من زاوية اخرى (الجزء الثاني)


جاسم ألصفار
2014 / 9 / 20 - 11:10     

في الوقت الذي تطور فيه الفكر السياسي الاشتراكي في أوروبا الغربية، نهاية القرن التاسع عشر - بداية القرن العشرين، في سياق جديد، يضع امام الحركة العمالية والبروليتاريا بصورة عامة، مهام تتواكب وحركة التاريخ، فان التطور الفكري السياسي الاشتراكي في شرق اوربا، وخاصة في روسيا، اخذ منحى اخر تغلب فيه الافكار الماركسية المتشددة. وقد اختزل الزعيم البارز للاشتراكيين الديمقراطيين الروس، فلاديمير اليج اوليانوف - لينين (1870-1924) منابع الفكر الاشتراكي الحديث بكتابات ماركس وانجلس ووضع في نفس الوقت تصوره لتنفيذ تلك الافكار في ظروف روسيا الشبه اسيوية والمتعددة القوميات والحضارات، معتمدا على مجموعة من الاحكام للعقيدة السياسية الماركسية. اهمها:
- التركيز كما عند ماركس، على الاهمية المركزية للصراع الطبقي في العقيدة السياسية الاشتراكية؛
- بفضل لينين تحولت الماركسية من فكر الى ايديولوجيا؛
- على خلاف ماركس وانجلز اللذين اعتقدا بان الثورة الاشتراكية يجب ان تندلع في الدول الاوربية المتطورة في وقت واحد، فقد وضع لينين تصورا لانتصار الثورة الاشتراكية في بلد واحد؛
- صمم لينين ونفذ في الواقع مفهوما جديدا للحزب السياسي الطليعي - حزب الثوريين المحترفين، الذي يهدف بشكل واضح إلى الاستيلاء على السلطة السياسية؛
- وضع لينين تصورا اكثر تفصيلا للمفهوم الماركسي لدولة دكتاتورية البروليتاريا؛
- اولى فلاديمير لينين اهتماما كبيرا لحل المسألة القومية، واضعا حق تقرير المصير اساسا للحل في بلد متعدد الجنسيات (على ان الفهم اللينيني للمسألة القومية من حيث الواقع فقد اهميته في ظل ادارة الدولة السوفيتية المركزية).
أصبحت هذه العناصر الأساسية للعقيدة السياسية اللينينية قاعدة للتحولات الاجتماعية والسياسية منذ انتصار الثورة البلشفية في روسيا عام 1917، واستمرت لأكثر من 70 عاما، مع انها اخذت مضامينا اكثر تشددا في عهد ستالين.
وبغض النظر عن الطريقة التي طبقت فيها هذه العناصر العقائدية فان السمات المميزة للحياة السياسية في الدولة السوفيتية التي تمخضت عنها الثورة البلشفية كانت تركيز كل السلطات بيد الحزب الطليعي الذي اصبح تدريجيا جزء من الماكنة البيروقراطية للدولة، المتحكمة بكل مجالات الحياة الاجتماعية. وقد تعزز مفهوم " وحدة الحزب والدولة " في خضم مسار قمعي بدأته الدولة السوفيتية وحزبها الطليعي بما اطلق عليه وقتها "الارهاب الثوري" او الإرهاب ضد "أعداء الثورة" الحقيقيين والمصطنعين. وقد اتسع نطاق ارهاب واضطهاد الدولة ليشمل مختلف شرائح المجتمع على أساس الانحدار الطبقي (طبقة النبلاء ورجال الأعمال والتجار، ورجال الدين والمثقفين، الخ). وأصبح العنف المنظم وسيلة رئيسية لحل الخلافات السياسية بدايةً، ثم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وقد دعا لينين علنا الى استخدام العنف والإرهاب الشامل بعد انتصار ثورة أكتوبر مباشرةً، مبررا موقفه بضرورات ترسيخ بناء الدولة الاشتراكية وشل مقاومة الطبقات المعادية.
ولم تدم المرحلة اللينينية التي انتهت بادلجة الماركسية سوى سنوات معدودة استمرت حتى نهاية عشرينات القرن الماضي لتحل محلها الحقبة الستالينية التي طغت فيها افكار القائد السوفيتي يوسف ستالين بصورة صارمة على تفاصيل العقيدة الماركسية، لتكون الستالينية بالتالي وحدها "العقيدة الصحيحة" المتسمة بتحويل الفكر الماركسي الى "ايمان ديني"، مانحة نفسها الحق الحصري في الحقيقة، ومعتبرة اية افكار تطويرية، ارتداد وتحريفية. اما العنف الذي رافق الثورة وفترة الحرب الاهلية والذي جرى تبريره بالظروف الاستثنائية التي رافقت الثورة والحرب الأهلية، فأصبح في الحقبة الستالينية وسيلة منهجية وشمولية لتحقيق الأهداف السياسية والاجتماعية. واستخدمت الستالينية اقصى ما يمكن، هوس الثوريون الروس بالمبادئ، واستعدادهم للتضحية لأجلها بكل شيء، ابتداءً بالثقافة وانتهاءً بحياة الناس.
ومع تثبيت عرى الارهاب والاستهتار بالقانون، تحول الحزب الى جهاز للملاحقة ونشر الرعب الاجتماعي لدعم النظام الدكتاتوري الستاليني. وباسم حماية مصالح الطبقة العاملة جرى تشييد نظام قائم على الدكتاتورية والبيروقراطية. وقد لقى النموذج الستاليني للبناء الاشتراكي صداه في بلدان ما دعي بالمعسكر الاشتراكي وعند الاحزاب الشيوعية الموالية لذلك النموذج. فاصبح القمع وملاحقة المعارضين والمخالفين فكريا او سياسيا سمة من سمات تلك الانظمة "الاشتراكية" والاحزاب التي سارت على نهجها.
واخيرا، فقد اكدت الاحداث التاريخية، بما فيها انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الدولية التي اعتمدت نموذجه الاشتراكي، ان لا سبيل لتطور الفكر الاشتراكي الماركسي دون مراجعة نقدية لمنابع الفكر الاشتراكي على امتداد كل الحقبة التاريخية، منذ الاممية الثانية وحتى يومنا هذا. والتخلي عن فكرة الانموذج العالمي في التحول صوب الاشتراكية، والانطلاق من دراسة الظروف المحلية لتحديد سبل النضال وادواته، على ان تكون ركيزة أي فكر اشتراكي هي سعادة الانسان وحريته في اطار مجتمع متطور تتراكم فيه عناصر التحضر والرفاه الاقتصادي.


الدكتور جاسم الصفار
بغداد 20/09/2014