اليسار المصرى..الجذور..الواقع..الآفاق (2)


رياض حسن محرم
2014 / 9 / 20 - 00:13     

"الثورة ليست مسرحية من فصل واحد" برتولت بريخت
(الحلقة الشيوعية الثانية) 1939- 1965
تعد من أهم وأطول الحلقات وأكثرها عمقا وتماس مع النظرية "وإن لم تنجح فى تمصير الماركسية"، كما أن هذه الحلقة حظيت بالقدر الأكبر من أقلام المؤرخين والشهادات الشخصية والوثائق التاريخية، على أن ذلك بقدر ما أسهم فى إبراز طابعها النضالى والثورى فقد أسهم أيضا فى تشويهها على أيدى أعدائها وبعض أصدقائها أيضا.
مرّت سنوات طويلة منذ نهاية حزب 1924 وحتى إعادة تأسيس أو وجود تنظيمات شيوعية مستقلة فى بداية الأربعينات، ولم تسجل مشاركة أعضاء من الحلقة الأولى سوى إسمين فقط هما عبد الفتاح القاضى وشعبان حافظ الذى توفى فى معتقل المحاريق بالواحات فى 1963.
بدأ العمل اليسارى فى تلك المرحلة بالاشتراك فى تأسيس "الرابطة السلمية" التى شكلها "جاكو ديكومب" فى 1934 المنبثقة عن مؤتمر "أمستردام" مع فوز هتلر والحزب النازى فى الانتخابات الألمانية، ثم تحولت فيما بعد الى "رابطة أنصار السلام" وضمت بين صفوفها العديد من اليهود المصريين والمتمصرين " لخوفهم من عداء النازيين لليهود والعمل على إبادتهم"، وبعض قيادت حزب الوفد وشخصيات نسائية أرستقراطية ولم يتحمس لها قطاع واسع من المثقفين المصريين لإعتقادهم أن العدو الرئيسى لمصر هو الإحتلال الإنجليزى، وبسبب من رفض دى كومب لموقف يسارى واضح للرابطة وغلبة الهاجس الأمنى عنده إنسحب عدد من اليساريين اليهود ممن تبنوا الفكر الماركسى وبادروا بتكوين "الإتحاد الديموقراطى" الذى سرعان ما تفكك فشرعوا أفرادا بتشكيل أول التنظيمات الشيوعية نذكرهم على النحو التالى:
1- منظمة تحرير الشعب "1939" أسسها مارسيل إسرائيل بالمشاركة مع أسعد حليم وفوزى جرجس والمخرج السينمائى صلاح أبو سيف وعبد الرحمن الشرقاوى وسعيد خيال وابراهيم سعد الدين وآخرين، وأصدرت صحيفة "تحرير الشعب"
2- الحركة المصرية للتحرر الوطنى "حمتّو" 1943 وأسسها "هنرى كورييل" بمشاركة سيد سليمان رفاعى ومحمد شطا ومبارك عبده فضل ومحمد الجندى وآخرين.
3- منظمة "أيسكرا" وتعنى الشرارة وأسسها "هليل شوارتز" 1943 بمشاركة شهدى عطية شافعى وعبد المعبود الجبيلى ومحمد سيد أحمد وانجى أفلاطون وآخرين.
4- كما ظهرت فى نفس التاريخ تقريبا مجموعة مصرية ارتبط اسمها بإسم الحى الذى نشأت فيه "منظمة القلعة" التى أسسها مصطفى هيكل ومعه أحمد الرفاعى وأحمد حمروش وحمدى عبد الجواد وعبد العزيز بيومى وآخرين.
ورغم الضجة التى أثيرت حول دور اليهود من خندق أعداء الفكر الماركسى وبين الشيوعيين أنفسهم فلم يتعدى هذا الدور الاّ حوالى عقد من السنين لعب فيه اليهود أدوارا نضالية ونظرية هامة وإصرار معظمهم على ضم مصريين من المسلمين والمسيحيين الى العمل الثورى بدءا من تكوين "هنرى كورييل" لمدرسة كادر بعزبة والده فى المنصورية ووصل الأمر الى انشقاق شخصيات قيادية مثل "مارسيل اسرائيل" لإصراره على تمصير الحركة الشيوعية، على أن هذا الدور لم يكن ملفوظا من المجتمع المصرى وقتها فقد ظل "دافيد ناحوم" أهم قيادة نقابية مصرية وسافر الى فرنسا فى 1952 عضوا فى وفد "اتحاد نقابات القطرالمصرى"، ولعب الشيوعيين اليهود دورا رئيسيا فى كشف أهداف الحركة الصهيونية وشكلوا "الرايطة اليهودية للنضال ضد الصهيونية"، وقد لعبت الأحداث العامة (حرب 1948 وفضيحة لافون والعدوان الثلاثى) الدور الأكبر فى تقليص دورهم بسبب الإبعاد والنفى من جهة وتصاعد الحساسيات داخل الحركة من جهة أخرى.
لعل من أهم المشكلات التى واجهت الحركة الشيوعية "خاصة الحلقة الثانية" أن الأفكار الماركسية جاءت الى مصرفى طبعتها الستالينية وذلك عن طريق ترجمة لشروح مبسّطة لكراسات مدرسية حول المادية التاريخية لستالين وبوخارين مع ترجمات لأعمال لينين الرئيسية بالإضافة لمؤلفات كارل ماركس التى كانت تعتبر من المصادر الثانوية فى الغالب، ولعبت الترجمة الدور الرئيسى فى التعريف بالماركسية ولم تلعب الإضافات المحلية الاّ دورا محدودا، وحتى فإن معظم تلك الإضافات كانت على النسق الأوروبى ونقل مفاهيم تحمل ذات الطابع لتطبيقها على الواقع المصرى، ونشط الماركسيين المصريين فى تلقين وحفظ هذه النصوص بل والبحث عن حلول لمشكلات الواقع بالرجوع كثيرا لمواقف مشابهه حدثت فى ظروف ومجتمعات مختلفة وتكرر الرجوع الى "لينين" كلما واجهوا إحدى هذه المشاكل فكانوا يسرعون للبحث عن حل فى "ما العمل" أو "خطوة أو خطوتان" أو "موضوعات نيسان" و "الدولة والثورة" بدلا من محاولة إيجاد حلول من الواقع المعاش، لذا لم يستطيع الشيوعيين تمصير الماركسية بعكس ماتم فى روسيا أو الصين مثلا من استيعابها وهضمها وخلق أنماط ذات طابع محلى مندمجة مع الواقع مثل تجربة السوفيتات فى روسيا أو الديموقراطية الجديدة فى الصين أو حتى التسيير الذاتى فى يوغوسلافيا، بل بالغ البعض فى إستظهار هذه النصوص كدليل على التميز عن الآخرين، وحرص البعض فى النقل والترجمة لمتون على هامش الماركسية ساهمت فى تشتيت الكثيرين، وأغرق البعض فى تحرّى خلافات تاريخية بنت أوقاتها كالخلاف بين البلاشفة والمناشفة والصراع بين ستالين وتروتسكى دون أن يشكل هذا الإهتمام إضافة ذات معنى للواقع المصرى.
غلّب قطاع واسع من الشيوعيين العمل السياسى المباشر بنظرية سابقة التجهيز على بذل الجهد النظرى لتطوير الماركسية لتلائم الواقع المصرى، واهتموا أكثر بالجدل بين بعضهم البعض عوضا عن الرد على خصومهم الإيديولوجيين خارجهم "وما أكثرهم"، بل الأنكى أن بعضهم حاول أن ينزع عن الآخر أنه يعبّر عن فكره الحقيقى " كأصحاب التيار الدينى" والمزايدة عليهم ومحاولة البرهنة على أن افكارهم لا تمثل صحيح الدين الذى يحمل أفكارا تقدمية لا تتعارض مع الاشتراكية والماركسية واهمين أن باستطاعطتهم تصحيح مفاهيمهم، ولكنهم بذلك لم يستطيعوا اكتساب الجمهور أو تغيير مناوئيهم.
بعد الموجة الأولى من تعدد التنظيمات الشيوعية التى يرصد بعض المؤرخين أنها زادت عن 35 منظمة كان طبيعيا أن تتجه تلك التنظيمات للوحدة منذ نهاية الأربعينات فتم إتحاد منظمتى "حمتو" و"أيسكرا" عام 1949 مكونة الحركة الديموقراطية للتحرر الوطنى "حدتو" وأصدرت جريدة شبه علنية هى "الجماهير" التى رأس تحريرها شهدى عطية، بينما رفض تنظيم الديموقراطية الشعبية "د.ش" المشاركة فى تلك الوحدة وفضّلت التحالف مع الجناح اليسارى لحزب الوفد، ومع استمرار محاولات الوحدة صاحب ذلك استمرار التكلات والإنشقاقات التى نالت منها حدتو باعتبارها الجسم الأكبر الكثير، وبظهور ما يعرف تاريخيا باسم "الحزب الشيوعى المصرى (الراية)" عام 1949 من عناصر عائد معظمها من فرنسا وعلى علاقة وثيقة بالحزب الشيوعى الفرنسى وقام بتأسيسه الدكتور فؤاد مرسى ولحقه فيما بعد الدكتور اسماعيل صبرى عبدالله وسمير أمين وسعد زهران وآخرين، وما إن ظهر هذا الحزب حتى شكّل قطبا مهما فى الحركة الشيوعية حتى نهايتها فى 1965 واستمر يناطح حركة حدتو بقوة، واهتم حزب الراية منذ نشأته بالجوانب النظرية بشكل خاص وأصدر أكثر من تحليل عن طبيعة الرأسمالية المصرية وأوضاع الزراعة وإن شاب برنامجه تجاوز يسارى منها دعوته لإقامة نقابات سرية فى مواجهة النقابات العلنية وطرحه لتطبيق الزواج المدنى وغيرها وشعاره " لا شيوعية خارج الحزب"، واهتم أيضا بانشاء عدد من النشرات منها ماهو موجه للجمهور مثل نشرة "راية الشعب" و "الحركة العمالية" للعمال و "الفلاح" للريف و "الثقافة الجديدة" للمثقفين و "النصر" للقوات المسلحة وكذلك نشرة للحوار الداخلى باسم "الحقيقة"، وتحت ضغط الشيوعيين من داخل الحركة وخارجها ( نشأ عدد من المنظمات الصغيرة حول هدف واحد هو وحدة الحركة الشيوعية مثل "و.ش" وحدة الشيوعيين و"نحشم" نحو حزب شيوعى مصرى وغيرها.) إستجاب التنظيمين الكبيرين حدتو والراية لهذا الضغط وأعلنوا عن توحدهم عام 1975 فى الحزب الشيوعى المصرى ولحق بهم حزب العمال والفلاحين "ف.ع" فى 8 يناير 1958 ليتم قيام الحزب الشيوعة المصرى الموحد.
لقد حققت الحلقة الثانية انجازات هامة فى قيادة نضال الطبقة العاملة وفى وحدتها فى إطار اتحاد لنقابات العمال وفى تحريك واسع للطلاب بلغ ذروته فى تشكيل "اللجنة الوطنية العليا للعمال والطلبة" فى 1946 والمشاركة فى صد العدوان الثلاثى فى 1956 و جاء صدام جمال عبد الناصر معهم سريعا وبلغ ذروته بعد الآعلان عن الحزب الشيوعى الموحد الذى أشعل حفيظة عبد الناصر بالإضافة الى موقف الشيوعيين من الاتحاد القومى واستمرار العزل السياسى لهم ثم الوحدة السورية فى فبراير 58 ونقدهم لها (خصوصا بعد قرار عبد الناصر بحل الأحزاب فى سوريا ومن بينها الحزب الشيوعى) ثم ما تلا ذلك من ثورة يوليو/تموز بالعراق وتحالف عبد الكريم قاسم مع الشيوعيين ورفضه الوحدة الإندماجية على غرار سوريا والصدام الإعلامى بين الرجلين مما عجل بتوجيه عبد الناصر ضربة شديدة القسوة للشيوعيين بدأت فى أول يناير 1959 ليستمر حبسهم بسجن الواحات حتى عام 1964 وبعد الإفراج عنهم ( يذكر الكاتب الشيوعى محمد سيد أحمد أن الافراج تم فى اطار صفقة بين عبد الناصر وخورتشيف وقيادات الحركة تضمنت حل الحزب الشيوعى)، لتنتهى بذلك مرحلة فى إنتظار نهوض طائر الفينيق ثالثة من بين الرماد.