من زاوية اخرى (الجزء الاول)


جاسم ألصفار
2014 / 9 / 19 - 11:58     

من زاوية اخرى
(الجزء الاول)

في اواسط القرن التاسع عشر. تطورت النظرية الماركسية، كفكر مناهض، للفكر الليبرالي السائد آنذاك. ومنذ بزوغها، ربط مؤسسوها - كارل ماركس (1818-1888) وفريدريك إنجلز (1820-1895) – تعاليمهم بمصالح الطبقة العاملة - الأكثر حرمانا في النظام الرأسمالي، واجدين فيها قوة حقيقية قادرة على ترجمة مبادئ الاشتراكيين الطوباويين إلى واقع، بتغيير البناء الاقتصادي الاجتماعي من خلال إلغاء الملكية الخاصة وتشييد مجتمع العدالة الاجتماعية والحرية الحقيقية.
شملت العقيدة الاشتراكية الماركسية عددا من الأفكار السياسية لضمان إعادة بناء المجتمع. اهمها:
- هيمنة الصراع الطبقي كقوة محركة للتطور التاريخي للمجتمعات، في جميع التشكيلات الاجتماعية - الاقتصادية الطبقية المتناحرة؛ وان الدولة، حسب تصور الماركسيين الاوائل، نتاج للعلاقات الطبقية، تخدم بالأساس مصالح الطبقة المسيطرة اقتصاديا؛
- مهمة البروليتاريا - تنفيذ انقلاب في نمط الإنتاج الرأسمالي، والقضاء على الاستغلال الطبقي. وفي انجاز هذه المهمة يتجسد الدور التاريخي الاممي للطبقة العاملة؛
- ضرورة اندلاع ثورة سياسية تحقق مهمة الطبقة العاملة وتنجز رسالتها كحفار قبر الرأسمالية؛
- لتنظيم الطبقة العاملة وحشد قواها في النضال السياسي من أجل السلطة وبناء مجتمع قائم على المثل الشيوعية، من الضروري إنشاء حزبا بروليتاريا من نوع جديد، لا يساوم على مصالح الطبقة العاملة؛
- الفكرة المركزية في النظرية السياسية الماركسية - فكرة ديكتاتورية البروليتاريا كأداة لبناء أسس الاشتراكية في فترة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية. ويكمن جوهر ديكتاتورية البروليتاريا في وحدة مهام واهداف السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية؛
- لقيادة البروليتاريا إلى الهدف، يجب على الحزب ممارسة صراع إيديولوجي عنيد وشرس ضد الأعداء الطبقيين، الظاهرين منهم والمتسترين؛
كان لأفكار الماركسية تأثيرا عميقا على تطور الافكار الاجتماعية – السياسية في ذلك الوقت، وخاصة الأوروبية. على انها مع ذلك، لم تصبح أساسا للعلوم السياسية الحديثة. فإعادة التفكير في المفاهيم السياسية الماركسية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وخاصة الممارسة الاشتراكية البلشفية في روسيا، اظهرت نقاط ضعفها المتمثلة بالمبالغة المطلقة في دور الطبقة العاملة وإهمال الطبقات الأخرى؛ المبالغة في استخدام العنف الثوري - الدموي لفرض الإصلاحات الاجتماعية والسياسية؛ المبالغة بدور العوامل الاقتصادية واهمال التطور الاجتماعي - السياسي؛ رفض تقبل فكرة وجود المعارضة السياسية او الفكرية؛ انكار امكانية حصول تحولات تاريخية في صلب النظام الرأسمالي تجعله قادرا على التطور والتغير، تفرض على الماركسيين تجديد وتطوير طروحاتهم الفكرية .... الخ.
وفي أواخر القرن التاسع عشر ظهرت أفكار سياسية تحمل تعديلات في النظرية الماركسية تقلل من اهمية استخدام العنف لإنجاز الثورة البروليتارية وتتبنى بدلا عن ذلك مسار إصلاحي سلمي للتطور الاقتصادي الاجتماعي صوب الاشتراكية. وقد بدأت افكار الاصلاح بالظهور أثناء حياة كارل ماركس وفريدريك انجلز. ففي عام 1879، نشر قادة الاشتراكية الديموقراطية الألمانية خيخبرج وبيرنشتاين مقالة بعنوان "استعراض بأثر رجعي للحركة الاشتراكية الديمقراطية في ألمانيا." تضمنت اقتراح بالتخلي عن الطابع العمالي المتزمت للحزب، وعن أساليب النضال العنفي، لما لهذه الافكار من اثر سلبي على نشاط الحزب وسط الطبقات الاجتماعية الاخرى، كما جاء في المقالة.
وحال نشر هذه الافكار، سارع الماركسيون المتشددون في تصنيفها على انها "مرتدة" و "انتهازية". الا ان ذلك لم يمنع المفكر الاشتراكي بيرنشتاين (1850-1932)، من نشر كتابه " ممهدات الاشتراكية ومهام الاشتراكيين الديمقراطيين " ، أعرب فيه عن اعتقاده بأنه في الظروف المستجدة في أواخر القرن التاسع عشر، تصبح صيغ النضال الاقتصادي للطبقة العاملة بقيادة الحركة النقابية بوضعها القانوني، اضافة الى النضال عبر مؤسسات الدولة الاخرى كمجالس النواب، مدعومة بالفعاليات الشعبية الجماهيرية، اكثر كفاءة من اجل وقف إفقار البروليتاريا، والتخفيف من التناقض بين العمل ورأس المال. وقد توافقت هذه الافكار مع اراء الشخصية البارزة في الاممية الثانية، كارل كاوتسكي (1854-1938)، على الرغم من أنه كان في البداية قد انتقد بعض افكار برنشتاين. وفي مناظرة شهيرة مع لينين، شدد كارل كاوتسكي، على الوظائف الإيجابية لمؤسسة الدولة ككيان لتنظيم آليات عمل المنظومة الاقتصادية - الاجتماعية وضمان السلم الأهلي على أساس التوافق السياسي الديمقراطي. وبسبب آرائه تلك، وقبل كل شيء دعوته للتخلي عن "الديكتاتورية الثورية (ألعنفية) للبروليتاريا"، فقد وصفت افكار كاوتسكي بأنها "مارقة". وتبعا لذلك، فقد حرم القارئ السوفيتي لاكثر من 70 عاما، من الاطلاع على الافكار الاشتراكية الخلاقة للعديد من المفكرين الاشتراكيين الديمقراطيين، وخاصة المفكر السياسي الماركسي كارل كاوتسكي، بحجة عدم توافقها مع الفكر الرسمي للدولة السوفيتية.
على ان الاشتراكية الديمقراطية الحديثة، الوليدة من رحم الماركسية، تمكنت من تجاوز دوغمائية الماركسيين المتشددين، واستعاضت عن تصورهم بان استيلاء الطبقة العاملة على السلطة واقامة دكتاتوريتها هو الأساس والضامن الوحيد للتحولات الثورية في المجتمع، بفكرة تعزيز الديمقراطية السياسية كشكل عام وشامل للتغيير الاشتراكي، والسعي لإجراء تغييرات في صلب النظام الاقتصادي - الاجتماعي القائم على اساس قوانين السوق الحرة لصالح العاملين لقاء اجر من شغيلة الفكر واليد، والدفاع عن فكرة السلام الاجتماعي، متخلين بذلك عن فكرة تأجيج الصراع الطبقي للاستيلاء على السلطة واقامة نظام دكتاتوري باسم الطبقة العاملة. أما بالنسبة لفكرة الاشتراكية، فالاشتراكيون الديمقراطيون، يرون فيها مبدأ اخلاقيا ملزما للمجتمع لتحقيق العدالة الاجتماعية اليوم، دون انتظار الغد. ويضعون التطور السلمي والتنضيج التدريجي للتحولات الاقتصادية الاجتماعية، اساسا لبلوغ مجتمع الرفاه الاقتصادي والحريات الفردية والاجتماعية. المجتمع الذي يضمن حرية وسعادة جميع افراده هو ذلك المجتمع الذي يسعى اليه الاشتراكيون الديمقراطيون والذي لن يتحقق دون تطور مادي وروحي للمجتمع. هذا ما ذهب اليه اغلب مفكري الاشتراكية وسعى اليه المع رجال السياسة الاشتراكيون في القرن المنصرم.