحدة. وهذا التغيير لا يمس الآليات التاريخية لاشتغال الرأسمال. أي أن هذا التغيير في الملكية الحقوقية للرأسمال لا يخلق رأسمالية جديدة مثلما يقول لينين.
وهذا ما يجعل القول بأن الامبريالية مرحلة جديدة (أي أن الرأسمال سيخضع لقوانين أخرى غير قوانينه التاريخية المميزة) لأن ملكية الرأسمال قد غيرت شكلها الحقوقي هو مجرد سخافة اقتصادية. لكن هذه السخافة بالذات قد مثلت المبرر الإيديولوجي لكل النزعات الإصلاحية التي تضع سبب الأزمات والإختلالات والفوضى الإنتاجية المتفاقمة للرأسمالية في وجود هذا الصنف أو ذاك من الرأسمال. فنجدها وبقدر شراسة خطابها ضد الرأسمال المالي، و"الطغمة المالية" والمضاربين و"الاقتصاد الريعي"....الخ فإنها تمجد "الرأسمال المنتج"، والرأسمال "الوطني"، وتقيم ثنائية وهمية بين "الإنتاج الحقيقي" و"الخدمات"، وبين تجارة الأسهم وتجارة البضائع، وبين الربح وبين الفائدة الربوية...الخ، وكأن الرأسمالية يمكن لها أن توجد بدون الإنتاج "الحقيقي" والمضاربة عليه، أو بدون البضاعة والخدمات المصاحبة لها من الإشهار إلى السياحة والفندقة، أو بدون المال كوسيط في التبادل وبين صنمية البضاعة وتأليه سلطة المال كتتويج لتلك الصنمية.... إنه الحلم الأسطوري بوجود الرأسمالية بدون تناقضاتها الملازمة.
لكن تناقضات الرأسمالية تظهر للاقتصاديين، بما في ذلك الماركسيين عموما، بمظهر اللوائح الاقتصادية المنفصلة بعضها عن بعض، والتي يمثل قسم منها لوائح إيجابية يجب الاحتفاظ بها وتطويرها، ويمثل القسم الآخر لوائح سلبية يجب التخلص منها وإزاحتها لنحصل على نظام متناسق بلا أزمات ولا فوضى. أما الرأسمالية في واقع الأمر فإنها أسلوب إنتاجي متناقض، عناصره "الإيجابية" تنتج العناصر "السلبية"، وهذه الأخيرة تمثل شرط وجود الأولى. إنه نظام يسير في حركة متناقضة، ولا يمكن إنهاء تناقضاته بوهم إنهاء عنصر من عناصره، بل باستبداله بأسلوب إنتاجي جديد، حيث يسيطر المنتجون على إنتاجهم ويديرونه بغاية تلبية حاجاتهم الفعلية، المتضامنة والمتوازنة.